بازگشت

المقدمة


لم يكن صراع الطف حدثاً تاريخياً عابراً، شبيهاً بباقي الصراعات و الوقائع الحربية القبلية المجرّدة من الحيثيات الفكرية ، بل جسّد الطّف اعلي مراحل صراع القِيَم ، ولا يصح ّ الوقوف علي المفردات القيّميّة و البراغماتية (النفعية و المصلحية ). في واقعة الطّف دون استحضاراُصولها التاريخية و منذ عصر ما قبل الرسالة .

فقد كانت اُولي المصاديق هي استحكام العداء بين بني هاشم و بين عبدشمس ، عندما تولّي (هاشم ) زعامة مكة و عامّة العرب مع المهمّة التي تلازمها (سدانة الكعبة ) فقد نازعه عليها ابن اخيه اُمية بن عبدشمس و ادّعاها لنفسه ، و انتهي الخلاف بعد قبول هاشم بالتحكيم إلي الكاهن الخزاعي الذي شرط خمسين ناقة لصاحب الحق ّ وإبعاد المغلوب عن مكة عشرين عاماً. فكانت نتيجة التحكيم لمصحلة هاشم ، فاستلم من ابن اخيه الإبل و نحرها إلي الحجاج الوافدين و خرج اُمية من مكة إلي الشام .

وقد عُرف هاشم بامانته واخلاقه وإدارته الحكيمة لشؤون عرب الجزيرة في الوقت الذي لم يُعرف عن اُمية بن عبدشمس بمثل هذه القابليات والسجايا، فكان عامل الحسد و الغيرة لديه مفاهيم لا قيميّة تجسدت بوضوح في خلافه مع عمّه هاشم ، و الانكي ان عبدشمس ذهب إلي (النجاشي ) ليجدد العهود بينه و بين القرشيين ، كما توجّه نوفل بن عبدمناف إلي العراق للاتصال بكسري ، فهم يحاولون استعداء الامبراطوريتين الرومانية و الفارسية علي بني هاشم ، ولكن لم يكتب لهما البقاء الطويل ، فقد توفي عبدشمس بعد ايام من رجوعه إلي مكة ، و توفي نوفل في موضع يقال له (سلمان )، فقام المطلب ابن عبدمناف بالزعامة بعد اخيه هاشم . و تهيّا للزعامة شيبة بن هاشم بعد ان تربّي في حجر عمّه المطلب و اشتهر باسم (عبدالمطلب ).

وقد تهيّات لعبدالمطلب مقومات الزعامة ما لم تتهيا لغيره حتي من اُسرته (فقد حفر زمزم وسقي المكّيين والحجاج من مائها ولم يستاثر به علي احد، و مضي علي شريعة إبراهيم الخليل هو و جماعة من قومه ،وصادف ان ابرهة ملك الحبشة غزا مكة بجنود و حشود لا قِبَل للمكّيين بها، واستخدم الفيلة في غزوته هذه ليرهب المكّيين ، وكان من قصده هدم الكعبة ، فدب ّ الذعر والخوف بين المكّيين واعتصموا بالجبال وبطون الاودية خوفاً علي انفسهم و اموالهم ، ولكن عبدالمطلب بقي معتصماً بجوار البيت عظيم الثقة بربّه واثقاً بان ّ الله سبحانه لا يتخلّي عمّن اعتصم به والتجا إليه ).

فضلاً عمّا امتاز به بنوهاشم من سمات قيميّة عالية اودت إلي ان يَدُب َّ الحقد و الحسد في صفوف مناوئيهم ، وبالخصوص في نفوس ابناء عمومتهم ، فجسّد عبدالمطلب بذلك خصلة اُخري جعلت قلوب المكّيين والعرب اكثر انشداداً و طاعة ً له ، بعد ان اثبت ثقة عظيمة بربّه وشجاعة منقطعة النظير لموقف صلب قلّما يهدي له الإيمان ، وهو يري عظمة الجيوش الغازية لبيت الله! فاي ّ إيمان ٍ مطلق لرجل آمن بربّه غيرمستوحش ٍ من هول المصاب و جلالة الحدث ؟! وقد اشار الدكترو طه حسين الي هذا الموقف قائلاً: (لقد اظهر عبدالمطلب من الصبر و الجلد و الشجاعة والثقة بالله ما لم يظهر من احد سواه من اشراف المكّيين والقرشيين ؛ فكان لذلك اثره البالغ عند عامّة العرب ممّا ضاعف ثقتهم به ،فاتّسعت زعامته خارج مكة ، وظل ّ هذا الحادث حديث الناس زمناً طويلاً...).

وهذا ممّا جعل خصومه ينطون علي انفسهم ، يعبث فيها الحقدوالحسد، و يتربّصون به الوقيعة و الخديعة .

فالوقوف علي زعامة عبدالمطلب لوحدها، نري انها مثّلت مرحلة متقدمة جداً في صياغة المنظومة الفكرية القيميّة لاُسرة بني هاشم ، و لاعجب ان تتنافي موازية ً لها منظومة اُخري من التحلل الفكري والقيمي عند حسّادهم من بني عبدشمس و الآخرين من العرب .

واختصاراً للبحث نترك الكثير من الشواهد التاريخية التي تؤكّد صراع المنظومتين ، سواء كان منها في عصر ما قبل الرسالة او ما تكاثرمنها في بدء رسالة الرسول (ص)، ولكن نقف علي ما تجلّي من صورالصراع بعد وفاة الرسول (ص) واوليّات المؤامرة في احداث السقيفة ، لان ّ ابطالها هم من رجالات الإسلام الاوائل ، وممّن خاض مرارات الحروب والجهاد بين يدي الرسول (ص) وقد اكّد علي (ع) هذا المعني بقوله : «لم يمنّواعلي الله بالصبر، و لم يستعظموا بذل انسهم في الحق ، حملوا بصائرهم علي اسيافهم ،ودانوا لربّهم بامر و اعظهم ».

ولكن نري ان الإسلام لم يكن بكامل مبادئه وعقائده راسخاً بشكله المطلق في نفوسهم ، فوقائع السقيفة اكّدت ان الانتصار إلي إحدي المنظومات الفكرية واقع واضح و صريح في الممارسة ، فلم يستطع القوم إضفاء معالم النظرية اللاقيميّة امام النص القرآني و سيرة الرسول ، وانتهي الامر بإبعاد صاحق الحق ّ ومن نصّت عليه الكلمات القدسيّة و وصايا الرسول والتنصيب الغديري .

وتعتبر السقيفة اوّل بادئة خطيرة من عمر الإسلام ، مهّدت لصراع الطّف ؛ فقد امسي الخليفة (عمر) عشية دفن جثمان النبي (ص) في غضب و هيجان و تهديد و وعيد، وعيدٌ بالحريق ، حريق ليلتهم البيت ومَن فيه ،وإن كان فيه فاطمة بضعة الرسول (ص) وسيّدة نساء اهل الجنّة ، والحسنان ريحانتاه سيّدا شباب اهل الجنّة ، وكفيلهم اخو رسول الله؛ هؤلاء هم الذين باهل النبي بهم وفود النصاري ، وهم الذين ادار عليهم النبي كساءه وقال :«اللهم ّ هؤلاء اهل بيتي ...»!! هكذا ظهر الامر في ساعاته الاُولي وكانّه انقلاب طاري اكثر عنفاً ممّا عرفته البشرية من الانقلابات ، او ما يصطلح بالثورات البيضاء؛ فاتّضح للرجل منهجه الخاص في استخدام القسوة و العنف ، و باتت السقيفة ذريعة ً لرجال العهود اللاحقة ، فحورب علي (ع)حروباً نكراء شرسة ، تطاحن فيها المسلمون وتصارعت منها المنظومتان ولكن تحت يافطة الإسلام ، تذرعاً و تحججاً بالتاويل و قدرة الاجتهاد؛ففتحت الحروب باباً واسعاً امام معاوية بن ابي سفيان ، و صار يتذرّع صراحة بما كان من إقصاء علي (ع) عن الخلافة من رسالة خاطب فيها علياً (ع)، ثم عاد بمثل ذلك في خطاب آخر مع الإمام الحسن (ع).

و هكذا يعلن معاوية معالم منهجه وليس مبالياً لما سمعت اُذناه منذحجّة الوداع : «الا ايّها الناس ، إنّما انا بشر، يوشك ان اُدعي فاُجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، كتاب الله و عترتي اهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّي يردا علي َّ الحوض ».

او قوله (ص): «مَن كنت مولاه ، فعلي ّ مولاه ...».

او «علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ّ، لن يفترقا حتّي يردا علي ّ الحوض ».

وقد اكّدها عمر بن الخطاب قبل رسائل معاوية إلي علي (ع) فكان قوله ادق تعبيراً واوضح منهجاً لمنظومته الباراغماتية (اللاقيميّة )، و هو يقول : (كرهت قريش ان تجتمع فيكم النبوّة والخلافة ) وإن كان (عمر) و (ابوبكر) ليسا من بني عبدشمس إلاّ انهم شركاء فيما آل إليه امرالاُمّة في ربع قرن بعد غياب الرسول (ص).

ومن خطبة ٍ لعلي ّ(ع) يقسِّم اصحاب مَن تقع عليهم المسؤولية فيقول (ع):

«... حتّي إذا قبض الله رسوله (ص) رجع قوم ٌ علي الاعقاب ، واتّكلوا علي الولائج ، ووصلوا غير الرحِم ، وهجروا السبب الذي اُمِروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رص ّ اساسه ؛ فبنوه في غير موضعه ».

ثم يقول (ع): «معادن كل ّ خطيئة ، وابواب كل ّ ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحَيرة ، وذهلوا في السكرة ، علي سنّة ٍ من آل فرعون : من مُنقطع ٍ إلي الدنيا راكن ٍ، اومفارق ٍ للدين مباين ».

فيتّضح من تقسيم قول الإمام (ع) ثلاث طوائف براغماتية هي :

1 ـ طائفة : (رجعت علي الاعقاب ...) فيجعلهم المرتدين ، وهو ليس الارتداد في الدين ، ولكن هجر السبب الذي اُمروا بمودّته ، ونقل البناءعن رص ّ اساس ، وبناؤه في غير موضعه .

2 ـ طائفة : (وصلوا غير الرحم وهجروا السبب ...) و هؤلاء هم الذين تركوا اهل البيت ، ونقلوا الخلافة منهم ووضعوها في غيرهم منذ قبض الله رسوله .

3 ـ طائفة : (معادن كل ّ خطيئة ...) وهم بنو اُمية ومن انتظم في مسلكهم .