بازگشت

عدم حرمة الصنح المستعمل في العزاء


الصنج، وهو مفرد (صنوج) المعبّر عنه بلسان العامة في النجف (طوس). وهذا يستعمل في المواكب العزائية للعلة التي يستعمل لها الطبل من انتظام الموكب، والإعلان بمسيره، ووقوفه، ومشايعة صوته لندبة أهل الموكب، فإن انتظامه يختل بخفاء أصواتهم إذا تباعد محشد منهم عن آخر، لولا صوت هذا الصنج، ولذلك لا نجدهم يستعملونه عند لطمهم في دار - مثلاً -، لاستغنائهم عنه حينئذ.

والانتظام وإن لم يكن لازماً في مواكب العزاء، لكنه مستحسن قطعاً، والموكب المزعبل لا مُلزم به. وهب أنهم التزموا تشويش المواكب بترك الصنج، فالإعلام بالارتحال والوقوف وغيرهما لا يكون إلاّ به.

وقد سمعت من غير واحد من المشايخ [1] أن هذا الصنج أحدثه العلامة المجلسي (قدس سره) في قري إيران مصاحباً لموكب اللطم المخترق للأزقّة والمجتمع في الدور والمآتم، ليسمع صوته أهل القري القريبة منهم، ويعلموا بإقامتهم للعزاء ليشاركوهم إمّا في الاجتماع معهم، وإما بإقامة عزاء آخر في قريتهم، فاستطرد الناس استعماله لغير ذلك، وليتهم اكتفوا به عن الطبل، لأنه يقوم مقامه في الفائدة المقصودة منه.

وعلي كل حال، فإن من الخطأ الفاحش عدّ الصنج المتعارف ضربه اليوم في العزاء الحسيني في النجف من الآلات المشتركة بين اللهو وغيره، فضلاً عن المختصة.

وسواء أريد باللهو مطلق اللعب - كما يفهمه العوام - أو الواقع علي سبيل البطر وشدة الفرح - كما أسلفنا نقله عن أهل التحقيق - فضرب الصنج لا يقصد به عند مستعمليه إلا ما ذكرنا من انتظام الموكب العزائي والإعلان بمسيره ووقوفه، وذلك ليس لعباً ولا بطراً، فكيف تعدّ الآلة المستعملة لذلك من آلات اللعب والبطر؟

إذاً فما الوجه في ما أرسله الكاتب علي عواهنه من حرمة الصنوج النحاسية وما هو وجه التقييد بها؟ أنه في مفتتح مقالته يزعم أنه يذكر الأمور التي أجمع المسلمون علي تحريم أكثرها، وأنها من المنكرات، ولازم ذلك كون القليل منها غير محرّم أو غير مجمع علي تحريمه. فهل الضرب بالصنوج مما أجمع المسلمون علي تحريمه أو هو محرّم بغير الإجماع؟ وما هو هذا الدليل القائم علي التحريم إذا لم يكن الصنج من آلات اللهو الخاصة به؟

نعم أرسل الشيخ الفقيه المتبحّر المتقن الشيخ فخر الدين الطريحي النجفي في (مجمع البحرين) - وهو كتاب يجمع غريب القرآن والحديث، ليس للإمامية مثله - حديثاً لا يعلم من أي طريق روي، ومن هو المروي عنه، سوي أنه يتضمن التحذير عن استعمال الصنوح، وها هو ذا متنه: (إياك والضرب بالصوانج، فإن الشيطان يركض معك، والملائكة تنفر عنك) [2] .

ولقد فحصت كثيراً في الأبواب المناسبة لهذا الحديث من كتاب أصحابنا في الفروع والحديث وغريبه، فلم أجده. والذي وجدته في أصل زيد النرسي - بعد استقصاء ما عداه فحصاً هو هذا (وأما ضربك بالصوالج، فإن الشيطان معك يركض، الملائكة تنفر عنك) [3] .

وهذا موافق نصاً لما نقله شيخنا المحدث النوري - أعلي الله مقامه - في (المستدرك) [4] نقلاً عن أصل زيد النرسي [5] .

و(الصوالج) في هذا الحديث - باللام قبل الجيم - مفرد (صولجان). والصولجان هو عصي في رأسها اعوجاج، فارسي معرب. قاله الجوهري.

وهذا نهي عن اللعب بالصولجان والكرة - المسماة في عرفنا (طوبة) -. واللعب بها أمر معروف عند العرب وغيرهم اليوم، فلا حاجة إلي وصفه.

وتمام الخبر المذكور - كما هو منقول في (المستدرك) - عن الصادق (عليه السلام) هكذا: قال في من طلب الصيد لاهياً: وإن المؤمن لفي شغل عن ذلك، شغله طلب الآخرة عن الملاهي. إلي أن قال: وإن المؤمن [عن جميع ذلك] لفي شغل، ما له والملاهي؟ فإن الملاهي تورث قساوة القلب، وتورث النفاق. وأما ضربك بالصوالج، فإن الشيطان يركض معك، والملائكة تنفر عنك. وإن أصابك شيء، لم تؤجر. ومن عثرت به دابته، فمات، دخل النار) [6] .

وفي كتاب (الفقه الرضوي) - باب اللعب بالشطرنج والنرد والقمار والضرب بالصوالج - وساق النواهي في الثلاثة الأول ثم قال: (واتق اللعب بالخواتيم والأربعة عشر وكل قمار، حتي لعب الصبيان بالجوز والكعاب.

وإياك والضربة بالصولجان، فإن الشيطان يركض معك والملائكة تنفر عنك. وإن عثرت به دابته فمات، دخل النار) [7] وروي في (المستند) عن الكتاب المذكور، مثله، إلا أن فيه (إياك والضربة بالصوالج). [8]

وعلي هذا يكون الخبر أجنبياً بالمرة عما نحن فيه، إذ هو يتضمن المنع عما يتلهي به الإنسان بغير آلات الطرب، كالصيد واللعب بالصولجان والكرة وغيرهما، [9] وأن المتلهي بهما إذا حدث به حدث من لعبه، لا يؤجر، وإذا عثرت - بمن يطلب الصيد - دابته فمات، يدخل النار.

وإذا كان الأمر كذلك، فأين الدليل علي حرمة استعمال الصنج المتعارف، وليس هو من الآلات الخاصة بالملاهي قطعاً، ولا مستعملاً في اللهو؟ وأين وجده صاحب رسالة التنزيه وغيره عند الإفتاء بحرمته؟ وهل تصح الفتوي بلا فحص كامل عن وجود الدليل وبلا بحث وافٍ عن دلالته؟

ولولا أن مؤنة النفي عظيمة، لتحديتهم جميعاً بطلب الدليل علي حرمة استعمال البوق والصنج المتعارفين في العزاء الحسيني في العراق.

إلاّ أن يكابر أحد منهم بدعوي كون المنقول في (مجمع البحرين) غير المذكور في كتاب النرسي والفقه الرضوي. وهذا في غاية البعد، لظهور وحدة الخبر، واختلاف النسخ فيه هو الذي أوقع صاحب المجمع في ما وقع فيه. وقد صرح بالوحدة واختلاف النسخة صاحب المستند - في كتاب الشهادات منه [10] -، لكن عبارته ليست صريحة في أن المحرّف (صوانج) لا (صوالج. نعم هي صريحة في أن تردد اللفظ الوارد بينهما كاف في عدم صلاحية الخبر لإثبات الحرمة [11] .

ثم إنا إذا أخذنا الحديث المذكور في (المجمع) بمتنه مسلّم الرواية - وهو مرسل، وغير منقول في جوامع الحديث - فهل يصح علي أصول أصحابنا إثبات حكم تحريمي به؟ كلا، إن أصحابنا - قديماً وحديثاً - لا يعملون بمثل هذا الخبر في الأحكام الإلزامية، ولا يثبتون بمثله إلا الاستحباب والكراهة.

ومع الغض عن هذا، فإن حمل النهي الذي هو باللفظ الموضوع للتحذير - لا بمادة النهي ولا بهيئة - علي التحريم لا قرينة عليه من حال أو مقال. وليس التحذير - كالنهي - موضوعاً للحرمة أو ظاهراً فيها. ولا إجماع عليها حسب الفرض يصلح للقرينية علي إرادتها منه.

ومع الإغضاء عن هذا أيضاً، فإن الصنج له في اللغة معان:

1- آلة بأوتار.

2- قطع نحاس تعلّق في إطار الدف.

3- آلة تتخذ من صفر، يضرب إحداهما بالأخري.

4- الآلة التي يتخذها الراقصون في أطراف أصابعهم يصفقون بها، تسمي عند أرباب الملاهي (زنك) وهو معرب صنج. وغير ذلك من المعاني.

والمعني الثالث منها ينطبق علي ما هو المستعمل اليوم في العزاء الحسيني، لكن من المعلوم أن استعمال هذا الصنج لا يمكن قصد التلهي به، لأنه بذاته لا لهو فيه ولا طرب. وقد سمعت - في ما سلف - أن المستفاد من الأخبار الكثيرة أن حرمة اللعب بالآلات ليس من حيث خصوص الآلة، بل من حيث أنه لهو - أي ضرب علي سبيل البطر والفرح -.

وأنت إذا تأمّلت، وجدت دق الصنج المتعارف في المواكب يوجب الضجر، لا الطرب، وما هو إلاّ كدقّ الصفّارين بمطارقهم الحديدية علي النحاس دقّاً منتظماً.

ولا يبعد أن يكون الصنج الذي قد يعد من آلات الملاهي ليس هو هذا الصنج، ولا صنج الموسيقي القائم مقام التصفيق، بل هو ما يتخذه الراقصون في أصابع أيديهم يصفقون به من الآلة المسماة في عرفنا (زنك).

ثم إذا كان الصنج لغة مردداً بين معان، وكانت الآلة ذات الأوتار قدراً متيقناً مما جعل موضوع الحكم، وما عدا ذلك مشكوك المراد به من اللفظ، كان مقتضي أصول الفن لمن لا يوجب الاحتياط في الشبهة المفهومية التحريمية، أن يقول بجوازه، لا حرمته.

وكم فرق بين هذا وبين كاشف الغطاء إذ يعدّ من الأمور الراجحة (دق طبل إعلام وضرب نحاس) [12] وظني أن كاشف الغطاء والشيخ الحائري المازندراني [13] - لو كانا متيقنين للنهي عنه في أخبارنا وأن النهي تحريمي - قد حملا الصنج المنهي عنه علي خصوص المطرب الذي يضرب به ضرب بطر وفرح ملاحظة للمناسبة بين الحكم وموضوعة [14] .


پاورقي

[1] منهم السيد العلامة الفاضل، قدوة أهل الورع واللطف والأخلاق الفاضلة في زمانه، السيد مصطفّي الطالقاني النجفي، والشيخ العلامة الفقيه المقدس الورع الشيخ حسن مطر (قدس سرهما). وقلّ من يوجد في النجف اليوم من لا يعرف مکانتهما من العلم والورع، لقرب العهد بهما. کانا من تلامذة المرحوم الشيخ محمد حسين الکاظمي (قدس سره) صاحب کتاب (هداية الأنام في شرائع الإسلام) المتوفي في أخريات سنة 1307 من الهجرة. وتلمذا بعده علي شيخنا الذي قل أن يأتي له الدهر بنظير علماً وورعاً، الشيخ محمد طه نجف (قدس سره) نفعنا الله بهم أمواتاً، کما نفعنا بهم أحياءً.

[2] مجمع البحرين 2: 313.

[3] أصل زيد النرسي: 51. م.

[4] مستدرک الوسائل 3: 216. م.

[5] النسخة التي بيدي الآن من کتاب زيد النرسي مستنسخة علي نسخة العالم العامل الورع المقدس الباحث المتتبع الميرزا محمد الطهراني - سلمه الله - الذي يقيم اليوم في سامراء. جاء هذا الشيخ بمجموعة فيها من الأصول الأربعمائة نيف وعشرة أصول، منها کتاب النرسي، فاستنسخت عليها قبل سنين في النجف ثلاث نسخ، والأصل مستنسخ علي نسخة الميرزا النوري (قدس سره) أو هو هي. وکان النوري يتفرد بهذه الأصول، ومنها ينقل في مستدرکه. وليعلم أن في زيد الزراد وزيد النرسي، وفي کتابيهما کلاماً مذکوراً في کتب الرجال، لا محل لتحقيقه هنا. والمحقّق عند الشيخ أبي جعفر وجلّ من تأخر، صحة الکتابين وحسن حال الرجلين. وعلي ذلک بني شيخنا النوري (قدس سره) في آخر مستدرکه. وهو بناء محکم.

[6] مستدرک الوسائل 3: 216. م.

[7] الفقه المنسوب إلي الإمام الرضا: 38. م.

[8] مستند الشيعة 2: 637 م.

[9] کاللعب بالخاتم والجوز والکعاب والأربعة عشر - المسماة في العرف (منقلة). ويشهد بإرادة هذا المعني أمور: الأول: أن الضرب بالصنوج لا رکض فيه من الضارب ليرکض الشيطان معه، بخلاف الصوالج، فإنها يرکض بها خلف الکرة. الثاني: أن الضرب بالصنوج ليس في معرض حصول ضرر بدني، ليصح أن يقال: إن أصابه منه شيء لم يؤجر، بخلاف الصوالج، فإن الرکض بها معرض العثرات والصدمات المضرة. الثالث: أن (صنج) لا يجمع علي (صوانج) بنص المجمع [2: 313] وغيره، بخلاف (صولجان) فإنه يجمع علي (صوالج) وذلک آية تحريفه به.

[10] قال في (المستند) [2: 639]: ومنه ما يشک في دخوله فيه - أي: في اللهو کالصور - هو البوق -، وما يتخذه السلطان لإعلام العساکر وعلامة الجلال، ويقال له بالفارسية (کرنا)، وکذا الصنج - بالمعني الذي فسّر به في (القاموس) - وهو دفتان من رصاص، يضرب بإحداهما علي الأخري لاجتماع الناس. وأما ما روي من قولهم (إياک والصوانج، فإن الشيطان يرکض معک، والملائکة تنفر عنک) فلا يصلح لإثبات الحرمة، لاختلاف النسخة، فإن في الأکثر: الصوالج. فتأمل). انتهي. والظاهر أنّ مراده اختلاف نسخ (الفقه الرضوي). وإذا کان الرضوي هو مستند القوم مع اختلاف نسخه، زاد الاستدلال به ضعفاً علي ضعف.

[11] ونحن قد أقمنا الشواهد اللفظية والسياقية لتعيين کون الوارد هو (صوالج) لا غيره. علي أن الموجود في نسخة (الفقه الرضوي) المطبوعة (صولجان) وعنوان الباب النهي عن (الصوالج)، فأين لفظ (الصوانج) لولا قول المستند أنه نسخة؟.

[12] کشف الغطاء: 53-54. ورجحان الأمور المذکورة هو في حال کونها في مقام التعزية علي الإمام الحسين (عليه السلام) کما صرح به کاشف الغطاء في المصدر المذکور. م

[13] في ص 368 من کتاب (ذخيرة المعاد) المطبوعة في بومباي سنة 1316.

[14] من جميع ما ذکرنا يعلم أن ما يتمنطق به بعض الطلبة القاصرين من الإتفاق علي حرمة استعمال آلات اللهو، أجنبي عن المقام، ولذلک لما سئل حجة الاسلام الميرزا محمد تقي الشيرازي عن آلات اللهو، کالطبل والطنبور وسائر أنواع الملاهي التي هي من أنواع الطبل والمعازف في العزاء الحسيني، أجاب بأنه يجب فيه وفي غيره ترک آلات اللهو. وأنت قد عرفت أن الطنابير والمعازف وسائر آلات اللهو غير مستعملة في العزاء، ولکن القاصرين لا يعرفون الطّنبور والمِعْزَف واللهو، فيتکلّمون بما شاءوا.