بازگشت

البوق ليس مزمار


البوق هو الآلة المستعملة في بعض المواكب العزائية، وتسمي بلسان العامة في عرف العراقيين (بوري).

ولكن الكاتب - في مفتتح كلامه - يقول (الزمر)! وهذا ما لا يعرف، فإن الزمر - مصدراً - هو الغناء بالمزمار، أو هو - بضمتين - جمع لـ(مزمار) إن صح [1] . ومعلومٌ أنّ البوق ليس مزماراً، ولا التصويت به زمراً، فما هذا التخليط والتغليط الذي ينطلي علي العامة التي لا تعرف اللغة ولا تدقق في العرف.

(البوق) آلة ينفخ فيها نحو النفخ في النار، والنفخ في الزق، لكنها تصوّت بالنفخ بها تصويتاً حاداً هجناً مرتفعاً. و(المزمار) آلة يزمر فيها، أي يتغني بها، ولا ينفخ فيها، ولذلك يقال: (نفخ في البوق) كما يقال (نفخ في الصور). ولا يقال (زمر في الصور) وغنّي في البوق. ولعل قوله في (القاموس): (البوق آلة ينفخ فيه ويزمر) [2] توسعٌ في العبارة، كيف والبوق هو الصور باعترافه - كما ستعرفه - وهو مما ينفخ فيه ولا يزمر.

والفرق جلي بين الزمر والتغني الذي هو صوت مقطع وبين النفخ المجرد عن تقطيع الصوت، وهذا الذي لا تقطيع فيه بطبعه ليس بغناء، بخلاف سابقه، إذاً فما وجه تبديل الكاتب (النفخ بالبوق) في كلام معاصره بـ(الزمر)، الذي يراد به التعمية علي العامة؟ وهل يوجد في المواكب الحسينية إلا بوق، وليس فيها زمر ولا مزمار؟

المزمار - حسب ما تعرفه من اللغة - آلة يزمر فيها، أي يتغنّي بها، وكانت في بدء الأمر تتخذ من القصب، وهي لا تزال باقية لليوم عند الأعراب في البوادي، يسمي ذو الأنبوب الواحد منها (منفرد)، وذو الأنبوبين (مطبق)، يغنون به غناءً مطرباً، كما تغني بالآلة ذات الأوتار.

قال في (القاموس) زمّر تزميراً: غنّي في القصب [3] . وقال في (المجمع): زمر الرجل يزمر - من باب ضرب -: إذا ضرب بالمزمار. وهو - بالكسر - قصبة يُزمّر بها. وقال في (المنجد): الزمّارة: القصبة التي يزمّر فيها. وقال: المزمار: آلة يزمّر فيها، وزمر زمراً: غنّي بالنفخ في القصب [4] .

ولكن سكان الحواضر والمترفون من أرباب الملاهي ارتفعوا عن القصب إلي ما أحكم منه وأبقي، فاستبدلوه بالشبه وغيره، إذ لا مدخلية للقصب مع حصول الفائدة بعينها في غيره من المعادن المعمولة علي كيفية ما يسمي اليوم مزماراً أو (ني). ولا يفرق في كيفية التصويت بينها وبين القصب، بل هي ألهي وأرقّ وأطرب.

أما البوق فقد كان عند سذاجة البشر يتخذ من القرون، وهو لا يزال باقياً اليوم عند السوّاح المتسولة من الهنود والعجم (دراويش).

ولأمر يخص مزاعم هؤلاء يحافظون علي شكله أن يتغيّر، قال صاحب (المجمع) وغيره من أهل اللغة (البوق هو القرن الذي ينفخ فيه).- ولقول صاحب القاموس (الصور - بالضم - هو القرن ينفخ فيه) [5] ، يستدل علي أن البوق هو الصور، وأنه شيء ينفخ فيه ولا يتغني به. وقال في (المنجد): الصور: القرن ينفخ فيه، البوق. وقال: البوق: شيء مجوّف مستطيل ينفخ فيه [6] .

وقد غيّر البوق عند من عرفت من المتسولة إلي مادة غير القرن، وهيئة يكون بها أرفع صوتاً وأشد هجنة، وهو مهما تغيّر مادته - حتي لو صيغ من الذهب - هو ذلك الصور القرني الذي لا زمر فيه ولا غناء.

ولذلك يستعمل اليوم في السلم والحرب للتنبيه علي الأوقات، وأعداد الساعات، ولحشر الجنود المتفرقة، وتسيير مواكب الرجال المجندة، ونحو ذلك. ولم يعهد الزمر والتغني به منذ البدء للآن.

ولم يوجد في الأدلة إلاّ النهي عن (الزفن، والمزمار، والكوبات، والكبرات) [7] وما عثرنا علي نهي عن البوقات. ولا أظن أنه توجد علاقة مصححة لإطلاق لفظ المزمار علي البوق مجازاً، لبعده حتي في تركيبه الطبيعي عن الزمر، فهو في الحقيقة آلة تنبيه وإعلام، لا آلة طرب.

قال العلامة المجلسي [8] في بيان ما جاء في بعض الأحاديث من دقّ بوق التبريز، ما نصه: (بوق التبريز: أي البوق الذي ينفخ فيه لخروج العسكر إلي الغزو).

إن الذي يدل علي أن البوق غير المزمار - مضافاً إلي ما سبق - أن المزمار لا يكون إلاّ بثقوب كثيرة - من أربعة إلي ثمانية - في أنبوبه المتساوي قدّاً، غير الثقب الذي يلي الشفة، ولكل واحد من تلك الثقوب الكثيرة نغمة خاصة تخالف نغمة الثقب الآخر، يسدّ الزامر ما شاء سدّه بطرف أنملته، ويفتح ما شاء، وهو لا يزال بسدّ وفتح.

أما البوق فهو لا يكون إلا بثقب واحد في أسفله غير فوهته العليا، ولذلك لا تكون له نغمة، ولا يكون الصوت الخارج منه إلاّ واحداً غير مختلف [9] .. أما صلابته وهجنته فإنها تستند إلي سعة فوهته حسب تركيبه الطبيعي، فإنه كلما طال ودقّ موضع النفخ به واتسعت فوهته العليا، زاد صوته ارتفاعاً وهجنة، وربما كان لالتوائه مزيد دخل في شدة هجنته، إما لزيادة طوله بذلك الالتواء وإما لدوران الصوت به حسب التوائه.

فلارتفاعه استعمل لتنبيه الجند، ولهجنته جعل جزءاً من (الجوق الموسيقي) للتأليف بين الأصوات الكثيرة المختلفة، المختلف أفراد النوع الواحد منها، ليحصل كمال الطرب بالمجموع المؤلّف.

ولكن البوق لو انفرد عنها لا يكون ولا يصلح أن يكون مُلهياً ولا مطرباً، ولذلك لا ينبغي عدّه من الآلات المشتركة بين اللهو وغيره، فضلاً عن المختصة باللهو. وإذا لم يكن من آلات اللهو ولا من المزامير - لمباينته لها قدّاً وحجماً وشكلاً وهيئةً وتركيباً وصوتاً - فما هو الدليل علي تحريمه؟ ولم يوجد في الأدلة ما يتضمن النهي عن استعماله باسم يخصه أو يعمه في ما يحضرني من كتب الفقه والحديث، وعسي أن يحظي بالعثور علي تحريمه غيري، فيرشدني إليه [10] .


پاورقي

[1] يظهر من کتب اللغة عدم صحته.

[2] القاموس المحيط 2: 41. م.

[3] القاموس المحيط 2: 41. م.

[4] المنجد: 305.

[5] القاموس المحيط 2: 26. م.

[6] المنجد: 439، 55. م.

[7] الکافي 6: 432. م. النهي عن المزمار وعن الکوبات والکبرات کثير، ومنه الحديث المذکور في الهوامش السابقة. أما البوق فلم يقع النهي عنه في شيء من الأخبار. نعم جاء في کتاب المقاتل أنه عند دخول سبايا آل محمد إلي الشام، سمعت الطبول تضرب، والبوقات تدق. والظاهر أن استعمال البوقات لحشر الجنود وتنبيه الناس، فقد روي أن يزيد أمر أن تستقبل السبايا بمائة وعشرين راية، تحت کل راية کذا وکذا من الرجال.

[8] في ج 6 من البحار، ص 339 [من الطبعة الحجرية، و17: 259 من الطبعة الحديثة].

[9] وأيضاً المزمار القصبي لا يتحقق الزمر به إلا بالمجمع، وهو قصبة صغيرة يدخلها الزامر في فمه، وطرفها الآخر مدخل في نفس المزمار، ولذلک قال فقهاؤنا: لو أوصي له بمزمار وأمکن الانتفاع به انتفاعاً محلّلاً، صحت الوصية، ولا يلزم حينئذ تسليم المجمع، وهو الذي يجعله الزامر بين شفتيه، لأن الاسم لا يتوقف عليه) صرح بذلک في (جامع المقاصد) وغيره. أما البوق فلا مجمع له، لأنه لا يزمر به، أي: لا يتغني حتي يتوقف علي مجمع. وظني أنه لو ثقب من وسطه، وأوصل أسفله بمجمع يدخل کله في الفم، أو صنع به ما يقوم مقام المجمع من الکيفيات المتعارفة بين اللهويين في آلاتهم کالني وغيره، لأمکن الزمر به.

[10] أنا لا أتحدّي في هذا ولا في سابقه، لأن التتبع لا يقف علي حد، سيما وبضاعتي من کتب الحديث ليست بتلک المکانة، ولکن القدر الحاصل من الفحص لي يوجب الجزم والمعذورية. نعم لا يکاد الإنسان يأتي علي کتاب من کتب المغازي والحروب إلاّ ويجد فيها نحو هذه العبارة (فلما أصبحوا، ضربوا الطبول والبوقات) أو (أمر فلان بضرب الطبول والبوقات) وشبه ذلک مما يدل علي أن البوق آلة تستعمل مع طبل الحرب قديماً لحشر العسکر.