بازگشت

اعتقال هانيء بن عروة


كان هانيء بن عروة المرادي (رض) بفطنته السياسية والاجتماعية يتوقع مايحذره من عبيداللّه بن زياد برغم التستر والخفاء الذي كانت تتمّ في ظلّهما اجتماعات مسلم عليه السلام مع مريديه وأتباعه في بيته، وبرغم التواصي بالكتمان، ذلك لانّ هانئاً (رض) كان يعلم أنّ الهمّ الاكبر لابن زياد هو معرفة مكان ومقرّ


مسلم عليه السلام، فلابدّ له من أن يتجسس ويحتال الحيلة لمعرفة ذلك، وكان هانيء (رض) يعرف مكر ابن زياد وغدره، فانقطع عن زيارة القصر خشية أن يمشي الي المحذور برجليه فيواجه الخطر بمعزلٍ عن قوّة قبيلته التي يحُسب لها ألف حساب في مجتمع الكوفة، تقول الرواية التأريخية (وخاف هانيء بن عروة علي نفسه، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض.

فقال ابن زياد لجلسائه: مالي لاأري هانياً!؟

فقالوا: هو شاكٍ.

فقال: لو علمتُ بمرضه لعدتُه!!

ودعي محمّد بن الاشعث، [1] وأسماء بن خارجة، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانيء بن عروة، وهي أمّ يحيي بن هانيء

فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا!؟

فقالوا: ما ندري، وقد قيل إنه يشتكي.

قال: قد بلغني أنه قد بريء، وهو يجلس علي باب داره!، فالقوه ومروه ألاّ يدع ما عليه من حقّنا، فإنّي لاأحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب!

فأتوه حتّي وقفوا عليه عشيّة وهو جالس علي بابه.

وقالوا له: مايمنعك من لقاء الامير!؟ فإنّه قد ذكرك وقال لو أعلم أنّه شاكٍ لَعدتُه.

فقال لهم: الشكوي تمنعني!


فقالوا له: قد بلغه أ نّك تجلس كلّ عشية علي باب دارك! وقد استبطأك، والابطاء والجفاء لايحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبتَ معنا!

فدعي بثيابه فلبسها، ثمّ دعي ببغلة فركبها، حتّي إذا دني من القصر كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذي كان، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الاخ، إنّي واللّه لهذا الرجل لخايف! فما تري؟

فقال: يا عمّ، واللّه ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل علي نفسك سبيلاً.

ولم يكن حسّان يعلمُ في أيّ شيء بعث إليه عبيداللّه.

فجاء هانيء حتي دخل علي عبيداللّه بن زياد وعنده القوم، فلمّا طلع قال عبيداللّه: أتتك بخاين رجلاه! [2] .

فلمّا دني من ابن زياد، وعنده شريح القاضي، [3] إلتفت نحوه فقال:



أُريدُ حياته ويُريد قتلي

عذيرك من خليلك من مُراد



وقد كان أوّل ما قدم مكرماً له ملطفاً...

فقال له هاني: وما ذاك أيّها الامير!؟

قال: إيه يا هاني بن عروة، ما هذه الامور التي تربّص في دارك لامير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنَّ ذلك يخفي عليَّ!؟

قال: ما فعلتُ ذلك، وما مسلم عندي.


قال: بلي، قد فعلتَ!

فلمّا كثر ذلك بينهما وأبي هاني إلاّ مجاحدته ومناكرته، دعي ابن زياد معقلاً ذلك العين، فجاء حتي وقف بين يديه.

فقال: أتعرف هذا؟

قال: نعم!

وعلم هاني عند ذلك أنّه كان عيناً عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأُسقط في يده ساعة، ثُمَّ راجعته نفسه.

فقال: إسمع منّي وصدّق مقالتي، فواللّه لاكذبت، واللّه ما دعوته إلي منزلي، ولاعلمت بشيء من أمره حتي جاءني يسألني النزول فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذمام فضيّفته وآويته، وقد كان من أمره ما بلغك، فإنْ شئت أن أعطيك الان موثقاً مغلّظاً ألاّ أبغيك سوءً ولاغائلة، ولاتينّك حتي أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتّي آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلي حيث شاء من الارض فأخرجُ من ذمامه وجواره.

فقال له ابن زياد: واللّه لاتفارقني أبداً حتي تأتيني به!

قال: لاواللّه، لاأجيئك به أبداً، أجيئك بضيفي تقتله!؟

قال: واللّه لتأتينّي به.

قال: لاواللّه لاآتيك به.

(فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي وليس بالكوفة شاميُّ ولابصريُّ غيره فقال: أصلح اللّه الامير، خلّني وإيّاه حتّي أكلمه.

فقام فخلابه ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما


سمع ما يقولان.

فقال له مسلم: يا هاني، أُنشدك اللّه أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء في عشيرتك، فواللّه إنّي لانفس بك عن القتل، إنّ هذا الرجل إبن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولاضائريه، فادفعه إليهم فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولامنقصة، إنما تدفعه إلي السلطان!

فقال هاني: واللّه إنّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيُّ صحيح أسمع وأري، شديد الساعد كثير الاعوان، واللّه لو لم أكن إلاّ واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّي أموت دونه!

فأخذ يناشده وهو يقول: واللّه لاأدفعه إليه أبداً!

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه منّي.

فأدنوه منه، فقال: واللّه لتأتينيّ به أو لاضربنّ عنقك.

فقال هاني: إذن لكثر البارقة حول دارك!

فقال ابن زياد: والهفاه عليك، أبالبارقة تخوّفني!؟ وهو يظنّ أنَّ عشيرته سيمنعونه ثمّ قال: أدنوه منّي!

فأُدني منه، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتي كسر أنفه وسالت الدماء علي وجهه ولحيته، ونثر لحم جبينه وخدّه علي لحيته حتي كُسر القضيب!

وضرب هاني يده إلي قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه! فقال عبيداللّه: أحروريُّ [4] ساير اليوم!؟ قد حلّ لنا دمك! جرّوه.


فجرّوه، فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه!

فقال: إجعلوا عليه حرساً. ففُعل ذلك به. [5] .

فقام إليه حسّان بن أسماء فقال: أَرُسُلُ غدرٍ ساير اليوم!؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتّي إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيّلت دمأه علي لحيته، وزعمت أنّك تقتله!؟

فقال له عبيداللّه: وإنّك لهاهنا!؟ [6] فأَمر به فَلُهِزَ وتُعْتِعَ وأجلسَ في ناحية، فقال محمّد بن الاشعث: قد رضينا بما رأي الامير، لنا كان أم علينا، إنّما الامير مؤدِّب!). [7] .


پاورقي

[1] محمد بن الاشعث بن قيس الکندي، وأمّه أخت أبي بکر (راجع: تهذيب التهذيب، 9:55).

[2] هذا مثل معروف، وقد ضبطه المحقّق السماوي هکذا: (أتتک بحائن رجلاه تسعي): والحائن: الميّت، مِنَ الحَيْن بفتح الحاء وهو الموت. (إبصار العين: 143).

[3] مرّت بنا ترجمة مفصلة وافية لشريح القاضي في الجزء الثاني، ص 183-185.

[4] الحروري: لقب يُطلق علي کلّ خارجي (من الخوارج) آنذاک، نسبة إلي حروراء، إسم موضع علي ميلين من الکوفة نزل به الخوارج الذين خالفوا عليّاًعليه السلام.

[5] وفي رواية للطبري أنّ هانئاً بعد أن ضُرب: (إذ خرج الخبر إلي مذحج، فإذا علي باب القصر جَلبة سمعها عبيداللّه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مذحج!) (تاريخ الطبري، 3:276)، وفي رواية المسعودي: (وضرب هانيء بيده إلي قائم سيف شرطي من تلک الشرط، فجاذبه الرجل ومنعه السيف، وصاح أصحاب هانيء بالباب: قُتل صاحبنا! فخافهم ابن زياد، وأمر بحبسه في بيت الي جانب مجلسه..) (مروج الذهب، 3:67).

[6] يُقال هذا تعبيراً عن الاستهانة بوجود المخاطب لتحقيره وتصغيره.

[7] الارشاد:190؛ وانظر: الکامل في التأريخ، 3:391؛ وتجارب الامم، 2 :45-47؛ ومثير الاحزان: 32-34.