بازگشت

سلب الشرعية من النظام


رغم فداحة الخسائر التي لحقت بالمسلمين و الانحراف و الانحطاط الذي لزمهم في هذه الفترة من حكم بني اُمية ، فقد كان هناك خطر اكبربكثير من كل ذلك يلحق الإسلام مباشرة وليس المسلمين فقط ، و هو ان ينسحب هذا الانحراف علي الإسلام نفسه ، و يتعرض الإسلام لما تعرض له المسلمون من تحريف .

وذلك ان هذا الانحراف كان ينحدر من موقع الخلافة الإسلامية ، التي كانت تمتلك في نفوس المسلمين رصيداً كبيراً من الشرعية و القدسية ،وقد كان بنواُمية يعتمدون كثيراً عنصر الشريعة في موقعهم السياسي و الاجتماعي ، وكانوا يوحون الي الناس بطريق او آخر ان موقع الخلافة اقوي من موقع الرسالة ، فيقول قائلهم : (إن ّ خليفة احدكم افضل من رسول الله).

و كانوا يرون في هذا الموقع اداة ً لتنفيذ طموحاتهم و رغباتهم ، بايسرالطرق ، و اسهلها؛ فلذلك داب معاوية علي تحكيم هذا الموقع الشرعي لنفسه و لابنه يزيد من بعده .

و كان هذا الموقع الشرعي الذي حرص عليه حكّام بني اُمية يكوّن اكبر الاخطار التي تلحق الإسلام من جانب حكومة بني اُمية ، فقد كان الانحراف ينحدر الي الناس من قصور الخلفاء في إطار من الشرعية .

و كان هناك في قصور الخلفاء من يبرّر و يوجّه هذا الانحراف ،و يعطيه الصبغة الشرعية من علماء البلاط ، و بالتالي كان هذا الانحراف ينعكس وينسحب علي الإسلام ، و يفقد الإسلام اصالته و نقاءه علي اوسع صعيد و هو وسط الاُمة .

و قد حرص الإمام (ع) في حركته علي كسر هذا الإطار الشرعي ، الذي كان يحتمي به حكام بني اُمية ، وسلب صفة الشرعية من حكومة بني اُمية ،و تجريدها عن القدسية و الشرعية التي كان يحرص عليها بنواُمية كل الحرص ، و بالتالي تفويت الفرصة علي الحكم الاُموي في تحريف الإسلام .

و قد كان الإمام يجهر بهذه الحقيقة إجهاراً، ويعلن عن رايه في يزيد،و عدم اهليّته للخلافة ، وينال منه كلّما واتته فرصة .

و قد اعلن رايه هذا في يزيد عندما دعاه الوليد بن عتبة للبيعة ،و مروان حاضر، قال (ع) له بعد كلام طويل ، و هو يريد ان يسمع مروان رايه في يزيد و موقفه من البيعة :

«ايّها الامير إنّا اهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة و مختلف الملائكة ، ومهبط الرحمة ، بنا فتح الله، وبنا ختم ، و يزيد رجل فاسق ، شارب خمر، قاتل نفس ، معلن بالفسق ، فمثلي لا يبايع مثله ».

و قد كان لخروج الإمام علي يزيد، و محاربته لجيش ابن زياد بعدرفض البيعة ليزيد، و استشهاده هو و اهل بيته و اصحابه بتلك الصورة المفجعة علي يد جيش الخلافة ؛ كان لذلك كله اثر كبير في اسقاط شرعية الخلافة ، و تجريدها عن الشرعية و القدسية التي كانت الخلافة تتمتع بها.

لقد اثار استشهاد الإمام الحسين ، بالصورة المفجعة التي حدثت في كربلاء مشاعر المسلمين جميعاً، (من الجيل الذي تعقّب جيل القتلة في كربلاء)، و في جيل القتلة علي صعيد واسع ، واستشعروا جسامة الجريمة وبشاعتها في وجدانهم و ضمائرهم ، ونقموا علي يزيد، ومن لحقه من خلفاء بني اُمية الذين خلّفوا يزيد علي السلطان و الحكم . وسقطت القيمة الشرعية للخلافة ، ولم تعد الخلافة تكوّن موقعاً شرعياً، يمتلك رصيداً من الشرعية و القدسية في نفوس المسلمين .

وكيف يمكن ان يتمتع هذا الموقع الرسمي بنفس القدسية و الشرعية و قد تلوّث اصحابه بهذه الجريمة النكراء التي يقل نظيرها في التاريخ ؛ حيث اقدموا علي قتل ابن رسول الله، و سيد شباب اهل الجنة ،و الكوكبة المؤمنة الصالحة من اهل بيته واصحابه المقيمين للصلاة ،و الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟

و لا يمكن ان يشك احد في ان هذه الجريمة التي اقترفها جهاز الخلافة الاُموية في عهد يزيد في العراق تركت اثراً عميقاً في ضمائر المسلمين جميعاً (إن لم يكن في نفس الجيل ، ففي الجيل الذي تعقّب هذاالجيل مباشرة )، واسقطت مكانة الخلافة الاُموية في نفوس المسلمين ،و عادت الخلافة الاُموية موقعاً سلطوياً يمتلكه الاقوي ، كما في سائر المواقع التي يمتلكها اصحاب السلطة في دنيا الناس .

و علاقة الناس بهذا الموقع لم تعد كما كانت علاقة دينية خالصة نابعة من إيمان الناس بشرعية هذا الموقع .

و لذلك فلم يعد للانحرافات التي يرتكبها جهاز الخلافة الاُموية تاثير تحريفي علي الإسلام .

و سلم الإسلام من تحريفات الحكّام بنسبة كبيرة ، و اصبح المسلمون بعد هذا التاريخ يرجعون في اُمور دينهم الي طبقة اُخري غير طبقة الحكّام ، الذين يُرجع إليهم في اُمور دنياهم بحكم الضرورة و الاضطرار.

و من هذا التاريخ بدا يتكوّن في المجتمع خط آخر غير خط الخلافة ،و هو خط الفقهاء و العلماء الذين يضع المسلمون ثقتهم الدينية فيهم ،و بقدر ما كان يبتعد هؤلاء الفقهاء و العلماء عن الحكّام و السلاطين كانت تزداد ثقة المسلمين بهم .

والذي يواكب قراءة التاريخ الإسلامي يجد فارقاً نوعياً واضحاً في موقع الخلافة قبل موقعة الطف وبعدها، وجوهر هذا الفرق هو افتقادالخلافة بعد معركة كربلاء للصيغة الشرعية والإطار الديني الذي كانت تمتلكه من قبل .

وبهذه الطريقة نستطيع ان نفهم كيف ان قيام الإمام الحسن (ع)بالحرب كان يؤدي الي نتائج معاكسة تماماً لما ادّي إليه قيام الإمام الحسين (ع).

فقد ذكرنا ان مواصلة الإمام الحسن للحرب كان يؤدي الي انتصار عسكري ساحق في جيش بني اُمية ، وإثارة نقمة بني اُمية علي شيعة اهل البيت ، و يحملهم علي القيام بتصفية واسعة في صفوف الشيعة و إنهاء البقية الباقية من هذا الخط الإسلامي ، الذي استعصي علي عوامل الانحراف والخضوع لسلطان بني اُمية .

امّا قيام الحسين (ع) فقد كان له اثر معكوس تماماً؛ فقد اثار سخط المسلمين ضد سلطان بني اُمية ودفع الناس للخروج علي سلطان بني اُمية ،و وسّع دائرة المعارضة .

وذلك لاختلاف طبيعة ظروف الإمام الحسن عن الإمام الحسين (ع)،واختلاف نوع وطبيعة قتال الإمام الحسن عن قتال الإمام الحسين .

فقد كان الإمام الحسن في مواجهة عسكرية مع معاوية ، وقد تخلّي عنه اكثر جيشه ، ولم يبق معه إلاّ شيعته الذين كانوا يعدون جزءاً ضئيلاً من جيش العراق ، وكانت نتيجة هذا القتال هزيمة عسكرية ، تتيح الفرصة لمعاوية للقضاء علي البقية الباقية من شيعة الإمام .

بينما كان قتال الحسين (ع) ليزيد (خروجاً) وليس (مواجهة عسكرية )، تستهدف إسقاط النظام ، وكان كل شي ء من اوضاع العراق و الشام يؤكد هذا المعني ، ولم يكن يفكّر الحسين ان بإمكان العراق ان يقاوم الشام ، و لا ان يصفو له العراق ، ولا ان يقاوم اهل العراق إرهاب بني اُمية وإغراءهم ، فما كانوا ليصفو في احسن الاحوال للإمام من العراق غير قلّة قليلة من شيعته يخرج بهم علي يزيد.

إذن لم يكن الإمام يطلب فتحاً عسكرياً، و إنما كان يطلب في خروجه تحريك ضمائر المسلمين ، و إثارة الضمائر و النفوس و العواطف و العقول بقوة بفعل الماساة المفجعة ، التي واجهها الحسين (ع) علي يدجيش بني اُمية في كربلاء. وكانت غاية الإمام الحسين في هذه الماساة الدامية والمفجعة هي تحريك المسلمين ضد سلطان بني اُمية ، و النيل من شرعية جهاز الخلافة الاُموية ، وعزلهم سياسياً و اجتماعياً في اوساط العالم الإسلامي ، سيما في الحجاز و العراق اللذين كانا يعتبران حينذاك قلب العالم الإسلامي ، و تجريدهم من الشرعية التي كانوا يحرصون عليها كثيراًكل ذلك يتم ّ نتيجة اختلاف موقع الإمامين ، و ظروفهما واختلاف ظرف معاوية من يزيد.

فلم يكن معاوية قد اسقط الاقنعة كلها عن وجهه كما اسقطها يزيد،و لم يكن معاوية قد كشف عن سرّه و نيّته ، واسفر عن وجهه كما فعل يزيد.

و بالتالي فقد كان تحريك المسلمين ضد سلطان بني اُمية ، و محاولة النيل من شرعية الخلافة الاُموية في عهد يزيد امراً ممكناً، و بالطريقة التي اقدم عليها الحسين (ع)، بينما لم تكن هذه الظروف متوفّرة للإمام الحسن (ع) في الصورة التي توفّرت في عهد يزيد.