بازگشت

واقعة الطف محك لمعدني الولاء و البراءة


تعتبر وقعة كربلاء - منذ القدم - مسرحاً من اهم ّ مسارح الولاء و البراءة ؛ لانّها وقعة متميزة من بين الكثير من احداث التاريخ الكبري ،و مشاهد الصراع بين الحق ّ و الباطل .

و لذلك ، فإن ّ ولاء المؤمنين وبراءتهم يتجلّي علي صعيد قضية كربلاء اكثر من كثير من القضايا التي تستثير الولاء والبراءة .

و يتجسّد «الولاء» و «البراءة » في هذه الوقعة ضمن مظاهر كثيرة : من إقامة مجالس العزاء، والبكاء، والزيارات ، والسلام علي الحسين (ع)واهل بيته واصحابه ، واللعن علي اعدائهم ، ومسيرات العزاء، والوفود إلي كربلاء لزيارة الإمام الحسين (ع)، و الادب و الخطابة ، وغير ذلك من المشاهد الكثيرة التي تعبّر عن ولاء المؤمنين للحسين (ع) و اهل بيته و اصحابه وبراءتهم من اعدائهم .

إن ّ وقعة الطف من المواقع العقائدية والحضارية الكبري المؤثّرة في التاريخ ، والتي تفرض نفسها علي الإنسان ، فلا يملك ان يمرّ عليها مروراً عابراً، او يقف عندها وقوف المتفرّج او يقرأ سطورها بلا مبالاة وعدم اكتراث .

فبالرغم من مرور اكثر من الف وثلثمائة سنة علي هذه الواقعة المفجعة ، فإنّها لا تزال تملك تأثيراً فوق العادة علي النفوس و القلوب و العقول ، و تفرض نفسها علي كل ّ مَن آتاه الله بصيرة ووعياً في دينه .

ولا تزال الاجيال تتلقّف قضية كربلاء بحرارة و حماس ، و تتفاعل معها في الإيجاب والسلب ، في الولاء والبراءة ، فما هو السرّ الكامن في هذه الحقيقة ؟

وما الذي جعل منها مرآة للولاء والبراءة ، عبر هذا التاريخ الطويل ؟

إن ّ وقعة الطف تتميّز بالوضوح الكامل الذي لا يبقي شكّاً لاحد في طرفي هذه المعركة .

فلم يكن هناك التباس في امر المعركة التي حدثت علي ارض الطف ،ولم يكن هناك احد من المسلمين يشك ّ في ان الحسين (ع) كان يدعو إلي الله ورسوله ، وإلي الاستقامة وسلوك صراط الله القويم ، ولم يكن هناك من احد يشك ّ في ان يزيد بن معاوية قد تجاوز حدود الله تعالي ، واعلن الحرب علي الله ورسوله وجاهر في الفسق والفجور، و هو يجلس مجلس رسول الله(ص).

فلم يكن بين المسلمين يومئذ من يتردّد لحظة واحدة - و هو يقف علي ساحة الصراع بين ابي عبدالله الحسين (ع) ويزيد بن معاوية - في الحكم بان ّ الحسين (ع) علي هدي وان ّ يزيد علي ضلال .

و عليه ، فلم يكن في امر هذه المعركة خفاء او لبس ، فمن وقف مع الحسين (ع) وقف عن بينة ، ومن وقف مع يزيد وقف عن بينة .

وقليل من مشاهد الصراع بين الحق ّ والباطل ، تمتلك كل ّ هذا الوضوح الذي تمتلكه وقعة الطف .

فقد وقف الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء بين الصفّين و قال مخاطباً جيش بني زياد: «ايّها الناس ، انسبوني من انا ثم ارجعوا إلي انفسكم و عاتبوها،و انظروا هل يحل ّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟.. الست ُ ابن بنت نبيكم ؟ وابن وصيّه و ابن عمّه و اوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه ؟ اوليس حمزة سيّد الشهداء عم ّ ابي ؟ اوليس جعفر الطيار عمّي ؟، او لم يبلغكم قول رسول الله (ص) لي ولاخي : هذان سيّدا شباب اهل الجنة فإن صدّقتموني بما اقول و هو الحق ّ، والله ماتعمدت الكذب منذ علمت ان ّ الله يمقت عليه اهله و يضرّ به من اختلقه ، و إن كذّبتموني فإن ّ فيكم مَن إن سألتموه اخبركم ، سلوا جابر بن عبدالله الانصاري ، و ابا سعيد الخدري ، و سهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن ارقم ، و انس بن مالك ، يخبرونكم انّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لاخي . اما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟

فقال الشمر: هو يعبد الله علي حرف إن كان يدري ما تقول .

فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي اراك تعبد الله علي سبعين حرفاً،و انا اشهد انّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله علي قلبك .

و عندما حاول الوليد - عامل يزيد علي المدينة - ان يجبر الإمام الحسين (ع) علي البيعة ليزيد والرضوخ له ، قال الإمام (ع): «ايّها الامير، إنّااهل بيت النبوّة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة ، بنا فتح الله و بنا يختم ، ويزيد رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ».

لقد كانت الجبهتان المتصارعتان في كربلاء متميّزتين في انتمائهما لمحور الولاية الإلهية و الطاغوت ، ولم يكن الامر يخفي علي احد.

فقد امضي اصحاب الحسين (ع) ليلة العاشر ولهم دوي كدوي ّ النحل بين قائم و قاعد و راكع و ساجد..



سمة العبيد من الخشوع

عليهم لله إن ضمّتهم الاسحار



وإذا ترجلت الضحي شهدت

لهم بيض القواضب انّهم احرار



تقول فاطمة بنت الحسين (ع): «واما عمّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث إلي ربّها، والله فما هدأت لنا عين و لا سكنت لنارنّة »

فهكذا كان الامر في معسكر الحسين (ع).. شوقاً إلي لقاء الله، و إقبالاً علي الله، وإعراضاً عن الدنيا و زخرفها، و انقطاعاً عن الدنيا إلي الله تعالي ،حتّي ان ّ بعضهم كان يداعب اصحابه ويمازحهم في ليلة العاشر، فقد هازل َبرير عبدالرحمن الانصاري عليهما الرحمة ، فقال له عبدالرحمن : ما هذه ساعة باطل ، فقال برير: لقد علم قومي ما احببت الباطل كهلاً ولا شاباً،ولكن ّ مستبشراً بما نحن لاقون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ ان يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، و لوددت انّهم مالوا علينا الساعة .

وامّا الطرف الآخر من هذه المعركة (معسكر يزيد) فقد كان همّه هو ما يصيبه من الذهب والفضة والامارة والجائزة ، في قتال ابن بنت رسول الله(ص).

فقد تولّي عمر بن سعد امر قتال ابن بنت رسول الله(ص) طمعاً في إمارة الري .

يقول اليافعي : و وعد الامير المذكور (عمر بن سعد) ان يملّكه مدينة الري ّ، فباع الفاسق الرشد بالغي .

و فيه يقول :



أأترك ملك الري ّ والري ّ بغيتي

او ارجع مأثوماً بقتل حسين



ثم يقول :

وحزّ رأس الحسين بعض الفجرة الفاسقين وحمله إلي ابن زياد،ودخل به عليه وهو يقول :



املا ركابي فضّة وذهباً

إني قتلت السيّد المحجّبا



قتلت خير الناس اُماً وأباً

وخيرهم إذ يذكرون النسبا



فغضب ابن زياد من قوله وقال : إذا علمت انّه كذلك فلم قتلته ؟، والله لا نلت مني خيراً ابداً ولالحقنّك به .

و يتبجح الاخنس بن مرثد الحضرمي ّ من رضّهم للاجساد الطاهرة بعد استشهادهم ، وهو يعلم انّه يعصي الله تعالي في طاعة اميره ، فيقول -كما يروي الخوارزمي :



نحن رضضنا الظهر بعد الصدر

بكل يعبوب شديد الاسر



حتّي عصينا الله رب ّ الامر

بصنعنا مع الحسين الطهر



ففي الوقت الذي كان فيه هم ّ الحسين (ع) واصحابه في كربلاء هومرضاة الله تعالي ، وشوقهم إلي لقاء الله، فإن ّ هم ّ جُند ابن زياد كان ما يدفع لهم الامير من جائزة ذهب او فضة او إمارة .

فلم يكن في الامر - بالنسبة لكلا المعسكرين - اي ّ خفاء، و إن ّ جميع الذين عاصروا المعركة او شاهدوها، او وقفوا عليها من قريب او بعيد.كانوا يعرفون الحق ّ و الباطل فيها، و يميزون دعوة الله عن دعوة الطاغوت ،ولم يتخلف احد عن نصرة الحسين (ع) نتيجة لالتباس الامر عليه و عدم قدرته علي تمييز الحق ّ عن الباطل ، و إنّما كان التخلف عنه (ع) بسبب إيثار العافية و الراحة علي القتل في سبيل الله سبحانه ، و لم يشهر احد فيها السيف علي ابن بنت رسول الله عن لبس او جهل او غموض ، و إنّما شهره عن وضوح و علم و دراية بانّه يحارب الله و رسوله و اولياءه بقتال الحسين (ع).

و هذا الوضوح في ساحة المعركة هو الذي يجعل معركة الطف معركة متميّزة من بين سائر المواقع التاريخية ؛ فهي تعكس صورة صارخة من صراع الحق ّ و الباطل ، ومجابهة محور الولاية و الطاغوت ؛ ولذلك فإنّهاكانت رمزاً خالداً للصراع بين الحق ّ و الباطل ، و مسرحاً للولاء و البراءة في حياة المؤمنين .

إن ّ وقعة الطف لا تبقي مجالاً لاحد في التردّد و التأمّل ، فهي المواجهة الصارخة بين الحق ّ والباطل ، بين جنبة الله و جنبة الشيطان ، بين الهدي و الضلال .

فلابدّ من موقف محدّد و واضح في هذه القضية .

فإن ّ لم يكن هذا الموقف موقف الولاء لجند الله و البراءة من اعدائهم ، فإنّه سيكون - لا محالة - موقف الرضي بفعل يزيد وجنده ، و هو الموقف الذي يستحق ّ صاحبه اللعن و الطرد من رحمة الله.

«فلعن الله اُمّة قتلتك ، و لعن الله اُمة ظلمتك و لعن الله اُمة سمعت بذلك فرضيت به ».

حيث إن ّ مجرّد فقدان الموقف في قضية الولاء يشكّل موقف الرضي بما لقيه الإمام الحسين (ع) من ظلم وقتل .

فمَن خذل الإمام الحسين (ع) ولم يقف معه يوم استنصر المسلمين ،فلابدّ و ان يكون راضياً بفعل يزيد، إذ لو لم يكن راضياً به لما أبطأ عن نصرة الإمام (ع).

فالخذلان والسكوت و التفرج علي ساحة الصراع من دون تكلّف معاناة المشاركة تعتبر في مفهوم الولاء موقفاً رافضاً و سلبياً، و هو موقف يستحق ّ صاحبه اللعن و الطرد من رحمة الله الواسعة .

ولان ّ قضية كربلاء قضية متميّزة من بين الكثير من احداث التاريخ الكبري ، و تتطلب وضوح الموقف والرأي دائماً، نجد ان هذه القضية تستثير الولاء والبراءة في نفوس المؤمنين بصورة مستمرة و دائمة وقوية .

ولهذا، فإن ّ البكاء، وإقامة مجالس العزاء و تنظيم المسيرات ، و الوفوداء لي كربلاء لزيارة مرقد الإمام الطاهر، وغيرها من المظاهر ليست من آثار العاطفة ، و إنّما هي تجسيد لولاء المؤمنين للحسين (ع) و اهل بيته و اصحابه ، و تجسيد لبراءتهم من اعدائهم ، و إن انشداد الناس بقضية الطف و تفاعلهم معها، و إن كان للعاطفة دور مؤثّر فيه ، ولكنّه هو ولاء لخط الحسين (ع) و براءة من خط يزيد، اكثر من كونه عاطفة مجرّدة ؛ و ذلك لأن ّ العاطفة وحدها لا تملك كل ّ هذا التأثير القوي في حياة الناس .

و إذا كانت معركة الطف رمزاً للصراع بين الحق ّ و الباطل ، و محوراً للولاية و البراءة ، فإن ّ الانشداد والتفاعل مع هذه القضية يعني التفاعل مع محور الولاية الإلهية علي وجه الارض ، والإعلان عن البراءة عن محور الطاغوت ، والانفصال عن اعداء المحور الرباني .

و كما ان ّ التفاعل مع قضية الطف يكشف عن درجة تفاعل الإنسان مع المحور الرباني (محور الولاية )، كذلك يصح ايضاً ان نقول بان ّ التفاعل مع مأساة الطف يعمّق صلة الإنسان وارتباطه بمحور الولاية الإلهية ، ويعمّق حالة الانفصال بينه و بين الطاغوت (حالة البراءة )، فإن ّ الولاء للحسين (ع) هو ولاء لكل ّ اولياء الله تعالي في التاريخ ، و ان ّ البراءة من اعداء الحسين (ع) هي براءة من كل ّ اعداء الله و اعداء اوليائه في التاريخ ،وربّما كانت طريقة السلام علي الإمام الحسين (ع) في زيارة وارث ، تشير إشارة واضحة إلي هذه الحقيقة ، حيث يُسلّم الزائر علي الإمام (ع) بصفته وارثاً لآدم ولنوح ولإبراهيم و لموسي و لعيسي و لرسول الله صلي الله عليه و آله و عليهم جميعاً و لعلي (ع)، فيقول :

«السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله،السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسي كليم الله،السلام عليك يا وارث عيسي روح الله، السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله، السلام عليك يا وارث امير المؤمنين ولي الله».

فإن ّ هذه الصفوة من اولياء الله وعباده الصالحين قد شكّلت امتداداً واحداً لولاية الله سبحانه علي وجه الارض و في حياة الإنسان ، وسارت علي خط حضاري واحد، ودعت إلي الالتفاف حول محور رسالي واحد،وحملت هموم قضية عقائديّة واحدة .

كما ان ّ أعداءهم الذين قاوموهم واعلنوا عليهم الحرب والعدوان ،و وقفوا امام المسيرة الإلهية الكبري في فترات التاريخ المختلفة ، قدشكّلوا - ايضاً - امتداداً واحداً، و خطّاً حضارياً واحداً، وقضية واحدة .

إن ّ الإحساس بوحدة الولاء و وحدة البراءة يعمّق وحدة المحور في حياة الاُمة .

و إن ّ الشعور بوحدة المحور للاُمة المسلمة يعمّق الشعور بان ّ الاُمّة المسلمة علي امتداد التاريخ - و منذ آدم (ع) إلي اليوم الحاضر - هي اُسرة واحدة ، تلتف ّ حول محور واحد، و تحارب في جبهة واحدة و من اجل قضية واحدة ، وتشترك في الحب ّ و البغض والسلم والحرب ، فقضيتها نفس القضية ، ومهمّتها علي وجه الارض واحدة وخطّها واحد و حضارتها واحدة و إيمانها واحد.

وعندما يتعمّق الإحساس بوحدة الولاء ووحدة البراءة ، و وحدة الحب ّ ووحدة البغض ، وحدة الطاعة ووحدة العداء، و وحدة الإيمان و وحدة الرفض ، فإنّه سوف يتعمّق الإحساس بوحدة الاُسرة المؤمنة في التاريخ و علي وجه الارض ، فيشعر الإنسان المؤمن بان ّ الولاء لله ولرسوله و لاوليائه قد طوي به الزمان و المكان ليجعل من هذه الاُمّة المسلمة كلّها كتلة واحدة تتّحد في مشاعرها و احاسيسها و إيمانها و حربها و سلمها و رسالتها، و يشعر بالتحام قوي يربطه مع اعضاء هذه الاُسرة العظيمة رغم الفترات الزمنية المتباينة والمسافات المكانية المتباعدة ؛ و بذلك فإن ّالشعور بوحدة المصير سوف يقوّي في نفسه و يتعمّق ، فيمنحه إحساساً بالقوة و الاعتزاز بالله.

فهو ليس وحده في هذه المعركة الضارية ، و إنّما هو اُمة مؤمنة عريقة في التاريخ و ممتدّة علي كل ّ وجه الارض ، وتستعين بالله الواحد القهّار في إرساء قواعد هذه الدعوة ، و تعبيد الناس لله تعالي ، و تحكيم هذا الدين في حياة الناس و إزالة كافّة العقبات والعراقيل من امام طريق الدعوة هذه .

إن ّ هذا الإحساس بمعيّة الله و معيّة المؤمنين سيزيل الشعور بالوحشة و الانفراد عن نفوس الدعاة إلي الله في خضّم الصراع مع الطاغوت و مواجهة شوكته و جبروته و كبريائه .

لقد كان إبراهيم (ع) وحدة اُمّة ، قانتاً لله في مواجهة نمرود.

(إن ّ إبراهيم كان اُمّة ً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ).