بازگشت

حتمية الفتح


وهذه هي الحتميّة الثانية من حتميّات و ثوابت الثورة التي يقودها الحسين (ع)، والإمام (ع) يقرّر هنا هذه الثابتة الثانية ، بنفس الدرجة من الجزم الذي يقرّر به الثابتة الاُولي ، وهي مفهوم الجملة الثانية «ومَن لم يلحق بي لم يدرك الفتح ».

و لهذه الجملة منطوق و هو واضح مفهوم ؛ وهو إن ّ من لحق به ادرك الفتح ، و لا يقل ّ المفهوم في الوضوح عن المنطوق .

والإمام (ع) يقرّر هذه الحقيقة قبل ان يغادر الحجاز إلي العراق ، و قلّما يتفق ان ّ قائداً يجزم بالنصر قبل دخول المعركة ، إلاّ مجازفة في القول ، اودعماً و تثبيتاً لنفوس المقاتلين .

والحسين (ع) ليس ممّن يطلق القول مجازفة بالتاكيد، وليس بصدددعم وتثبيت قلوب الناس لما يؤول اليه آخر القتال ؛ لان ّ الإمام (ع) يدعو الناس في حركته هذه إلي الموت علانيّة وصراحة ، وهذه الدعوة الصريحة لا تنسجم مع التوّجه الإعلامي و النفسي إلي دعم و تثبيت نفوس الناس إلي نتائج الحركة في المعركة .

تري ما هو الضمان الاكيد الذي يملكه الإمام (ع) في هذا الشان ؟ وتري ما هو معني الفتح في القاموس السياسي عند الإمام (ع)؟

إن ّ الإمام (ع) لا يريد بالفتح هنا الفتح العسكري الميداني ، ولا يمكن ان يريد به هذا المعني الذي يطلبه القادة العسكريون في حروبهم . ولسنانشك ّ في هذه الحقيقة ، ولسنا نطلق هذا الكلام جزافاً و اعتباطاً. فقد كان الإمام (ع) اخبر بالحالة السياسية في العراق من ان يتوقّع فتحاً عسكرياً اويغترّ بالناس .

إذن الإمام (ع) يريد بالفتح معني آخر، اقرب إلي المفاهيم الحضاريّة منه إلي المفاهيم العسكرية . إن ّ الإمام (ع) يجد ان بني اُمية قد عملوا علي استعادة الجاهلية إلي الإسلام بافكارها وقيمها، و حتّي المواقع السياسية و الاجتماعية التي حرّرها الإسلام من نفوذ الجاهلية ، استعادها بنو اُمية إلي دائرة نفوذهم من جديد، واحتلوا مواقع السلطة و النفوذ و المال في المجتمع الإسلامي الجديد، كما كان يحتل سلفهم هذه المواقع في المجتمع الجاهلي الصغير في مكة من قبل ، دون ان يكون قد حدث تغييرجوهري في مواقفهم و افكارهم عما كانوا عليه في الجاهلية من قبل . إلاّ ان ّمواقعهم يومئذ في الجاهلية كانت محدودة و ضعيفة و هزيلة و معزولة في قلب الصحراء، واليوم اصبحت هذه المواقع بفضل الإسلام تحكم الساحة المعمورة من الارض ، و تخضع لها اقاليم واسعة من الارض كانت تحكمها الامبراطوريتان الرومية و الفارسية من قبل .

وقد تحوّلت هذه المواقع اليوم بكل نفوذها إلي ايدي بني اُمية دون ان يكون قد حصل تغيير جوهري في افكار بني اُمية و مواقفهم .

وهذه هي النفثة التي يلقيها الحسين (ع) يوم عاشوراء علي الناس قبل بدء القتال :

«سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم ، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها علي عدوّنا و عدوّكم ، فاصبحتم إلباً لاعدائكم علي اوليائكم ، من غير عدل افشوه فيكم ، ولا امل اصبح لكم فيهم ».

لقد كانت الشام يومئذٍ المركز السياسي الاوّل في العالم المعمور،تبسط نفوذها علي مساحات واسعة من المعمورة ، وتهابها الدنيا، وهذه القوة و السيادة والنفوذ، استحدثها الإسلام للعرب ، ولم يكن للعرب من قبل عهد بمثل هذا النفوذ و السلطان الواسع ، وقد اقام الإسلام هذه القوة علي وجه الارض لإقامة التوحيد و العدل ، و للقضاء علي المستكبرين واعداء البشرية ، و للاسف ان تتحول هذه القوة والنفوذ اليوم إلي اقطاب الجاهلية العربية من جديد، بعد ان حرّرها الإسلام منهم ، و يستعيد بنو اُمية سلطانهم علي هذه المواقع ، دون ان يحدث تغيير جوهري في افكارهم و مواقفهم وترفهم و سيطرتهم و عدوانهم و قهرهم و استكبارهم علي الناس و الحسين (ع) يعبّر عن هذه القوة التي استحدثها الإسلام وحمّلهاالعرب بـ (السيف )، فيقول بكل اسف و حسرة : إن ّ رسول الله(ص) هو الذي جعل هذه القوة في ايمانكم لتقاتلوا اعداءنا و اعداءكم (ائمة الشرك ) فوضع بنو اُمية ايديهم علي مواقع السلطة في المجتمع الجديد في انقلاب عكس (ردّة )، فبايعهم الناس علي ذلك ، تراجع معهم في هذه الردّة العكسية ، و شهروا سيوفهم في وجه آل محمد: «سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم »، من غير ان يتحول بنو اُمية في هذا الموقع الجديد عن مواقعهم الجاهلية الاخلاقية والسلوكية والحضارية ، واخطر من كل ذلك كلّه انّهم وضعوا ايديهم علي هذا المواقع الخطير من المجتمع الإسلامي الجديد من موقع الشرعية الإسلامية ، خلافة عن رسول الله(ص).

لقد واجه الحسين (ع) كارثة بالمعني الدقيق ، حلّت بهذا الدين ، وبهذه الاُمة .

وكان هم ّ الحسين (ع) في هذه المرحلة الحسّاسة من التاريخ إلغاء الشرعية و سلب الصفة الشرعيّة عن دولة بني اُمية ، و هذا العمل كان اعظم ما قام به الحسين (ع) في هذه الثورة ، و نجح الحسين (ع) في ذلك نجاحاًكاملاً، و قد دام حكم بني اُمية بعد الحسين (ع) زمناً طويلاً، غير ان ّ بني اُمية لم يعدلهم في نظر المسلمين بعد وقعة الطف موقع الشرعية الدينية في الحكم ، بعنوان خلافة رسول الله(ص) و إمرة المؤمنين ، و إن كانوا يسمّون انفسهم بهذا او ذاك ، و كانوا في نظر عامّة المسلمين حكّاماً زمنيين ملكوا الحكم عنوة ، و«بالعنف »، ولم يكن لهم شان مثل شان الخلفاء من قبلهم إلي ولاية الإمام الحسن (ع) بعد ابيه (ع)، ولم ياخذ الناس عنهم دينهم كما كانوا ياخذون عن الخلفاء من قبلهم . ولم تعد لموقع الخلافة القدسيّة التي كانت لها قبل وقعة عاشوراء.

و الرسالة الثانية لثورة الحسين (ع) إعادة روح الجهاد و المسؤولية و المقاومة إلي الناس ، لقد سلب بنو اُمية فيما سلبوا إرادة الناس ، فاصبح الناس ، تبعاً لآل اُمية ، لا راي لهم ، ولا عزم لهم ، ولست ادري ماذا فعل بنواُمية ، خلال السنوات التي حكم فيها معاوية بن ابي سفيان وابنه يزيد بن معاوية ؟ حتّي احضر عبدالله بن زياد راس الحسين (ع) ابن بنت رسول الله في مجلس عام في قصره ، قد اذن للناس فيه فينكث شفتي ابن رسول الله بخيزرانة كانت بيده ، فلم ينكر عليه احد غير زيد بن ارقم ؛ الذي كان يحضر عندئذ هذا المجلس ، وعبدالله بن عفيف الذي سمع من ابن زيادكلامه في علي ّ(ع) و الحسين (ع) واهل بيته ، فاغضبه ذلك ، فسب ّ ابن زيادوشتمه علي رؤوس الناس واسخطه واغضبه ، و اهانه .

و لم يذكر المؤرّخون غيرهما مَن اعترض علي ابن زياد.

إن ّ الإرهاب الذي مارسه بنو اُمية ايام حكم معاوية و ابنه يزيد سلب الناس العزم علي اتخاذ الموقف ، و القدرة علي مواجهة الظالمين ، و اُمة تبلغ هذا المبلغ من الضعف لا يرجي منها الخير.

و قد كانت رسالة الحسين (ع) الثانية في ثورته ان يهزّ الضمير الإسلامي هزّة عنيفة ، ويعطيها صدمة قويّة تعيدها إلي وعيها و إرادتها و عزمها و قوّتها، وما اراد الله تعالي لها من الإمامة و الشهادة علي وجه الارض .

إن ّ ما يطلبه الحسين (ع) في هذه الثورة و هو هذا وذاك ، ولن يتم ّ اي ّمنهما إلاّ بدماء غزيرة و عزيزة ، وتضحية ماساوية فريدة بنفسه و اهل بيته و اصحابه .

وليس ما كان يريده (ع) الفتح بالمعني العسكري الذي يقصده القادة العسكريون ... وكان ابعد ما يكون عن طلب مثل هذه الغاية ، واعرف و اخبر بعصره ، و الظروف المحيطة من الذين كانوا ينصحونه بعدم الخروج و ينذرونه بانفراط الناس عنه . إن ّ الذي يتابع مسيرة الحسين (ع) من المدينة الي كربلاء، و من الحجاز الي العراق لا يشك ّ ان الحسين (ع) لم يكن يطلب هذا النوع من الفتح .

و الفتح الذي يشير إليه الإمام في كتابه إلي محمّد بن الحنفيّة و من قبله من بني هاشم هو من نوع آخر شرحناه آنفاً.

والإمام (ع) يجزم بالفتح في حركته هذه ، ويري ان ّ من يخرج معه ينال الفتح لا محالة ، ومَن يتخلّف عنه لا ينال الفتح البتة . تري ما هوالضمان الذي يستند اليه الإمام (ع) في الجزم بالفتح ؟ إن ّ الضمان هو وعدالله تعالي لمن نصره بالنصر والفتح ، والله تعالي لا يخلف وعده .

يقول تعالي : (إِن ْ تَنصُرُوا اللَّه َ يَنصُرْكُم ْ وَ يُثَبِّت ْ أَقْدَامَكُم ْ).

(إن ْ تَنصُرُوا اللَّه َ يَنصُرْكُم ْ وَ يُثَبِّت ْ أَقْدَامَكُم ْ).

(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِين َ آمَنُوا فِي الْحَيَاة ِ الدُّنْيَا).

(وَلَيَنصُرَن َّ اللَّه ُ مَن يَنصُرُه ُ إِن َّ اللَّه َ لَقَوِّي ٌ عَزِيزٌ).

والحركة التي يقدم عليها الحسين (ع) تستجمع كل الشروط التي يطلبها الله تعالي من عباده ليهبهم النصر وهي : الإيمان ، و الإخلاص ،و التقوي ، و الجهاد في سبيل الله.

ولم يشك ّ الحسين (ع) لحظة واحدة ان ّ الله تعالي ينصره في هذه الحركة ، وان ّ النصر لن يُخطئه وهذه هي الحتميّة الثانية في هذه الحركة .