بازگشت

اشارة و تأمل


هذه أهمّ المتون التأريخية التي روت لنا كيف أمسي مسلم بن عقيل ومامعه إلاّ قليل ممّن كان معه عشرة فرسان علي رواية الفتوح، وثلاثون رجلاً ثمّ قلّوا إلي عشرة علي رواية المفيد والطبري ثمّ كيف مضي وحده حتّي وقف علي باب المرأة الصالحة طوعة.

وقد أشارت رواية الفتوح إلي أنّ مسلماًعليه السلام كان قد أُثخن بالجراحات، الامر الذي يدلُّ علي أنه عليه السلام خاض المعارك التي دارت حول القصر بنفسه، ولم يكن قائداً موجِّهاً مرشداً فحسب، وهذا فضلاً عن كونه دليلاً علي شجاعته عليه السلام، فهو دليل أيضاً علي نشوب القتال حول القصر، وعلي أنّ الثوّار كانوا قد حاولوا اقتحامه بالفعل!

لكنَّ الذي يُثير التأمّل في هذه المتون هو طريقتها في عرض كيفية تفرّق هؤلاء الرجال القلّة الذين كانوا آخر الناس ‍ معه! ففي نصّ الفتوح: (وتفرّق عنه العشرة، فلمّا رأي ذلك استوي علي فرسه ومضي..)، وفي نصّ المفيد والطبري: (فما بلغ الابواب إلاّ معه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه، فالتفت فإذا هو لايُحسّ أحداً..).

هذه الطريقة في عرض الحدث تُلقي في روع المطالع أنّ هؤلاء ليس بينهم


وبين جموع الناس الذين انفضّوا بسرعة عن مسلم عليه السلام إلاّ فرق واحد وهو الفارق الزمني في الانفضاض عنه ليس إلاّ! بل تُشعر هذه الطريقة بأنّ هؤلاء القلّة أسواء بكثير من أولئك الذين انفضّوا عنه بسرعة، وذلك لانّ هؤلاء تفرّقوا في الختام عنه وهو أحوج ما يكون إليهم، كما تفرّقوا عنه خفية في غفلة منه! هذا ما يُشعر به التعبير (فالتفت فإذا هو لايحسُّ أحداً...).

وهذا مالايقبل به اللبيب المتدبّر، كما أنه لايوافق طبيعة الاشياء وواقعها، إذ لنا أن نتسأل: ما الذي أبقي هؤلاء إلي الاخير مع مسلم عليه السلام!؟ أهو الطمع؟ وبماذا يطمع هؤلاء مع قائد قد انفضّ عنه أنصاره وبقي وحيداً غريباً لايدري أين يذهب وإلي أين يأوي!؟

أم هو الخوف من عار الانصراف عنه بعد مبايعته، لاشجاعة منهم ولاثباتاً!؟

أفلايعني هذا في مثل هذا الحدّ الادني أنّ هؤلاء ممن يرعي القيم والاخلاق، ويتجافي عن كلّ ما يعود عليه بالذّم!؟ وهل يُحتمل من مثل هؤلاء مع مثل هذا الحفاظ والاخلاقيّة أن يتفرّقوا في بلدهم خفية وفي لحظة غفلة من صاحبهم الوحيد الغريب في أرضهم!؟

أم أنّ الذي أبقي هؤلاء القلّة مع مسلم عليه السلام إلي آخر الامر هو الشجاعة والايمان والثبات علي البيعة؟ وأنّهم كانوا من صفوة المجاهدين في حركة الثّوار تحت راية مسلم عليه السلام، ومن صناديد أهل الكوفة؟

وهذا هو الحقّ! إذ لايشكُّ ذو دراية وتأمّل أنّ قادة الالوية الاربعة: مسلم بن عوسجة (رض) وأبا ثمامة الصائدي (رض) وعبداللّه بن عزيز الكندي (ره) وعباس بن جعدة الجدلي (ره)، وأمثالهم من مثل عبداللّه بن حازم البكري (ره) ونظرائه كانوا من القلّة التي بقيت مع مسلم عليه السلام إلي آخر الامر، ذلك لانّ


من الممتنع علي اخلاقية أمثال ابن عوسجة (رض) والصائدي (رض) وإخوانهم أن يتخلّوا عن مسلم عليه السلام خصوصاً في ساعة العسرة!

إنّ هؤلاء الصفوة من المجاهدين كانوا ممن اشتهر بالايمان والاخلاص والشجاعة والثبات، وقد وفّقوا للشهادة في سبيل اللّه، فهذا مسلم بن عوسجة (رض)، وهذا أبو ثمامة الصائدي (رض) قد وفّقا للفوز بالشهادة بين يدي الامام الحسين عليه السلام في كربلاء، وهذا العبّاس بن جعدة الجدلي (ره) قتله ابن زياد بعد سجن، وهذا عبداللّه أو عبيداللّه بن عمرو بن عزيز الكندي (ره) قتله ابن زياد بعد سجن، وهذا عبداللّه بن حازم البكري (ره) المنادي بكلمة السرّ: يامنصور أمت! ممّن شارك بثورة التوابين وقُتل فيها مما يوحي أنه اختفي أو سجن في أعقاب أحداث الكوفة أيام مسلم عليه السلام، وقِسْ علي ذلك نظراءهم من صفوة المجاهدين في حركة الثوّار تحت راية مسلم بن عقيل عليه السلام.

أفهل يُعقلُ أن يتخلّي أمثال هؤلاء عن مسلم عليه السلام ساعة العسرة ويتفرّقوا عنه في لحظة غفلة منه ويتركوه في الطريق وحيداً غريباً!؟

لاشكّ أنّ التأريخ حينما نقل لنا حادثة تفرّقهم عن مسلم عليه السلام كان قد نقلها بظاهرها فقط، أي بطريقة (صورة بلاصوت) كما يعبّر عنها في أيّامنا هذه! وذلك لانه لم يكن بمقدور التأريخ وهو يشاهد حركة الحدث من بُعد أن ينقل إلينا ما دار من حوار بين مسلم عليه السلام ومن بقي معه إلي آخر الامر!

إنّ التأريخ لايسجّل الهمس والسرار! وإنّ ما يطمئنّ إليه المتتبع والمتأمّل هو أن مسلماًعليه السلام اتّفق مع هذه الصفوة علي التفرّق فرادي والاختفاء تربّصاً بسنوح الفرصة للالتحاق بركب الامام الحسين عليه السلام القادم إلي العراق لمواصلة الجهاد بين يديه، فلم يكن تفرّقهم عن مسلم عليه السلام إلاّ بأمره وإذنه وعن امتثال لامره! هذا ما يفرضه


التصوّر السليم والتحليل الصحيح علي أساس منطق الواقع وطبيعة الاشياء.