ذكر مقتل عبيدالله بن الحر
قال: و كان مصعب بن الزبير يومئذ بالبصره و خليفته الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعه بالكوفه. فلما بلغه ما فيه عبيدالله بن الحر من قله أصحابه اغتنم ذلك، فدعا برجل من بني سليم يقال له عبيد بن العباس: فضم اليه خمسائه فارس و أمره بالمسير الي عبيدالله بن الحر.
قال: فسارت الخيل نحو عبيدالله بن الحر، فلما نظر الخيل و قد وافته التفت الي من بقي من أصحابه فقال: يا بني ألاحرار! اركبوا خيولكم و موتوا كراما! و إلا اخذتم أساري فعرضتم علي السيف كما عرض أصحاب المختار من قبلكم.
قال: فركب أصحابه و هم يومئذ أقل من خمسين رجلا، وركب عبيدالله بن الحرو جعل يقول:
يا لك يوما قل فيه ثقتي،
و غاب عني معشري و اسرتي
مذحج طرا و جل إخوتي
و صحبتي الحامون لي في كربتي
يا قيس غيلان اصبتم فرصتي
و ما أبالي أن أتت منيتي
قال: ثم حمل عليهم في أصحابه علي قتلهم، فقاتل ساعه فقتل من أصحابه نيف علي ثلاثين رجلا و بقي في بضعه عشر رجلا، فقاتل حتي بقي خمسه، فجعل يرتجز و يقول:
لو أن لي من شيعتي رجالا
مساعرا اعرفهم أبطالا
لأحسنوا من دوين القتالا
و لم يهابوا في الوغي الآجالا
قال: و قتل أصحابه الخمسه فبقي عبيدالله بن الحر يقاتل وحده و أحاطت به الخيل من كل جانب.
قال: فطعنه رجل من بني محارب يكني أبا كديه، فصرعه عن فرسه علي شاطي ء الفرات و غار فرسه، فوثب قائما و بقي يقاتلهم راجلا في جوف الماء، و القوم يرمونه بالسهام، و لا يدنو أحد منه غير أنهم يقولون: كيف تري هذه السهام يابن الحر!
فقال لهم: إن كنتم رجالا كما تزعمون فابرزوا الي واحدا بعد واحد حتي تعلموا أينا ابن الحر!
قال: و اثخن بالجراحات فلم يستطع أن يقاتل القوم، فعمد الي زورق من تلك الزوراق، فجلس فيه و قال لصاحبه: عبرني الي ذلك الجانب من الفارت و سلبي لك!
قال: فجعل صاحب زورق يقذف به حتي صار الي نصف الفرات و أصحاب مصعب ينادون صاحب الزورق: ويحك أيها الملاح! إن الذي معك هو طلب اميرالمومنين عبدالله بن الزبير و طلب مصعب بن الزبير، فاحذر علي نفسك ورد الزورق الينا و لك عشره آلاف درهم!
قال: فهم الملاح أن يرده اليهم. فلما حول رأس الزورق قام اليه عبيدالله بن الحر ليمنعه من ذلك، فقبض عليه الملاح و كان قويا في بدنه فاعتنقا جميعا و اضطربا في الزورق ثم سقطا جميعا في الفرا فغرقا، و اذا بشيخ علي شاطي ء الفرات ينتف لحيته و يقول: يا بختيار! يا بختيار! فقيل له: ما قصتك يا شيخ؟
فقال: و ما قصتي، هذا الملاح الذي غرق هو ابني بختيار، و كان يقتل هو ألاسد في
هذا البلد وحده اذا قدر عليه لشجاعه و شدته، و كان يحمل هذا الزورق الذي لا يحمله عشرون رجلا فيخرجه من الفرات و يقيره و يرده الي الماء وحده، حتي بلي بشيطانكم هذا فلم يفارقه حتي رمي به و غرق.
قال: فجعل اصحب مصعب بن الزبير يضحكون من اليخ و يوقولن له: لا عليك يا شيخ فإن الذي غرق ابنك و غرق معه عبيدالله بن الحر الجعفي، و لم يكن بالعراق أشجع منه قلبا، فتعز عن ابنك و احتسبه.
قال: فقال الشيخ: إن ابني لم يكن يغرقه إلا شيطان من شياطين هذه الدنيا.
قال: ثم دعا أصحاب مصعب بن الزبير بالغواصين، فغاصوا في الفرات حتي اخرجوا عبيدالله بن الحر من الماء فاحتزوا رأسه و صلبوه علي شاطي ء الفرات، ثم بعثوا برأسه الي امير الكوفه الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعه، فوجه الحارث بالرأس الي مصعب بن الزبير بالبصره، و وجه مصعب بالراس الي أخيه عبدالله بن الزبير.
قال: و بلغ ذلك عبدالملك بن مروأن فجزع عليه جزعا شديدا، ثم قال: لله درك يابن الحر! قد كنت فارس حرب و كاشف كرب و فارس همه، و سداد ثغر، فلأسعدنك الله حيا و ميتا، فلعمري لقد بلوك فما و جدوك خوارا و لا فرارا، لكنهم ألفوك كرارا نفاعا ضرارا، و بالله يحلف عبدالملك ليأخذن بثأرك و ثأر غيرك إن شاء الله و لا قوه إلا بالله.
قال: فأنشأ انس بن معاويه البكري يقول أبياتا مطلعها:
يا عين ابكي عبيدالله ما طلعت
شمس النهار و اذري الدمع تسكأبا
الي آخرها.