بازگشت

ملحق 2


هل في مراسيم عاشوراء عمل حرام شرعاً

بقلم: الشيخ عبد الوهاب الكاشي [1]

أكثر ما يثير الاستغراب والتساؤل في مظاهر عاشوراء عند الشيعة هو ما يقوم به بعضهم من مظاهر عزائية قاسية تتصف بالعنف أحياناً، مثل اللطم علي الصدور العارية، والضرب علي الظهور والأكتاف المجردة بالسلاسل الحديدية الجارحة، وإدماء الرؤوس بالسيوف وغير ذلك. مما يثير الاستغراب لدي البعض، بل يثير الاستهجان والانتقاد لدي البعض الآخر، ويتساءلون: لماذا يفعل هؤلاء هكذا بأنفسهم؟ ولماذا لا يمنعهم العلماء ورجال الدين؟ وهل إن هذه الأعمال جائزة شرعاً وصحيحة بحسب العرف العقلائي؟

والجواب علي هذا السؤال هو: أن تلك الأعمال من حيث الأصل مباحة شرعاً إذا كان القيام بها لهدف مشروع وغرض عقلائي، ولم يترتب عليها ضرر كبير أو خطر علي حياة الإنسان. هذا ما يقوله العلماء ومراجع التقليد العليا في كل زمان ومكان. هذا من حيث الأصل.

وأما قيام الشيعة بها في عاشوراء فهو أولاً لأغراض عقلائية مشروعة وبدافع الحب والولاء الشديد للحسين (عليه السلام)، فهم بتلك الأعمال يعبرون عن تأسّيهم بالحسين (عليه السلام) ومواساتهم له في تحمّل ألم الجراح وجريان الدماء. وفي نفس الوقت يمثلون بها دور العمل الفدائي في سبيل قضية الحسين (عليه السلام) التي استشهد دفاعاً عنها. ويظهرون استعدادهم للتضحية من أجلها بكل غال وعزيز.

بالإضافة إلي أنها - أي: تلك الأعمال - عندهم كتظاهره كبري ضد أعداء الحسين (عليه السلام) الذين يخطّئون الحسين (عليه السلام) في قيامه ضد الدولة الأموية ويبرّرون إقدام يزيد علي قتل الحسين (عليه السلام)، وهؤلاء موجودون بيننا وفي عصرنا بكثرة.

ومن جهة أخري هي كتأييد عملي ودعم شعبي لثورته المقدسة، بالتالي هي استنكار صارخ للظلم والعدوان، وتأييد التحرير والإصلاح في كل زمان ومكان.

كيف لا ومظاهر القسوة والعنف في أعمال الاحتجاج أمر متداول في عصرنا هذا. فكم نسمع عن أشخاص أحرقوا أنفسهم حتي الموت وأضربوا عن الطعام حتي أشرفوا علي الموت، كل ذلك احتجاجاً علي ظلم أو اعتداء، فلم يسخر منهم شباب العصر، بل يعتبرونهم بذلك أبطالاً مناضلين، ولكن إذا قام شيعة أهل البيت بما هو أقل من ذلك وأبسط، اتّهموا بالسّخف والرجعية والوحشية، لماذا؟

أضف إلي ذلك أن قيامهم بتلك الأعمال هو بمثابة تدريب وتمرين علي خلق الروح النضالية الفعّالة والمعنوية العسكرية الراقية لا تتحقّقان لدي شباب الأمة بمجرد بعض التمارين الخالية الجوفاء والتمثيليات الفارغة التي لا تخلق سوي جيشاً انهزامياً فراراً غير كرار، يصدق عليهم قول الشاعر العربي القديم:



وفي الغزوات ما جرّبت نفسي

ولكن في الهزيمة كالغزال



ويصدق عليهم قوله تعالي: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشبٌ مسنّدة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو..).

أجل! إن الاستهانة بالموت تحتاج إلي تهيّؤ، وتدريب جدّي وتمارين شاقة خشنة، وإلاّ فالواقع ما قاله البطل الثائر زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام): (ما كره قوم حرّ السيف إلاّ ذلّوا).

والخلاصة هي أن هذه دوافع الشيعة وأهدافهم لدي قيامهم بتلك الأعمال في عاشوراء، وهي - كما تراها - دوافع مشروعة وأهداف عقلائية نافعة.

هذا مع العلم بأنهم لا يرون فيها ضرراً، ولا يحسون فيها خطراً علي صحتهم ولا علي حياتهم حسب ما يؤكدونه هم أنفسهم القائمون بتلك الأعمال، وحسب ما يشاهد بالوجدان. بل الثابت منهم وعنهم عكس ذلك، أي: أنهم قد يستفيدون من بعضها فوائد صحية.

نعم قد تقع بعض الأخطاء من قبل بعض القائمين بتلك الأعمال أو بعض المشرفين عليها، فتؤدي عفواً إلي بعض الأضرار البسيطة، وذلك نادراً، والنادر الشاذ لا يقاس عليه.

أما إذا أيقن أحد بحصول ضرر بالغ علي نفسه من تلك الأعمال، فلا يجوز له خاصة أن يقوم بها حتماً.

هذه خلاصة وجهة نظر الشيعة ورأي علمائهم الكبار، والمطابقة لفتاوي مراجعهم العليا في النجف الأشرف وغيرها، منذ خمسين عاماً أو أكثر حتي اليوم. وتلك الفتاوي مجموعة ومدوّنة مع ذكر تواريخها وبنصوصها التفصيلية في ضمن بعض الكتب المؤلفة حول موضوع الشعائر الحسينية، أو في كراسات خاصة مطبوعة يمكنك الإطلاع عليها إذا شئت.

ولا أعلم مرجعاً دينياً من مراجع التقليد عند الشيعة سئل عن حكم هذه الأعمال العزائية في عاشوراء إلاّ وأجاب بالجواز والمشروعية.

هذا مع العلم بأن هذه الأعمال كانت تجري ويقوم بها الشيعة أيام عاشوراء منذ قديم الزمان وتحت سمع وبصر كبار العلماء السابقين أرباب الكلمة النافذة واليد المبسوطة، أمثال الشيخ المفيد والكليني والصدوق والسيد المرتضي والسيد الرضي والشيخ الطوسي والسيد مهدي بحر العلوم الكبير والشيخ جعفر الكبير والشيخ الأنصاري وهكذا إلي عصرنا هذا أمثال الميرزا النائيني والسيد أبو الحسن والشيخ كاشف الغطاء والسيد الحكيم وغيرهم. فكانوا يؤيّدون تلك الأعمال ويدعمونها مادياً ومعنوياً.

وفي هذا دلالة كافية علي جواز تلك الأعمال ومحبوبيتها شرعاً. وفيه أيضاً قناعة كافية لمن يطلب الحق ومعرفة الواقع بدون تعنّت وتصلّب واستبداد في الرأي.

أما الناقدون والمعارضون لتلك الأعمال العزائية فليس عندهم سند منطقي ولا قاعدة عامة عقلائية يصح الاستدلال بها في معارضتهم لها، فإنهم يقولون - مثلاً - أن القيام بهذه الأعمال توجب السخرية والاستهزاء بهم من قبل الأجانب.

ونقول في الجواب: أن السخرية والاستهزاء والاشمئزاز من قبل بعض الناس علي عمل ما، لا يثبت فساد ذلك العمل، ولا يقتضي تركه لمجرد ذلك، ولا توجد قاعدة عقلائية تقول أن كل عمل أثار السخرية من قبل شخص أو أشخاص فذلك العمل باطل فاسد يجب تركه لا شيء سوي استهزاء بعض الأشخاص البعيدين عن معرفته وحقيقته.

ولا يوجد عاقل في العالم يؤمن بأن محض السخرية ومجرد الاستهزاء بشيء ما سبب كاف وعلة تامة لفساد ذلك الشيء.

إذ لو كان الأمر هكذا لوجب علي رسول الله (صلي الله عليه وآله) في بدأ الدعوة أن يترك الرسالة والدعوة إلي الإسلام لماذا؟ لأن قريش صارت تستهزئ به وتسخر من دعوته وتشمئز منه لذلك. أو لوجب أن يترك الصلاة علي الأقل، لأنها كانت أكثر ما في الإسلام إثارة لسخرية المشركين واستهزائهم منه بها، فهل ترك الصلاة؟ طبعاً كلا.

بل أقول: لو كان مجرد استهزاء البعض علي القيام بعمل ما يبرّر تركه لكان يلزمنا نحن المصلين في هذا العصر أن نترك الصلاة لأنها أصبحت موضع سخرية واستهزاء من قبل أكثر الشباب والمتمدنين من أهل زماننا هذا، فهل يصح تركها لذلك خوف أن يقال لنا رجعيين؟

وها هو الحجاب للمرأة أصبح عيباً وعاراً ومدعاة للسخرية والاتهام بالرجعية، فهل صار حراماً وخلعه واجباً أو جائزاً شرعاً لذلك؟ وهاهي أكثرية النساء في البلاد الإسلامية قد خلعن حجابهنّ وبرزن سافرات، فهل أحسنّ بهذا صنعاً؟

وأعوذ فأكرر القول بأن مجرد الاستهزاء ومحض سخرية تصدر من أناس علي أفعال وأعمال أناس آخرين لا يبرر الحكم علي تلك الأعمال بالفساد والسوء حتي يثبت فساد تلك الأعمال من حيث العوامل والنتائج. فإذا كان العمل صحيح العوامل والأسباب وصحيح النتائج والثمرات بشكل عام، فحينئذ الاستهزاء به كهواء في شبك (وأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

وأنني إذ أقول هذا لا أستبعد أن يكون أكثر هؤلاء المنتقدين للشعائر الحسينية قد وقعوا تحت تأثير الدعاية الأموية من حيث يشعرون أو لا يشعرون أو لا يشعرون. تلك الدعاية التي نشطت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة في كثير من البلدان الشيعية، وبقصد القضاء نهائياً علي كل أثر من ذكر ثورة الحسين (عليه السلام) علماً منهم بأن هذه الذكري هي الوسيلة الوحيدة الباقية للدعوة الصادقة المخلصة إلي الحق ومكافحة الباطل.

من إحياء ذكري الحسين فقط ترتفع أصوات المعارضة الصحيحة ضد الظلم والظالمين. من هذه الذكري تنطلق الأضواء الكاشفة فتسلّط علي كل زوايا المجتمع ومنعطفات طريق السعادة الاجتماعية لتلفت أنظار الناس إلي ما أمامها من أخطار وعقبات، فيتجنبونها ويواصلون سيرهم بسلام آمنين.

أيها القاري الكريم! إن ساحة كربلاء يوم العاشر من المحرّم سنة 61 هجرية كانت أشبه بمسرح تمثيل، في جانب منه قام الحسين (عليه السلام) وأصحابه بتمثيل أروع دور لمثالية الإنسان، وأسمي ما يمكن أن يرتفع إليه بروحه وخلقه وأريحيته، بحيث لا يبقي في الوجود ما هو أشرف منه وأفضل سوي خالقه العظيم.

في الطرف الآخر قام أعداء الحسين (عليه السلام) بتمثيل أدني وأسفل درك من الحضيض يمكن أن يتدني إليه ويهوي فيه هذا البشر من اللؤم والخبث والقوة والأنانية، بحيث يتندّي منه جبين الوحش ولا يبقي في الوجود ما هو شر منه ولا أسوأ مطلقاً.

ولا تزال حوادث تلك المعركة هي المعالم الواضحة والحد الفاصل والسمات الظاهرة بين الحق والباطل وهي المقياس الدقيق لمعرفة الخير من الشر إلي أبد الآبدين.

أجل! إن معركة كربلاء لم تنتهي بنهاية يوم العاشر من المحرم، بل هي لا تزال قائمة بصورها المختلفة وأحجامها العديدة وفصولها المتغيرة في كل زمان ومكان وما دام في الحياة خير وشر وحق وباطل.

وما أحسن تصوير الشاعر لهذا المعني في معركة كربلاء حيث قال:



كأن كل مكان كربلاء لدي

عيني وكل زمان يوم عاشوراء



فالحسين (عليه السلام) من وجهة نظر الشيعة وكل الخبراء في العالم إنما هو رمز الخير والعدل والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية. والأمويون هم رمز الرذيلة والجور والاستبداد والظلم الاجتماعي.

وكل الأعمال العزائية التي يقوم بها الشيعة أيام عاشوراء إنما يعبرون بها عن دعمهم وتأييدهم للخير والعدل والحق، واستنكارهم وكرههم للظلم والباطل.

وهذا دليل علي وعيهم الاجتماعي ونضجهم السياسي الكامل حسب ما يؤكده الباحثون وحسب ما هو واضح من ثوراتهم التحريرية عبر تاريخهم الطويل والمليء بالتضحيات.


پاورقي

[1] الشيخ عبد الوهاب الکاشي خطيب مفوّه يعيش في لبنان. وقد اقتبس هذا المقال من کتابه القيم (مأساة الحسين بين السائل والمجيب): 145 - 150.