بازگشت

تأمل و ملاحظات


1) تعاملَ الامام عليه السلام القائد الربّانيّ مع الظالين والمُغرَّر بهم والمشلولين نفسياً من أبناء هذه الامة معاملة الاب الرؤوف الحاني مالم يقع بينه وبينهم السيف وذلك لانّ غاية الامام عليه السلام أساساً هي دعوتهم الي الحقّ والهدي، وقد تجسّدت هذه الروح الابوية الحانية في سقاية هؤلاء القادمين بأمر ابن زياد


للجعجعة به عليه السلام، وإروائهم في ساعة هم أشدّ ما يكونون فيها حاجة إلي الماء، وكأنّه عليه السلام كان قد أحياهم بعد احتضارٍ من شدّة العطش! بل لقد تجلّت رأفته وحنّوه عليه السلام كخليفة للّه علي كلّ خلقه أيضاً في إرواء الخيل والدوابّ الاخري وترشيفها ولاشكّ أنّ هذه الاخلاقية الربّانية حجّة بالغة علي أولئك القوم، تهزّ ضمائرهم هزّاً عنيفاً وتدفعها دفعاً قويّاً إلي التأمّل والتفكير وتستنطق الفطرة فيهم للاجابة عن هذا السؤال: أيُّ الرجلين أحقّ بالاتباع والاطاعة: الامام عليه السلام أم ابن زياد الجلف الجافي!؟

فلعلَّ ضالاًّ بعد هذه الهزّة في الضمير يستبصر فيهتدي إلي الحقّ ويتّبعه، ومُغرَّراً به تنكشف له حقيقة الامر فيعرف أهل الحقّ وقادته، ومشلولاً في نفسه يتحرر فينطلق بقوّة وعزم للانضمام إلي أهل الحقّ وقد كان ولم يزل يعرفهم!!

2) كان الامام عليه السلام يريد أن يدخل الكوفة حُرّاً وبالطريقة التي يختارها هو!، وكان الحرُّ يريد أن يأخذه إليها أسيراً! بأمر ابن زياد! كان هذا أصل الاخذ والردّ بينهما، لكنّ ما يُلفت الانتباه في هذه النقطة هو أنّ الامام عليه السلام ظلّ مصرّاً علي التوجّه نحو الكوفة حتّي بعد الاختيار الموسّع الذي عرضه عليه الحرّ بن يزيد (رض) في أن يتّخذ طريقاً لاتُدخله الكوفة ولاتردّه الي المدينة، فيذهب حيث يشاء بين ذلك! بل كان الاختيار أوسع علي رواية ابن أعثم الكوفيّ حيث شمل حتّي الرجوع الي المدينة إذا شاء! حين قال له الحرُّ (رض): (أبا عبداللّه، إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنّما أُمرت أن لاأفارقك أو أقدم بك علي ابن زياد! وأنا واللّه كارهٌ إنْ سلبني اللّه بشيء من أمرك! غير أنّي قد أخذتُ ببيعة القوم وخرجت اليك! وأنا أعلم أنه لايوافي القيامة أحد من هذه الامّة إلاّ وهو يرجو شفاعة جدّك محمّد (ص)! وأنا خائف إن قاتلتك أن أخسر الدنيا والاخرة! ولكن خذ عنّي هذا الطريق وامضِ حيث شئت! حتي أكتب إلي ابن زياد أنّ هذا خالفني في الطريق


فلم أقدر عليه!..). [1] .

إنّ إصرار الامام عليه السلام علي التوجّه نحو الكوفة حتّي بعد انتفاء حجّة رسائل أهل الكوفة عمليّاً بعد وصول خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض) إلي الامام عليه السلام كاشف عن أنّ رسائل أهل الكوفة إليه لم تكن السبب الرئيس في توجّهه نحو العراق! وإنْ كان صحيحاً القول إنّه عليه السلام (لم يشاء أن يدع أيّ مجال لامكان القول بأنّه عليه السلام لم يفِ تماماً بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه إلي الكوفة في بعض ‍ مراحل الطريق، حتّي بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها! ذلك لانّ الامام عليه السلام مع تمام حجّته البالغة علي أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر وعلي أكمل الوجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقي ثمّة مجال للطعن في وفائه بالعهد!). [2] .

نعم، هذا سببٌ من جملة الاسباب التي تقع في طول السبب الرئيس في توجّهه عليه السلام نحو العراق: وهو أنّ الامام عليه السلام مع علمه بأنّه مالم يبايع يُقتل كان قد أصرَّ علي العراق لانّه أفضل أرض للمصرع الذي لابُدَّ منه، لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثر بواقعة المصرع والتغيّر نتيجة لها! وقد فصّلنا القول في هذا تحت عنوان (لماذا اختار الامام الحسين عليه السلام العراق) في الفصل الاوّل، فراجع.

3) لم يقصد الامام عليه السلام التخلّي عن نهضته بقوله في خطبته بعد صلاة الظهر:

(.. وإنْ لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلي المكان الذي أقبلتُ منه إليكم!) أو قوله في خطبته بعد صلاة العصر: (وإنْ كرهتمونا وجهلتم


حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم!).

بل كلُّ ما عناه الامام عليه السلام في هذين القولين وفي نظائرهما هو التخلّي عن التوجّه إلي الكوفة مادام لايمكنه أن يدخلها إلاّ أسيراً! وهذا لايعني تخلّيه عن مواصلة القيام والنهضة، بل يعني تغيير مسار حركة الركب الحسينيّ إلي جهة أخري غير الكوفة، سواء بالعودة الي مكّة المكرّمة أو المدينة المنوّرة أو الذهاب إلي اليمن أو أي مكان آخر! هذه حدود المعني المفهوم في قوله عليه السلام: انصرفت عنكم.


پاورقي

[1] الفتوح، 5:139.

[2] الجزء الاوّل من هذه الدراسة: 161؛ مقالة: بين يدي الشهيد الفاتح.