بازگشت

بكاء السجاد علي ابيه


سيماء الصلحاء: (ألم يتخذ علي بن الحسين (عليه السلام) البكاء علي أبيه دأباً، والامتناع من تناول الطعام والشراب حتي يمزجها بدموع عينيه ويغمي عليه في كل يوم مرة أو مرتين؟ أيباح لزين العابدين أن ينزّل بنفسه ما ينزل من الآلام تأثراً وانفعالاً من مصيبة أبيه، ولا يباح لوليّه أن يؤلم نفسه لمصيبة إمامه؟ [1] انتهي.

رسالة التنزيه: (أما بكاء علي بن الحسين (عليه السلام) المؤدي إلي الإغماء والامتناع عن الطعام والشراب، فإن صح فهو أجنبي عن المقام، فإن هذه أمور قهرية لا يتعلق بها تكليف، وما كان اختيارياً فحاله ما مر). [2] انتهي.

النقد النزيه: إن صح تعليق جميع ما سبق بـ(إن صح)، فإنه لا يصح تعليق بكاء سيد الساجدين علي شيء، فقد صح، وتواتر نقله، وأُفردت له في كتب الحديث أبواب تخصه، حتي روي ابن شهر آشوب في (المناقب) أنه إذا أخذ إناءً يشرب ماءً، بكي حتي يملأه دماً. [3] وكذا الحال في الإغماء عليه من البكاء، وفي الامتناع عن الطعام والشراب، ولا شك أن الكاتب لا يشك في ذلك، ولكن تلجئ الضرورات في الأمور إلي سلوك ما لا يليق بالأدب.

دع عنك - بالله - التعليق بـ(إن صح)، وهلمّ الخطب في قوله (إن هذه أمور قهرية، لا يتعلّق بها تكليف). هلمّ نستعمل الدقة التامة في استخراج معناه بلا محاباة ولا تحامل. هلم بنا ننظر بكل هدوء وسكينة هل يوجد لهذه الكلمة معني لا يحط من قدر الإمام؟ وبالأحري لا يقدح في إمامته؟

إن الآلام التي ينزلها الإمام السجاد بنفسه، ومنها البكاء بضعاً وعشرين سنة حتي خيف علي عينيه من كثرة بكائه - كما في (المناقب) - إن كانت محرّمة في نفسها - كما يدعيه هذا الكاتب -، فلا ترتفع حرمتها بكونها أموراً قهرية علي بعض الوجوه. فإن أراد بقهريتها صدورها لا عن اختيار وإرادة، فإن الإمامية كافة يرفضون هذا الاعتقاد الشائن، لأنهم يعتقدون أنه لا يجوز أن يصدر عن الإمام المعصوم فعل أو قول من دون اختيار منه وإرادة، حتي إذا كان مباحاً، فضلاً عن المحرّم. وصدور المحرّم - ولو بلا اختيار - ينافي العصمة والتأييد بروح القدس [4] .

ولقد قال بعض الصحابة - علي ما يوجد في كتب التاريخ [5] - في حق الرسول الأعظم (إنّ النبي ليهجر) [6] ، فرمي بسهام اللؤم إلي اليوم لمجرد أنه نسب إليه صدور لفظ لا باختياره، ولم ينسب له محرماً بلا اختيار.

مع أن كون البكاء قهرياً بهذا المعني مما لا يكاد أن يقع من أحد أبداً، إلاّ إذا كانت مبادئه - كتذكر المصاب وغيره - قهرية أيضاً، ليكون خروج الدمع من العين كالدم المندفع من عرق، والماء المتدفق من ينبوع [7] .

وإن أراد بقهريتها صدورها بمقتضي طبعه المتوغل فيه من محبة أبيه، فهذا أدهي وأمرّ من سابقه، لأن القهرية بهذا المعني لا ترفع التكليف عقلاً ولا شرعاً، لأنها لا تنافي الاختيار، وهل بعد صدور المحرّم عمداً من الإمام يبقي محل لعصمته؟

إن الشيعي لا يرضي للإمام أن يستأسره أي عامل بشري لحظة واحدة، فضلاً عن بقائه بضعاً وعشرين سنة مسلوب الاختيار والإرادة، مغلوباً لدواعي الشهوة البشرية، علي حين أن المشاهد من غير المعصومين من أرباب المجاهدات أنهم يصابرون النوائب بالجلد، ويتغلبون بسهولة علي البواعث الطبيعية ضد الدواعي الإلهية بغية الثواب، وترفعاً عن مقام الشهوانيين.

تعتقد الشيعة أن محبة الأنبياء والأئمة لواحد من البشر قريباً أو غريباً ليس ولا يكون فقط ناشئاً عن الدواعي النفسانية والشهوات البشرية، لأن المدلول عليه بالأخبار الكثيرة - المدعومة بالبراهين العقلية - أنهم مجردون عن جميع الرغائب الطبيعية، إنما حبهم لله خالصاً، وإرادتهم له لا لسواه، وإذا أحبوا غيره، فذلك لحب الله له، ويرجع الأمر بالآخرة إلي محبة الله وحده، ولذلك أحبّ يعقوب يوسف دون أخوته، وكان إفراطه في حبّه غير مناف لخلوصه لربّه.

وإذا كان حب السجاد (عليه السلام) لأبيه لا لداع طبيعي قهري - كما تعتقده الإمامية - فلا يعقل أن يكون بكاؤه عليه قهرياً طبعياً، بل يكون لا محالة تابعاً لنفس داعي حبه له، وهو حب الله الخالص وحده [8] .

سبحان الله! إن الرجل من سائر الناس ليبكي أو يتباكي ساعة واحدة علي الحسين (عليه السلام)، فينال ما أعدّ له من ثواب البكاء أو التباكي، والإمام السجاد يبكي علي أبيه البكاء المقرح مدة حياته، ولا يكون له علي الله ثواب!! لأن الأمر القهري - بأي المعنيين أراده الكاتب - لا يستحق فاعله من الثواب شيئاً بحكم العقل، ولا كرامة!!!

سبحان الله! أما كان بإمكان السجاد (عليه السلام) في تلك المدة الطويلة التي تنيف - بلا ريب - عن عشرين عاماً، أن يروض جماح نفسه ويصد طبعه عما هو عليه، كما يفعل ذلك غيره من غير واجبي العصمة، ليبكي علي أبيه بكاء أداني الناس عليه لينال الجزاء بذلك البكاء!!!

قوله: (وما كان منه اختيارياً، فحاله حال ما مرّ) إن أراد به ترتّب الإيذاء علي الأمر الاختياري من الأمور السالفة النقل عن الإمام السجاد (عليه السلام)، وأنه لا يعلم بترتبه عليه، وإلاّ لم يجز له ذلك، فمع أن النظر في سيرته يكذّبه، يرجع إلي تجهيل الإمام وفعله الحرام، وهذه (شنشنة أعرفها من أخزم).

وإن أراد به أنه محمول علي صورة عدم خوف الضرر الموجب لحرمة الفعل، كان مكابراً، لأن امتناع الصائم دهره عن الطعام والشراب الذي هو أحد الأمور الاختيارية له، موجب للضرر لو تجرد عن مثل مقارنته لذلك البكاء المقرح الذي يمتزج بدموعه طعامه وشرابه، فضلاً عما قارنه ذلك. علي أن خوف الضرر لا أثر له في الحرمة علي رأي الكاتب، كما أسلفناه.


پاورقي

[1] سيماء الصلحاء: 80.

[2] التنزيه: 20.

[3] مناقب آل أبي طالب 4: 166. لکن الذي فيه (حتي يملأه دمعاً). م.

[4] تعتقد الإمامية أن الإمام لا تختلف حاله في الاختيار والاضطرار حتي حال النوم، وقد بالغوا في ذلک حتي قالوا أنه لا يتثاءب ولا يتمطّي.

[5] منها تاريخ ابن الأثير ج 2، ص 122، الطبعة الأولي.

[6] صحيح البخاري 5: 9، 28 - کتاب المغازي، باب مرض النبي و...-، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 6: 51، مسند أحمد بن حنبل 1: 324 - 325، 336. م.

[7] ورد في بعض أخبار الطف أنّ الحسين (عليه السلام) لما برز ولده الأکبر، لم يملک نفسه عن البکاء. [البحار 44: 321]. وفي خبر أبي بصير المروي في (الکامل) عن الصادق (عليه السلام)، أنه (عليه السلام) بکي وقال: (يا أبا بصير! إذا نظرت إلي ولد الحسين (عليه السلام) أتاني ما لا أملکه بما أوتي إليهم وإلي أبيهم). [کامل الزيارات: 82]. ولکن يُراد بهذا - حسب ما هو متعارفٌ في المحاورات - أنه (عليه السلام) تدرکه غاية الدقة بتذکّر المصاب نحو الرقة علي اليتيم والضعيف والمظلوم، لا صدور البکاء بلا اختيار، فإنه لا يکاد أن يکون معقولاً، وإن کرّره الکاتب في مواضع کثيرة.

[8] قال العلامة المجلسي في (جلاء العيون) - ما ترجمته -: (إن بکاء المقرّبين بعضهم بعضاً ليس لأجل المحبة البشرية، بل لأغراض أُخر. والسجاد لما کان عالماً من أبيه ما يخفي علي غيره، ويعلم أنه أحب الخلق إلي الله، وأن قتله سبب لضلالة الناس وضياع الدين منهم بقتل الإمام، بکي لذلک). وسواء أتمّ هذا في نفسه أم لا، فإنه صريح بتنزيه الإمام عن کون بکائه لطبيعة الوالدية والولدية.