بازگشت

في اجمال نتيجة ما تقدم و رد ما يعيب به العائبون علي اقامة المآتم


قد عرفت مما بيناه في الفصول السابقة ان ما يعيبنا به العائبون علي اقامة هذه المآتم مما ذكرناه في صدر الكتاب لا عيب فيه.

أما قولهم: ان أمرا وقع قبل ألف و مئات من السنين ما معني اعادة ذكره كل عام؟

فيدفعه أن مثل هذه الفاجعة العظيمة لا تنسي علي ممر الدهور و الأعوام، و فيما بيناه من فوائدها المنقولة و المعقولة غنية عن اعادة الكلام، و قد عرفت في الفصل السادس جواب من قال: خفنا أن ينكر قتله كما انكرت بيعة الغدير.

و أما قولهم: ان يزيد قتل الحسين مرة، و انتم تقتلونه في كل عام مرة.

فتموية واضح يقصد به ستر فضائح يزيد و من مهد له بعد اعادة ذكرها علي الاسماع، و الا فهذه المآتم احياء لذكر الحسين عليه السلام و لذكر فضائله و لا تشتمل علي اسناد أمر قبيح اليه حتي تكون اعادة ذكرها في كل عام مضرة.

نعم، تشتمل علي اسناد القبائح الي قاتليه.

و أما قولهم: ان الامر الفظيع لا ينبغي اعادة ذكره، بل ينبغي تناسيه.

و قولهم: ان في اعادة ذكره حطا من مقام أهل البيت عليهم السلام، فيرده ما أطبق العقلاء عليه من اقامتهم التذكار لعظماء رجالهم الذين قتلوا في سبيل الامور


السامية في كل عام، و ذكر ما وقع من الفظائع و الظلم علي العظماء لا يعد حطا من مقامهم، و لقد نقل الله تعالي في كتابه شئيا كثيرا مما قيل في سب الأنبياء و عيبهم من مكذبيهم، و نقل عن اليهود قولهم: (يد الله مغلولة) [1] و غير ذلك مما لا يحصي كثرة.

و من هذا القبيل ما نقل لنا: ان بعض الناس عاب علي الذاكرين لفاجعة كربلاء ذكرهم أسماء النساء؛ كزينب و ام كلثوم و سكينة، فجاء الذاكر في اليوم التالي و قال: بلغني ان بعض الناس يعيب علينا ذكر أسماء نساء أهل البيت في المجالس، و ان الله تعالي قد ذكر مريم ابنة عمران عليهاالسلام في كتابه العزيز الذي يتلي في كل مجلس فقال: (و مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) [2] فذكر اسمها و ذكر معه لفظ الفرج.

و أما توهم بعضهم ان ذلك بدعة، فقد عرفت من مجموع ما تقدم انه لا يشتمل الا علي السنن و المستحبات أو المباحات علي الأقل و لا مساس له بالبدعة التي هي ادخال ما ليس من الدين في الدين أمثال ضرب الدفوف و التغني و الرقص و نحو ذلك بعنوان ذكر الله تعالي و عبادته.

و ان من أقبح البدع و أشنعها اتخاذ يوم قتل ابن رسول الله صلي الله عليه و آله يوم عيد و فرح و سرور، يوسع فيه علي العيال، و تشتري فيه الألبان، و يتوسع في المطاعم و الحلوي، و اتخاذ الأواني الجديدة، و الاكتحال و دخول الحمام، و يعتل لذلك بأنه عيد رأس السنة، مع أن رأس السنة ليس يوم عاشوراء، بل أول يوم من المحرم، فما بالهم لا يفعلون ذلك في أول يوم من المحرم و يفعلونه


يوم عاشوراء، فراجع ما نقلناه عن المقريزي في صدر الكتاب.

و قال ابن منير الدين الطرابلسي في رائيته المشهورة:



و حلقت في عشر المحرم

ما استطال من الشعر



و نويت صوم نهاره

و صيام أيام اخر



و لبست فيه أجل ثوب

للملابس يدخر



و سهرت في طبخ الحبوب

من العشاء الي السحر



و غدوت مكتحلا اصافح

من لقيت من البشر



و وقفت في وسط الطريق

أقص شارب من عبر



و اما ما سود به السوداني صحيفته فنقول في نقضه:

أما جعله حديث من وسع علي عياله يوم عاشوراء... الخ من الموضوعات، فقد أصاب فيه، و لكنه أخطأ في تخصيص الوضع بالخوارج [3] ، بل الواضع لذلك بنوامية و اتباعهم من علماء السوء، الذين كانوا يبذلون لهم الأموال الجزيلة، و يولونهم الولايات الجليلة ليضعوا لهم الأحاديث في تنقيص علي و ولده، و في التوسعة علي العيال في يوم قتل ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و اجزاء مراسم الأعياد.

و ألي ذلك أشار السيد الرضي الله عنه بقوله:




كانت مآتم بالعراق تعدها

أموية بالشام من أعيادها [4] .



و قد عرفت في صدر الكتاب ما نقلناه عن المقريزي من أن الذي سن هذه السنة لأهل الشام هو الحجاج في زمن عبدالملك بن مروان، و أن أول من أدخلها الي مصر بنوأيوب، و الصحيح ان الذين سنوها هم بنوامية كلهم و أتباعهم من زمن يزيد لا خصوص الحجاج، و لما دخل سهل بن سعد الصحابي الشام رآهم قد علقوا الستور و الحجب و الديباح و هم فرحون مستبشرون، و عندهم نساء يلعبن بالدفوف و الطبول، فقال في نفسه: أتري لأهل الشام عيدا لا نعرفه؟ ثم علم أن ذلك بسبب دخول رأس الحسين عليه السلام فعجب لذلك.

الا أن يريد السوداني الخوارج و من علي شاكلتهم من أتباع بني امية فيكون كلامه صحيحا.

و أخطأ السوداني أيضا في نسبته الي شيعة أهل البيت الذين نبزهم بالرافضة، التظاهر بالزينة في يوم عاشوراء، بل ذلك اليوم يوم حزن عندهم لا يوم زينة، و الحزن فيه سنة لا بدعة بما مر من الأدلة، و كذلك الاطعام، و لكن السوداني أبي له تقليده و نصبه الا مصادمة الحق.

و أما قوله: و طفقوا يروون الأكاذيب كعادتهم، فقد كذب فيه، فان عادة شيعة أهل البيت الصدق و الورع توارثوها من امام الصادقين علي بن أبي طالب عليه السلام، و من أبي ذر الذي شهد له رسول الله صلي الله عليه و آله بأنه: «ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء علي ذي لهجة أصدق منه» [5] ، و من


امامهم جعفر الصادق الذي لقب بالصادق لصدق حديثه، و من سلفهم الذين لا يقبلون الا رواية العدل الثقة، و بعضهم يشترك توثيقه بعدلين، و بعضهم لا يقبل خبر الواحد.

و توراث غير هم عادته ممن أقاموا خمسين شاهدا أو اربعين يشهدون زورا لام المؤمنين ان هذا ليس ماء الحوأب حين نبحتها كلابه [6] و ممن أخذوا الجوائز الطائلة، و ولوا الولايات الجليلة ليرووا الأجاديث المكذبة، مثل: ان قوله تعالي: (و اذا تولي سعي في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل) [7] نزلت في علي بن ابي طالب و انه غاظ رسول الله صلي الله عليه و آله بخطبته بنت أبي جهل حتي قام صلي الله عليه و آله خطيبا بذلك، و ما كان علي عليه السلام ليتزوج علي فاطمة و لا كان رسول الله صلي الله عليه و آله ليغضب من ذلك لو فعل و الا لكان ذلك قدحا فيه (و العياذ بالله) الي غير ذلك.

و ممن يقبلون رواية عمران بن حطان مادح ابن ملجم علي قتله لأميرالمؤمنين و أمثال هؤلاء.


فأي الفريقين أحق بالكذب يا أيها السوداني؟

و أما قوله: فان قتل الحسين فقد قتل من هو خير منه... الخ.

فانا نسأل السوداني: هل بكي النبي صلي الله عليه و آله و أصحابه علي جميع من ذكرهم قبل قتلهم؟ و هل بكت السماء و الأرض عليهم بالدم، و الشمس بالكسوف، و ناحت عليهم الجن؟ و هل سبيت نساؤهم و هن بنات الوحي، و أطفالهم و هم ذرية النبي صلي الله عليه و آله؟ و هل حملت رؤوسهم من بلد الي بلد؟ و هل ديست أجسامهم بحوافر الخيل؟ و هل كان قتلهم مشيدا لقواعد الدين، و مظهرا لفضائح أعدائه و درسا في الشجاعة و اباء الضيم.

و ما أشبه قياس السوداني هذا بما يحكي ان رجلا صعد علي سطح و عبد صعوده سقط الدرج، و لم يمكنه النزول فأخبروا العارفة بذلك، فأمرهم أن يرموا له حبلا يربط نفسه به، ثم يجروه الي اسفل، ففعلوا فتكسر و مات، فاخبروا العارفة فتعجب و قال: أنا أخرجت عدة اناس من البئر بهذه الكيفية و لم يموتوا! و لنعم ما قال الشيخ صالح الكواز [8] :



زعمت امية ان وقعة دارها

ملث الطفوف و ذاك غير سواء



أين القتيل علي الفراش بداره

من خائض الغمرات في الهيجاء



ليس الذي اتخذ الجدار من القنا

حصنا كمقريهن في الاحشاء



و أما قوله: و ان كانوا يريدون تألب الناس علي بغض بني امية... الخ.

فنقول له: بل يريدون بحزنهم علي مصيبة ابن بنت نبيهم مواساة نبيهم في


ذلك التي حرموا منها، و ثواب الله تعالي الذي وعده علي ذلك، و اظهار فضائح المنافقين، فمن السخافة المتناهية المدافعة و المنافحة عنهم و ارادة ستر معائبهم، و هيهات و الغفلة أو التغافل عن فوائد اقامة الذكري لعظماء الرجال و سادات الاسلام، و تهجين و تقبيح مواساة الرسول صلي الله عليه و آله في مصيبة ولده، و تصويرها بأقبح الصور، و الغفلة أو بالتغافل عن ذلك يؤذي رسول الله صلي الله عليه و آله و يغضبه، و مخالفة جميع العقلاء في اقامة الذكري لعظمائهم في كل عام كما عرفت.

و اما قوله: و أمامهم اليوم في الشرق و الغرب.... الخ.

فهل هذا الذي هو أمامه في الشرق و الغرب ليس امامه؟ فما باله بشتغل بتقبيح ما أجمع العقلاء و جميع أهل الأديان علي حسنه الا من أعماه الهوي و الغرض، و يوغر الصدور، و يفرق كلمة المسلمين في زمان هم فيه أحوج الي الاتفاق بما يبدو أمامهم في الشرق و الغرب ان كان من الصادقين.

و هل الشيعة باقامتهم هذه المآتم أخلوا بواجبهم تلقاء ما يبدو أمامهم في الشرق و الغرب و قام به هو بما يسطره في مجلته من تفريق كلمة المسلمين؟!

و أما قوله: و ان كانوا يريدون التوصل بذلك الفعل الشنيع... الخ.

فنقول: الفعل الشنيع الذي لا شي ء أشنع منه تسميته مواساة النبي صلي الله عليه و آله في مصيبة ولده فعلا شنيعا، و تصورة انهم يريدون بذلك التوصل الي الامارة و الملك من التصورات النسوانية او الصبيانية التي تمثله بأشنع مثال في أعين من يقرأ مجلته لو كان يعقل ما يقول.


و ليكن هذا آخر ما نورده في هذا الكتاب، و الحمدلله وحده، و صلي الله علي من لا نبي بعده.

و وافق الفراغ منه عصر يوم الأربعاء السابع عشر من شهر ذي القعدة الحرام سنة ثلاث و أربعين بعد ثلاثمائه و ألف بمدينة دشمق المحيمة و تم تبييضه و تنقيحه قبيل ظهر يوم السبت الثالث من شهر جمادي الثانية سنة 1344 بشقراء من جبل عامل مع تشتت الأحوال، و اشتغال البال، و امتلاء سوريا بالفتن و القلاقل ضد الفرنسيين، و اشتعال فتنة الدروز معهم.

و كتب بيده الداثرة مؤلفه الفقير الي عفو ربه الغني محسن ابن المرحوم السيد عبدالكريم الحسيني العاملي نزيل دمشق، تجاوز الله عن سيئاته حامدا مصليا مسلما.


پاورقي

[1] سورة المائدة: 64.

[2] سورة التحريم: 12.

[3] في هامش الاصل: «الذي بلغنا ان الخوارج الاباضية في زنجبار يقيمون مراسم الحزن يوم عاشوراء لا مرسام الأعياد، و انهم بقدر بغضهم لعلي و ولده الحسن عليهماالسلام يحبون الحسين عليه‏السلام لقيامة بالسيف، و مقاومته للظلم کما نبه عليه المسيو ماربين الألماني فيما مر من کلامه في الفصل السابع، فما ندري من أين أتي السوداني بأن وضع ذلک الحديث من الخوارج؟ منه رحمه الله».

[4] ألقي هذه القصيدة في يوم عاشوراء سنة 391 ه، انظر سير اعلام النبلاء 258: 17.

[5] مسند أحمد 175: 2، صحيح مسلم باب مناقب أبي‏ذر 153: 7، مجمع الزوائد للهيثمي 197: 5، مشکل الاثار للطحاوي 224: 1، الکامل في الضعفاء لابن عدي 1816: 5.

[6] قال الطبري في تاريخه: انه لما بلغ طلحة و الزبير منزل علي بذي قار انصرفوا الي البصرة فأخذوا علي المنکدر، فسمعت عائشة (رض) نباح الکلاب فقالت: أي ماء هذا؟

فقالوا: الحوأب.

فقالت: انا لله و انا اليه راجعون اني لهيه، قد سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول و عنده نساؤه: ليت شعري أيتکن تنبحها کلاب الحوأب، فأرادت الرجوع، فأتاها عبدالله بن الزبير فزعم انه قال: کذب من قال ان هذا الحوأب، و لم يزل بها حتي مضت فقدموا البصرة. انظر: تاريخ الطبري 178: 5، عبدالله بن سبأ: 103 - 100.

[7] سورة البقرة: 205.

[8] هو الشيخ صالح الکواز من عشيرة الخضيرات احدي عشائر شمر المعروفة في نجد و العراق ولد سنة 1233 ه و توفي سنة 1290 و دفن في النجف الاشرف.