بازگشت

تشبه الرجال بالنساء


تقول الرسالة [1] : (هذا [2] يقع في التمثيل، وتحريمه ثابت في الشرع).

وبما أني أعتقد أن صاحب الرسالة لا يجهل وقوع الخلاف في التشبيه موضوعاً وحكماً، فإني أعدُّ قوله (تحريمه ثابت في الشرع) خيانة في الشرع، إذ أنه إن أراد ثبوته في الجملة - أي ولو في صورة تأنث الرجل - لم يفده شيئاً سوي التهويل. وإن أراد ثبوته مطلقاً، كان محجوجاً بما لا يجهله من عدم الثبوت كذلك.

إن اللازم في مثل هذه المسألة إرشاد العامة إلي مراجعهم في التقليد وإيكال أمرهم إليهم، لا إبداء الكاتب رأيه بين الكافة بمظهر أنه حقيقة راهنة لا خلاف فيها، فإن ذلك لا يصدر إلاّ من المغالطين.

إن التشبيه المدّعي وقوعه في التمثيل هو تجليل الرجل بإزار أسود من قرنه إلي قدمه، وهو بهيئته وملابسه الرجالية، ليتراءي للناظر إليه أنه امرأة، وهذا مما لم يثبت في الشرع تحريمه، ولا وجدنا قائلاً بذلك نصاً أو ظهوراً.

علي أنّي ما رأيت منذ خمسين سنة للآن في التمثيلات العزائية في العراق تشبيه رجل بامرأة ولا امرأة برجل. وعسي أن يكون ما يوجد في غيره من قبل ما ذكر من التشبيه الصوري المؤقت، وهو ليس بتشبيه علي الحقيقة.

والقدر المعلوم تحريمه من التشبّه هو أن يتأنّث الرجل، ويعدّ نفسه امرأة، ومظهر ذلك - مع قصد التأنث - أن يخرج عن زيه، ويأخذ بأزياء النساء، لا بمجرد لبسه ملابسهنّ بدون تبديل لزي [3] .

وبهذا أفتي الميرزا القمي في (جامع الشتات) [4] ، وشيخنا المحقق الأنصاري في (المكاسب) [5] ، وأكثر علماء عصرنا، منهم شيخنا المحقق المدقق العلامة آية الله الميرزا محمد حسين النائيني الغروي (دام ظله) [6] ، والشيخ الفقيه العلامة المتقن صاحب المصنفات الكثيرة، حجة الإسلام الشيخ عبد الله المامقاني النجفي (دام علاه) [7] وغيرهم [8] .

ولأكتف بذكر عبارة الأوّلين ليطلع عليها من لا تحضره الكتب والأخبار. قال العلامة الأنصاري - في كتابه - بعد ذكر النبوي المشهور (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) [9] : (وفي دلالته عليه - يعني دلالة النبوي علي حرمة مطلق التشبيه - قصور، لأن الظاهر من التشبّه تأنّث الذكر، وتذكّر الأنثي، لا مجرد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبيه. ويؤيّده المحكي عن (العلل) أن علياً (عليه السلام) رأي رجلاً تأنث في مسجد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فقال له: اخرج من مسجد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فإني سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال وهم المخنّثون، واللائي ينكحن بعضهنّ بعضاً) [10] .

ثم ذكر روايتين تدل إحداهما علي كراهة أن يجرّ الرجل ثوبه تشبّهاً بالنساء، والآخر علي زجر رسول الله (صلي الله عليه وآله) عن التشبه بالنساء، وقال: إن (فيهما خصوصاً الأولي - بقرينة المورد - ظهور في الكراهـــة، فالحكم بالتــحريم لا يخلــــو عن إشـــكال) [11] انتهي.

وقال المحقق القمي (قدس سره) ما ملخص ترجمته هذا: المستفاد من الأخبار المانعة من تشبه الرجال بالنساء هو الخروج من زي أحدهما والدخول في زي الآخر، بحيث يعدّ الرجل نفسه من صنف النساء، وبالعكس. أما التشبه بامرأة خاصة في زمان قليل لغرض خاص فهو خارج عن منصرف الأخبار. واستطرد في أثناء كلامه تشبه رجل برجل، كتشبه أحد بالحسين (عليه السلام)، وآخر بأحد أعدائه، واستوجه رجحان ذلك إذا كان المقصود به الإبكاء ونحوه من الأمور الراجحة، خصوصاً التشبه بالأعداء، لما فيه من قهر النفس وإذلالها، لطاعة الله بنفس التشبّه بهم [12] .

وجري هذا المجري الفقيه الحائري المازندراني في (الذخيرة) [13] ، وسائر محشيها، كولده، والسيد الصدر، والميرزا الشيرازي الحائري.

وقد يلهج القاصدون بكون تشبّه رجل بالحسين (عليه السلام) توهيناً له، سيما إذا لم يكن من أهل الصلاح والشرف.

وهذا ما لا يخفي علي أحد كونه تمويهاً، فإن التوهين عنوان لا يتحقق بفعل ما بدون قصده، كالظلم، والتأديب، ووقوع التوهين قهراً مع كون الفعل بذاته يقع علي وجوه كثيرة مما لا يعقل.

نعم قد يحصل التوهين القهري بالقول بدون قصده، لكنه في الأفعال الممكنة الوقوع علي وجوه لا يمكن تحققه لو خلت عن كل قصد، فكيف بالأفعال المقصود بها الإبكاء عند إلقاء مخاطبات الحسين (عليه السلام) وحكاية أفعاله الواقعة تجاه أعدائه يوم الطف. وقد تضمنت السيّر والأخبار تشبه رجل برجل في ما لا يحصي من الموارد.

وأرسل أبو حامد الغزالي في كتاب (إحياء العلوم) أن مضحك فرعون كان يتشبه بموسي بن عمران كراعي غنم قد لبس مدرعة صوف قصيرة وبيده عصي يهشّ بها علي غنمه، قد نجاه الله من الغرق - أو رفع عنه العذاب - كرامة لموسي (عليه السلام) لنفس تشبّهه به، وإن كان لأجل أن يضحك فرعون وجلساؤه، عليه.


پاورقي

[1] صفحة: 4.

[2] أي: تشبه الرجال بالنساء. م.

[3] جاء في أخبارنا أن علياً (عليه السلام) سيّر من البصرة إلي المدينة أربعين امرأة ألبسهنّ العمائم والمناطق والأردية والدروع، وأمرهنّ بحمل السيوف والرماح.

[4] جامع الشتات: 2: 750، 787. م.

[5] المکاسب 2: 191. م.

[6] ذکر ذلک في منشور له مطبوع مشهور. [وهو مذکور في ملحق في آخر هذا الکتاب].

[7] ذکر ذلک في استفتاء له قد طبع مراراً مستقلاً وفي سلک غيره من الفتاوي المطبوعة. [فتاوي العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية: 14].

[8] هذه الفتاوي مذکورة في کتاب (فتاوي العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية). م.

[9] الکافي 8: 69. م.

[10] عسي أن يکون أظهر مما ذکره المحقق الأنصاري في ما رامه، الخبر المروي في الجعفريات [صفحة 147] عن النبي (صلي الله عليه وآله) أنه لعن المخنّثين من الرجال المتشبّهين بالنساء، والمترجّلات من النساء المتشبّهات بالرجال والخبر المروي عن أصل أبي سعد العصفري [صفحة 18] أن النبي قال: لعن الله وأمّنت الملائکة علي رجل تأنّث، وامرأة تذکّرت.

[11] المکاسب 2: 189-191. م.

[12] جامع الشتات 2: 787. م.

[13] ذخيرة المعاد: 368. م.