ذكر (مسير) عبيدالله بن زياد و نزوله الكوفه و ما فعل بها
قال: فلما تقارب عبيدالله بن زياد من الكوفه نزل، فلما امسي و جاء الليل دعا بعمامه غبراء [1] و اعتجر بها ثم تقلد سيفه و توشح قوسه و تكنن كنانته و اخذ في يده قضيبا و استوي علي بلغته الشهباء، و ركب معه اصحابه، و اقبل حتي دخل الكوفه من طريق الباديه و ذلك في ليله مقمره و الناس متوقعون قدوم الحسين عليه السلام.
قال: فجعلوا ينظرون اليه و الي اصحابه و هو في ذلك يسلم عليهم فيردون عليه السلام، و هم لا يشكون انه الحسين، و هم يمشون بين يديه، و هم يقولون: مرحبا بك يابن بنت رسول الله (قدمت) خير مقدم.
قال: فراي عبيدالله بن زياد من تباشير الناس بالحسين بن علي عليه السلام ما ساءه ذلك و سكت و لم يكلمهم و لا رد عليهم شيئا.
قال: فتكلم مسلم بن عمرو الباهلي و قال: اليكم عن الامير يا ترابيه! فليس هذا من تظنون، هذا الامير عبيدالله بن زياد.
قال: فتفرق الناس عنه و دخل عبيدالله بن زياد قصر الاماره [2] و قد امتلا
غيظا [3] و غضبا. [4] .
فلما اصبح نادي: الصلاه جامعه! فاجتمع الناس الي المسجد الاعظم، فلما علم انهم قد تكاملوا خرج اليهم متقلدا بسيف متعما بعمامه، حتي صعد المنبر فحمد الله و اثني عليه ثم قال: اما بعد يا اهل الكوفه! فان اميرالمومنين يزيد بن معاويه و لاني مصركم و ثغركم و امرني ان اغيث مظلومكم، و ان اعطي محرومكم، و ان احسن الي سامعكم و مطيعكم، و بالشده علي مريبكم، [5] و انا متبع في ذلك امره [6] و منفذ فيكم عهده- والسلام-، ثم نزل و دخل القصر.
فلما كان اليوم الثاني خرج الي الناس و نادي بالصلاه جامعه، فلما اجتمع الناس خرج اليهم بزي خلاف ما خرج به امس، فصعد المنبر فحمد الله و اثني عليه ثم قال: اما بعد فانه لا يصلح هذا الامر الا في شده من غير عنف، ولين في غير ضعف، و ان آخذ منكم البري ء بالسقيم، و الشاهد بالغائب، و الولي بالولي.
قال: فقام اليه رجل من اهل الكوفه يقال له اسد بن عبدالله المري فقال: ايها الامير! ان الله تبارك و تعالي يقول: (و لا تزر وازره وزر اخري)، و انما المرء بجده،
و السيف بحده، و الفرس بشده، و عليك ان تقول و علينا ان نسمع، فلا تقدم فينا السيئه قبل الحسنه.
قال: فسكت عبيدالله بن زياد و نزل عن المنبر فدخل قصر الاماره.
و سمع بذلم مسلم بن عقيل و بقدوم عبيدالله بن زياد و كلامه، فاكانه اتقي علي نفسه، فخرج من الدار التي [7] هو فيها في جوف الليل حتي اتي دار هاني ء بن عروه المذحجي رحمه الله فدخل عليه؛ فلما رآه هاني ء قام اليه و قال: ما وراءك جعلت فداك؟
فقال مسلم: ورائي ما علمت، هذا عبيدالله بن زياد الفاسق ابن الفاسق قد قدم الكوفه فاتقيته علي نفسي، و قد اقبلت اليك لتجيرني و تاويني حتي انظر الي ما يكون.
فقال له هاني ء بن عروه: جعلت فداك! والله لقد كلفتني شططا! و لولا دخولك داري لاحببت ان تنصرف، غير اني اري ذلك عارا علي ان يكون رجل اتاني مستجيرا، فانزل علي بركه الله. [8] .
قال: فنزل مسلم بن عقيل في دار هاني ء المذحجي. و جعل عبيدالله بن زياد يسال عنه فلم يجد من يرشده عليه، و جعلت الشيعه تختلف الي مسلم رحمه الله في دار هاني ء و يبايعون للحسين سرا، و مسلم بن عقيل يكتب اسماءهم و ياخذ عليهم العهود و المواثيق لا يركنون و لا يعذرون، حتي بايع مسلم بن عقيل نيف و عشرون الفا.
قال: و هم مسلم بن عقيل ان يثب الي عبيدالله بن زياد فيمنعه هاني ء من ذلك و يقول: لا تعجل فان العجله لا خير فيها.
و دعا عبيدالله بن زياد بمولي له يقال له معقل فقال: هذه ثلاثه آلاف درهم خذها اليك و التمس لي مسلم بن عقيل حيث كان من الكوفه، فاذا عرفت موضعه فادخل اليه و اعلمه انك من شيعته و علي مذهبه و ادفع اليه هذه الثلاثه آلاف درهم و قل له: استعن بهذه علي عدوك، فانك اذا دفعت اليه الثلاثه آلاف درهم وثق بناحيتك و اطمان عليك و لم يكتمك من امره شيئا، و في غداه غد تعدو علي بالاخبار.
قال: فاقبل معقل مولي عبيدالله بن زياد حتي دخل المسجد الاعظم، فراي رجلا من الشيعه يقال له مسلم بن عوسجه الاسدي فجلس اليه فقال: يا عبدالله اني رجل من اهل الشام [9] غير اني احب اهل هذا البيت و احب من احبهم، و معي ثلاثه آلاف درهم اريد ان ادفعها الي رجل قد بلغني عنه انه يقدم [10] الي بلدكم هذا ياخذ البيعه لابن بنت رسول الله صلي الله عليه و آله الحسين بن علي عليه السلام، فان رايت هل تدلني عليه حتي ادفع اليه المال الذي معي و ابايعه؟و ان شئت فخذ بيعتي له قبل [11] ان تدلني عليه.
قال: فظن مسلم بن عوسجه ان القول علي ما يقول: فاخذ عليه الايمان المغلظه و المواثيق و العهود و انه يناصح و يكون عونا لمسلم بن عقيل رحمه الله علي عبيدالله بن زياد.
قال: فاعطاه موثقا من الايمان ما وثق به مسلم بن عوسجه، ثم قال له: انصرف
عني الآن يومي هذا حتي انظر ما يكون!
قال: فانصرف معقل مولي زياد. [12] .
قال: و مرض شريك بن عبدالله الاعور الهمداني في منزل هاني ء بن عروه، و عزم عبيدالله بن زياد علي ان يصير اليه فيجتمع به، و دعا شريك بن عبدالله مسلم بن عقيل فقال له: جعلت فداك! غدا ياتيني هذا الفاسق عائدا و انا مشغله لك بالكلام، فاذا فعلت ذلك فقم انت اخرج اليه من هذه الداخله فاقتله! فان انا عشت فساكفيك امر النصره ان شاء الله.
قال: فلما اصبح عبيدالله بن زياد ركب و سار يريد دار هاني ء ليعود شريك بن عبدالله، قال: فجلس و جعل يسال منه.
قال: و هم مسلم ان يخرج اليه ليقتله فمنعه من ذلك صاحب المنزل هاني ء، [13] ثم قال: جعلت فداك! في داري صبيه و اماء و انا لا آمن الحدثان.
قال: فرمي مسلم بن عقيل السيف من يده و جلس و لم يخرج، و جعل شريك بن عبدالله يرمق الداخله و هو يقول:
ما تنظرون بسلمي عند فرصتها
فقد وفي ودها و استوسق الصرم
[14] .
فقال له عبيدالله بن زياد: ما يقول الشيخ؟ [15]
فقيل له: انه مبرسم. [16] اصلح الله الامير.
قال: فوقع في قلب عبيدالله بن زياد امر من الامور فركب من ساعته و رجع الي القصر. [17] .
و خرج مسلم بن عقيل الي شريك بن عبدالله من داخل الدار. فقال له شريك: يا مولاي جعلت فداك! ما الذي منعك من الخروج الي الفاسق، و قد كنت امرتك بقتله و شغلته لك بالكلام؟
فقال: منعني من ذلك حديث سمعته من عمي علي بن ابي طالب عليه السلام انه قال: الايمان قيد الفتك، [18] . فلم احب ان اقتل عبيدالله بن زياد في منزل هذا الرجل. فقال له شريك: والله! لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا منافقا.
قال: ثم لم يلبث شريك بن عبدالله الا ثلاثه ايام حتي مات- رحمه الله-.
و كان من خيار الشيعه غير انه يكتم ذلك الا عمن يثق به من اخوانه.
قال: و خرج عبيدالله بن زياد فصلي عليه و رجع الي قصره، فلما كان من الغد اقبل معقل مولي عبيدالله بن زياد الي مسلم بن عوسجه فقال له: انك كنت و عدتني ان تدخلني علي هذا الرجل فادفع اليه هذا المال، فما الذي بدا لك في ذلك؟
فقال: اذا اخبرك يا اخا اهل الشام! انا شغلنا بموت هذا الرجل شريك بن عبدالله و قد كان من خيار الشيعه و ممن يتوالي اهل هذا البيت.
فقال معقل مولي عبيدالله بن زياد: و مسلم بن عقيل في دار هاني ء؟
فقال: نعم.
قال: فقال معقل: فقم بنا اليه حتي ندفع اليه هذا المال و ابايعه.
قال: فاخذ مسلم بن عوسجه بيده فادخله علي مسلم بن عقيل فرحب به مسلم و قربه و ادناه و اخذ بيعته و امر ان يقبض منه ما معه من المال. فاقام معقل مولي عبيدالله بن زياد في منزل هاني ء يومه ذلك، حتي اذا امسي انصرف الي عبيدالله بن زياد معجبا لما قد ورد عليه من الخبر.
ثم قال (عبيدالله) لمولاه: انظر ان تختلف الي مسلم بن عقيل في كل يوم لئلا يستربيك و ينتقل من منزل ابن هاني ء الي مكان غيره فاحتاج ان القي في طلبه عتبا. [19] .
قال: ثم دعا عبيدالله بن زياد محمد بن الاشعث بن قيس و اسماء بن خارجه الفزاري و عمرو بن الحجاج الزبيدي. فقال: خبروني عنكم ما الذي يمنع هاني ء بن عروه من المصير الينا؟ [20] .
فقالوا: انه مريض فقال عبيدالله بن زياد: قد كان مريضا غير انه قد بري ء من علته و يجلس علي باب داره، فعليكم ان تصيروا اليه و تاموره ان لا يدع ما يجب عليه من حقنا، فاني لا احب ان استفسر رجلا مثله لاني لم ازل له مكرما.
فقالوا: نفعل اصلح الله الامير، نلقاه في ذلك و نامره بما تحب.
قال: فبينا عبيدالله بن زياد من هولاء القوم في محاوره اذ دخل عليه رجل من اصحابه يقال له عبدالله بن يربوع التميمي فقال: اصلح الله الامير! ههنا خبر،فقال له ابن زياد: و ما ذاك؟
قال: كنت خارج الكوفه اجول علي فرسي و اقلبه اذ نظرت الي رجل قد خرج من الكوفه مسرعا يريد الباديه، فانكرته ثم لحقته و سالته عن حاله و امره، فذكر انه من اهل المدينه؛ ثم نزلت عن فرسي ففتشته فاصبت معه هذا الكتاب.
قال: فاخذ عبيدالله بن زياد الكتاب ففضه و قراه و اذا فيه مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي، اما بعد فاني اخبرك انه قد بايعك من اهل الكوفه نيف و عشرون الفا، فاذا بلغك كتابي هذا فالعجل العجل، فان الناس كلهم معك و ليس لهم في يزيد بن معاويه راي و لا هوي- والسلام-.
قال: فقال ابن زياد: اين هذا الرجل الذي اصبت معه هذا الكتاب؟
قال: بالباب.
فقال: ائتوني به!
فلما دخل و وقف بين يدي ابن زياد فقال له: من انت؟
قال: انا مولي لبني هاشم.
قال: فما اسمك؟
قال: اسمي عبدالله بن يقطين.
قال: من دفع اليك هذا الكتاب؟
قال: دفعه الي امراه لا اعرفها.
قال: فضحك عبيدالله بن زياد و قال: اخبرني واحده من ثنتين: اما ان تخبرني من دفع اليك هذا الكتاب، فتنجو من يدي، و اما ان تقتل.
فقال: اما الكتاب فاين لا اخبرك من دفعه الي، و اما القتل فاني لا اكرهه، فاني لا اعلم قتيلا عندالله اعظم ممن يقتله مثلك.
قال: فامر عبيدالله بن زياد بضرب عنقه، فضربت رقبته صبرا- رحمه الله-
ثم اقبل علي محمد بن الاشعث و عمرو بن الحجاج و اسماء بن خارجه فقال: صيروا الي هاني ء بن عروه فاسالوه ان يصير الينا فانا نريد مناظرته.
پاورقي
[1] في الطبري: «عمامه سوداء».
[2] انتهي الي القصر و فيه النعمان بن بشير، فتحصن فيه، ثم اشرف عليه. فقال: يابن رسولالله ما لي و لک؟ و ما حملک علي قصد بلدي من بين البلدان؟ فقال ابن زياد: لقد طال نومک يا نعيم. و حسر اللئام عن فيه، فعرفه ففتح له. و تنادي الناس: ابن مرجانه، و حصبوه بالحصباء، ففاتهم و دخل القصر. (انظر الطبري، 359:5).
[3] بالاصل: «غيضا».
[4] في الطبري ج 4: «قال الا اري هولاء کما اري».
[5] في الطبري:«مريبکم و عاصيکم».
[6] في الطبري: «و انا متبع فيکم امره».
[7] بالاصل: «الذي، و قد تقدم انه نزل في دار المختار بن ابيعبيد. و قيل غير ذلک. انظر ما لا حظنا في مکانه. (انظر الطبري: ج 4).
[8] انظر الطبري ج 4.
[9] زيد في الطبري: «مولي لذي الکلاع».
[10] الطبري: قدم.
[11] الطبري: قبل لقائه.
[12] العباره في الطبري: قال له: اختلف الي اياما في منزلي، فانا طالب لک الاذن علي صاحبک، فاخذ يختلف مع الناس فطلب له الاذن.
[13] في روايه الطبري ج 4: «ان هانئا مرض فجاءه عبيدالله عائدا له، فقال له عماره بن عبيدالسلولي: انما جماعتنا وکيدنا قتل هذا الطاغيه، فقد امکنک الله منه فاقتله فقال هانيء: ما احب ان يقتل في داري، فخرج، فما مکث الا جمعه حتي مرض شريک بن الاعور، فارسل اليه عبيدالله: اني رائح اليک العشيه، فقال لمسلم: ان هذا الفاجر عائدي العشيه، فاذا جلس فاخرج اليه فاقتله...».
[14] في بعض المصادر:
ما تنظرون بسلمي ان تحييوها
اسقوني شربتي و ان منيتي فيها.
[15] في الطبري ج 4: ارتونه بهجر «يهذي».
[16] مبرسم: من البرسام. معرب و بر تعني الصدر، و سام من اسماء الموت.
[17] کان مع عبيدالله بن زياد مهران مولي له، و کانه قد انتبه و بعد ان کرر شريک کلامه «اسقوني ماء» ان في الامر مکيده و غدرا فغمز مولاه عبيدالله فوثب و خرج من الدار، فقال له مهران: اراد والله قتلک. (انظر الطبري ج 4).
[18] في الطبري، ج 4: ان الايمان قيد الفتک و لا يفتک المومن.
[19] في الاخبار الطوال، ص 236: «فکان الشامي بغدو الي مسلم بن عقيل فلا تحجب عنه، فيکون نهاره کله عنده فيتعرف جميع اخبارهم، فاذا امسي و اظلم عليه الليل دخل علي عبيدالله بن زياد فاخبره بجميع قصصهم و ما قالوا و فعلوا في ذالک و اعلمه بنزول مسلم في دار هانيء بن عروه.
[20] في الطبري: «اتياننا» و کان هانيء بن عروه، و بعد نزول مسلم بن عقيل في داره، قد آثر عدم الخروج و تمارض و جعل لا يخرج و قد کان قبل يغدو و بروح الي عبيدالله.