بازگشت

تأمل و ملاحظات


1) قد يتسأل المتأمّل عجباً من أمر هاني بن عروة (رض) الذي كان يعرف مكر ابن زياد وغدره، وكانت خبرته السياسية والاجتماعية وتجارب العمر الطويل تفرض عليه أن يحتمل احتمالاً قويّاً أن تكون حركة النهضة قد اخترقت من قبل جواسيس ابن زياد: كيف مضي برجله إلي مواجهة المحذور من إهانة أو حبس أو


قتل دون أن يأخذ الاهبة والاحتياط الكافيين لكلّ احتمالات لقائه بابن زياد، كأن يأخذ معه من رجالات قبيلته (مذحج) مجموعة لايقوي معها ابن زياد علي إهانته أو حبسه أو قتله، أو يوقف عند باب القصر كتيبة من قبيلته تقتحم القصر إذا استبطأته وقتاً محدّداً بينه وبينها!؟

وهذا تساؤل في محلّه تماماً! ومن البعيد جدّاً ألاّ يكون هاني (رض) قد فكّر بتلكم الاحتياطات لمواجهة محذورات لقائه بابن زياد في القصر لو كان رسل ابن زياد إليه من الجلاوزة أو ممّن يرتاب فيهم هاني (رض)، لكنّ الرسل الذين انتقاهم ابن زياد علي علمٍ ومكر هم ممّن لايرتاب هاني (رض) فيهم أو في بعضهم علي الاقلّ، فمنهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي الذي كانت ابنته رويحة زوجة لهاني، وأسماء بن خارجة، أو ابنه حسّان، [1] وهو زعيم قبيلة فزارة، [2] ومحمّد بن الاشعث زعيم قبيلة كندة، [3] فهؤلاء من كُبّار وجهاء الكوفة وأشرافها، ومن البعيد جدّاً في ظنّ هاني (رض) أن يكونوا رُسُلَ غدر أو أهلَ خيانة!

والظاهر أنّ هذا هو الذي جعلَ هانئاً (رض) يستبعد الاحتمال السيء، فلم يعدّ العدّة ولم يأخذ الاهبة والاحتياط لمحذورات هذا اللقاء، فانطلت حيلة ابن زياد عليه، وصدّق الرُسُل في مانقلوه إليه من أنّ ابن زياد تفقّده لانقطاعه عنه، وقال إنّه لم يعلم بمرضه ولو علم به لقام بزيارته! فاستظهر هانيء (رض) أنّ ابن زياد


حتي تلك الساعة لم يكن له علم بمكان مسلم عليه السلام، فدعا بثيابه فلبسها، وببغلة فركبها، ومضي معهم!

ومع استبعاد الاحتمال السيء واستظهار أنّ ابن زياد لم يكن حتي تلك اللحظة قد علم بمكان مسلم عليه السلام، لايكون من الحكمة الامتناع عن لقائه، أو أخذ الاهبة والعدّة للمحذور منه، أوطلب الامان شرطاً للقائه، لانّ كلَّ ذلك سيكشف عن المستور، ويؤكّد التهمة، ويؤديّ إلي تعجيل ضار في توقيت قيادة حركة النهضة لموعد قيامها ضد ابن زياد، ولعلَّ كلّ هذه الامور قد خطرت علي بال هاني بن عروة، فآثر المجازفة بنفسه دفعاً لكلّ تلك الاضرار والمساويء.

من هنا، يُستبعد ما أورده صاحب كتاب تجارب الامم حيث قال: (ودعا عُبيد اللّه هانيء بن عروة، فأبي أن يُجيبه إلاّ بأمان! فقال: ماله وللامان، هل أحدث حدثاً!؟ فجاءه بنوعمّه ورؤساء العشائر فقالوا: لاتجعل علي نفسك سبيلاً وأنت بريء. وأُتيَ به...)، [4] أو ما رواه الطبري أنّ ابن زياد قال لاسماء بن خارجة ومحمّد بن الاشعث: (إئتياني بهانيء. فقالا: إنّه لايأتي إلاّ بأمان! قال: وماله وللامان، وهل أحدث حدثاً!؟ إنطلقا فإنْ لم يأتِ إلاّ بأمانٍ فآمناه!..). [5] .

2) يبدو أنّ حيلة ابن زياد كانت قد انطلت حتي علي بعض رُسُلِه إلي هانيء بن عروة (رض)، إذ إنّ سياق القصة يكشف عن أنّ أسماء بن خارجة [6] أو حسّاناً إبنه قد فوجيء بغدر ابن زياد بهم وبهانيء (رض)، فانتفض ‍ معترضاً بعدما رأي ما


صُنع بهانيء (رض) وقال لابن زياد: أَرُسُلُ غدرٍ ساير اليوم!؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتّي إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيّلت دماءه علي لحيته، وزعمت أنّك تقتله!؟ فقال له ابن زياد: وإنّك لهاهنا!؟ فَلُهِزَ وتُعتع وأُجلس ناحية، وفي رواية الفتوح: (فضرب حتي وقع لجنبه.. فحبس في ناحية من القصر وهو يقول: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، إلي نفسي أنعاك يا هانيء!). [7] .

أمّا محمد بن الاشعث فقد روي الطبري قائلاً (وزعموا أنّ أسماء لم يعلم في أي شيء بعث إليه عبيداللّه، فأمّا محمّد فقد علم به!..)، [8] وسواء أكان عالماً بخطّة ابن زياد أم لم يكن يعلم، نراه وقد أدركه عِرق النفاق الضارب في أعماق عائلته يقول متملقاً لابن زياد: قد رضينا بما رأي الامير، لنا كان أم علينا، إنّما الامير مؤدِّب!

أمّا عمرو بن الحجّاج الزبيدي وهو أحد هؤلاء الرسل الذين جاؤا بهاني (رض) إلي ابن زياد فقد غاب فجاءة ولم يشهد ما جري في هذا اللقاء، مع أنّ المفروض عرفاً وهو أحد الرسل الثلاثة أن يبقي كوسيط لازالة السخيمة بين هاني (رض) وابن زياد، أو ليحامي عن هانيء (رض) إذا تجاوز ابن زياد حدّه واعتدي عليه كما حصل فعلاً خصوصاً وأنّ هاني بن عروة زوج ابنته!

إذن فغيابه المتعمّد فجاءة عن مسرح الحدث يكشف عن علمه المسبّق بخطة ابن زياد للايقاع بهانيء (رض)، وعن تواطئه معه لحبسه وقتله! ولقد أراد من وراء هذا الغياب الفاجيء المتعمّد أمرين: الاوّل هو أن يصرف عن نفسه حرج عدم دفاعه عن هانيء (رض) في حال حضوره، كما يدفع بذلك عن نفسه أيضاً شبهة


تواطئه مع ابن زياد لقتل هانيء (رض)، لقد كان عمرو بن الحجاج الزبيدي حقاً رسول غدر! أمّا الامر الثاني: فهو أنَّ هذا الخائن أراد أن يستبق الوقت ليمتطي موجة غضب قبيلة مذحج التي كانت ستثور حتماً لما أصاب هانيء (رض)، فيقود جموعها الزاحفة بسيوفها نحو القصر لانقاذه، وهناك ليفرّق هذه الجموع الغاضبة، ويصرفها عن القصر بخدعة مشتركة كما سيأتي بينه وبين شريح القاضي وابن زياد! إنّ هذا الدور الخياني نفسه دليل آخر قاطع علي علم الزبيدي المسبّق بخطة ابن زياد.

3) أظهرت هذه الرواية وكأنّ هانيء بن عروة (رض) إنّما امتنع عن تسليم مسلم عليه السلام لابن زياد لسبب أخلاقي عربي وإسلامي وهو حماية الضيّف والذبُّ عن الجوار (واللّه إنَّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيُّ صحيح، أسمع وأري، شديد الساعد كثير الاعوان، واللّه لو لم أكن إلاّ واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّي أموت دونه!)، وفي هذا الموقف وبهذا الحدّ الاخلاقي شرف ومفخرة لهانيء (رض) وأ يُّ مفخرة!

لكنّ هناك نصوصاً تأريخية أخري تؤكّد أنّ الدافع الذي منع هانئاً (رض) من تسليم مسلم عليه السلام كان دافعاً أسمي وأعلي من الدافع الاخلاقي! وهو الدافع الايمانيّ الطافح بالولاء لاهل البيت (ع)، فقد روي ابن نما (ره) أنّ هانيء بن عروة (رض) قال: (واللّه إنّ عليَّ في ذلك العار أن أدفع ضيفي ورسول ابن رسول اللّه، وأنا صحيح الساعدين كثير الاعوان..)، [9] وفي رواية ابن أعثم: (بلي واللّه، عليَّ في ذلك من أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي، وهو رسول ابن بنت


رسول اللّه (ص)...)، [10] وفي رواية المسعودي أنّ هانئاً (رض) قال لابن زياد: (إنَّ لزياد أبيك عندي بلاءً حسناً، [11] وأنا أُحبّ مكافأته به، فهل لك في خير؟ قال ابن زياد: وما هو؟ قال: تشخص إلي أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حقُّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك..). [12] .

4) من مجموع النصوص التأريخية التي روت لنا قصة هذا اللقاء بين هانيء (رض) وبين ابن زياد، أو جوانب من هذا اللقاء، يتضح جليّاً أنَّ هانيء بن عروة (رض) كان يتمتع وهو في التسعين من العمر برباطة جاءش، وثقة بالنفس، وشجاعة ملفتة للانتباه، كما كان في غاية الاطمئنان والثقة باءنَّ مذحج لن تسلمه إذا تعرّض لمكروه، وأنَّ الكوفة يومذاك بالفعل كانت ساقطة بيد المعارضة وماهي إلاّ إشارة تصدر عن مسلم عليه السلام حتّي يتحقق ذلك الامر فعلاً وعلناً، فقوله لابن زياد لمّا هدّده بالقتل: (إذن لكثر البارقة حول دارك!) كاشف عن ثقته بردّ الفعل المناسب الذي كان لابد سيصدر عن مذحج خاصة وعن قيادة الثورة عامة، ومدُّه يده الشريفة إلي قائم سيف الشرطي ليقتل به ابن زياد كاشف عن شجاعته الفائقة، وقوله لابن زياد: (.. تشخص إلي أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حقّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك)، أو قوله: (أيها الامير، قد


كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي، فأنت آمن وأهلك! فَسِرْ حيث شئت!) [13] كاشف عن ثقته التامة بأنَّ الكوفة فعلاً بيد قيادة الثورة، وأنّ ابن زياد ليس إلاّ أميراً رمزياً يومذاك! ولايخفي علي ذي دراية أنّ قوله لابن زياد: (.. فإن شئت أعطيك الان موثقاً مغلّظاً الاّ أبغيك سوءً ولاغائلة، ولاتينّك حتّي أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتّي آتيك، وأنطلقُ إليه فآمره أن يخرج من داري إلي حيث شاء من الارض فأخرجُ من ذمامه وجواره!) كان قولاً صادقاً وفيه من العمق السياسي الشيء الكثير، إذ لو خرج من القصر لاخرج مسلم بن عقيل عليه السلام من داره فعلاً ولكن إلي قيادة الثورة بالفعل، ولاعلنها حرباً علي ابن زياد يؤلّب لها الالاف الكثيرة من المبايعين من مذحج وكندة وبقية القبائل الاخري، فليس بعد يومه ذاك مايدعو الي الصبر والانتظار بعدَ أن اخترق ابن زياد حركة المعارضة من داخلها وعلم بكلّ شيء! وهذا لاينافي أنّ هانئاً (رض) كان صادقاً بقوله لابن زياد: (ألاّ أبغيك سوءً ولاغائلة، ولاتينّك حتي أضع يدي في يدك!)، لانّه قد يشفع لابن زياد بعد انتصار الثورة بالفعل وسيطرتها علي الكوفة وعلي القصر ويأتيه كما وعده ويضع يده في يده ليسرّحه مع أهله إلي الشام، ولهانيء بن عروة (رض) من المنزلة الرفيعة عند مسلم عليه السلام وعند أهل الكوفة ما يُستبعد عندها ردُّ شفاعته، أللّهمَّ إلاّ إذا اعتُرضَ عليه بالدماء الزاكيات التي سفحها ابن زياد ظُلماً وجورا.



پاورقي

[1] اختلفت المصادر التأريخية في أنّ أحد رسل ابن زياد إلي هانيء کان أسماء أو إبنه حسّان، لکنّ رواية الارشاد في المتن توحي وکأنّ حسّاناً لم يکن أحد الرسل لکنّه صحب أباه إلي هانيء، فلمّا رأي ما صنع ابن زياد بهانيء اعترض عليه، فردَّ عليه ابن زياد: (وإنّک لهاهنا!؟) وکأنه لم يلتفت إلي وجوده من قبل!.

[2] راجع: حياة الامام الحسين بن علي، 2:372.

[3] راجع: حياة الامام الحسين بن علي، 2:372.

[4] تجارب الامم، 2:45 46.

[5] تأريخ الطبري،3:282.

[6] في تجارب الامم، 2:47 أنّ الذي اعترض علي ابن زياد أسماء بن خارجة نفسه، وکذلک في الفتوح، 5:84.

[7] الفتوح، 5:84.

[8] تاريخ الطبري، 3:284.

[9] مثير الاحزان: 34.

[10] الفتوح، 5: 82-83.

[11] روي الطبري في تأريخه، 3:283 أنّ ابن زياد قال لهانيء(رض): (ياهانيء، أما تعلم أنَّ أبي قدم هذا البلد فلم يترک أحداً من هذه الشيعة إلاّ قتله غير أبيک وغير حُجر، وکان من حُجر ماقد علمتَ، ثمَّ لم يزل يُحسنُ صحبتک، ثمَّ کتب إلي أميرالکوفة أنّ حاجتي قِبَلَکَ هانيء؟ قال: نعم. قال: فکان جزائي أن خبّأت في بيتک رجلاً ليقتلني!؟...) هذا هو الجميل أو الاحسان أو البلاء الحسن الذي کان لزياد عند هانيء(رض).

[12] مروج الذهب، 3:67.

[13] تاريخ الطبري، 3:282؛ وفي رواية ابن قتيبة أن ابن زياد قال لهانيء: (يا هانيء، أما کانت يد زياد عندک بيضاء؟ قال: بلي. قال: ويدي؟ قال: بلي.. قد کانت لکم عندي يدٌ بيضاء، وقد أمنتک علي نفسک ومالک!) (الامامة والسياسة، 2:5).