بازگشت

اهل الكوفة... و المبادرة المطلوبة


هـنـاك مجموعة من العوامل والشرائط اللازمة لنجاح أيّ تحرك ثوري يهدف الي تغيير الاوضاع السـيـاسـيـة فـي بـلدٍ مـا مـن البـلدان، يـنـبـغـي لقـيـادة هـذا التـحـرّك الانـتـبـاه إليـهـا والعـمـل عـلي تـحـقـيـقـهـا لضـمـان نـجـاح هـذا التـحـرّك فـي الوصول إلي أهدافه المنشودة.

والمـتـأمـّل فـي تـحـرّك أهـل الكـوفـة بـعد موت معاوية ـ في رفضهم خلافة يزيد بن معاوية، ومكاتبتهم الامام الحسين (ع) في مكّة، باذلين له الطاعة، وطالبين منه القدوم إليهم ـ يري أنّ هـنـاك مـجـمـوعـة مـن الشـرائط اللازمـة لنـجـاح هـذا التـحـرّك كـان يـنـبـغـي لوجـهـاء وأشـراف أهـل الكـوفـة الذيـن تـصـدّوا لهـذا العـمـل أن يـسـعـوا إلي تـحقيقها وتوفيرها حتّي يُوفَّقَ هذا التحرك وهذه الانتفاضة في بلوغ الاهداف المنشودة.

ومـن أهمِّ واوّل الامور التي كان ينبغي للعقل الكوفي المعارض أنْ يُعدِّ العدّة لتحقيقه ويستبق الايـّام للقـيـام بـه المـبـادرة إلي السـيـطـرة عـلي الاوضـاع فـي الكـوفـة قبل


مجيء الامام (ع) إليها، وذلك مثلاً باعتقال الوالي الامويّ، وجميع معاونيه وأركان إدارته، ومـن عـُرف من عيونه وجواسيسه، ومنع الخروج من الكوفة إلاّ بإذن خاص، وذلك لحجب أخبار ما يـجـري فـيـهـا عـن مـسـامـع السـلطـة الامـويـة أطـول مـدّة مـمـكـنـة مـن أجـل تـأخـيـر تـحـرّكـهـا لمـواجـهـة الانـتـفـاضـة فـي الكـوفـة قـبـل وصـول الامـام (ع)، حـتـّي يـصـل الامـام (ع) فـيـمـسك بزمام الامور ويقود الثورة إلي حيث كامل الاهداف.

والاهـتداء الي ضرورة القيام بمثل هذ المبادرة ليس بدعاً من الامر، أو من الافكار التي لايهتدي إليها إلاّ الاوحديّ من الناس، بل هو من إدراكات الاذهان العامة، ها هو عبدالله بن العبّاس (رض) يـتـحـدّث عـن ضـرورة القـيـام بـهـذه المـبـادرة قـائلاً للامـام (ع): «فـإن كـان أهـل العـراق يـريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم»، [1] وهذا عمر بن عبدالرحمن المخزومي يقول للامام (ع) أيضاً: «إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومـعـهـم بـيـوت الامـوال، وإنـّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعـدك نـصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يُقاتلك معه»، [2] وهذا عمرو بن لوذان يخاطب الامـام (ع) قـائلاً: «وإنّ هـؤلاء الذيـن بـعـثـوا إليـك لو كـانـوا كـفـوك مـؤنـة القـتـال ووطـّاءوا لك الاشـيـاء فـقـدمـت عـليـهـم، كـان ذلك رأيـاً، فـأمـّا عـلي هـذه الحال التي تذكر فإنّي لا أري لك أن تفعل!». [3] .

والامـام (ع) لا يـُخـطَّيء مـقـولات هـؤلاء، بـل يـُقـرّر(ع) أن ذلك مـن النـصـح والعـقـل والرأي! فـهـو يـقـول لابـن عـبـّاس: «يـا ابـن عـمّ، إنـّي واللّه لاعلم أنك ناصح


مشفق!»، [4] ويـقـول للمـخـزومـي: «فـقـد واللّه عـلمـتُ أنـك مـشـيـت بـنـصـحٍ وتـكـلّمـت بـعـقـل!»، [5] ويـقـول لعـمـرو بـن لوذان: «يـا عـبـدالله، ليـس يـخـفـي عليَّ الرأي!». [6] .

ومـن المـُلفـت للانـتـبـاه أيـضـاً أنـّه ليـس فـي رسـائل الامـام (ع) إلي أهـل الكـوفـة ولا فـي وصـايـاه لمـسـلم بـن عـقـيـل (ع) مـا يـمـنـع أهـل الكـوفـة مـن القـيـام بـهـذه المـبـادرة التـي أقـرَّ الامـام (ع) أنـهـا مـن العـقـل والرأي! بـل لقـد دعـاهـم (ع) الي القـيـام مـع مـسـلم (ع)، حـيـث قـال (ع) فـي رسـالته الاولي إليهم ـ علي رواية ابن أعثم ـ: «فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولاتخذلوه!». [7] .

وفـي رسـالتـه الثـانـيـة التـي بـعثها إليهم بيد قيس بن مسهرّ الصيداوي (رض) ـ والتي لم تـصـل إليـهـم لانّ ابن زياد كان قد قبض علي الرسول ـ دعاهم الامام (ع) إلي السرعة والعزم عـلي الامـر والجـدّ فـيـه، حـيـث قـال (ع) فـيـهـا: «فـإذا قـدم عـليـكـم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا!»، [8] إذ الكمْشُ في الامر هو العزم عليه والسرعة فيه! [9] .

إذن مـا هـي عـلّة عـدم مـبادرة الشيعة في الكوفة إلي السيطرة علي الاوضاع فيها!؟ مع أنّ فيهم عدداً يُعتدُّ به من رجال ذوي خبرات عريقة في المجالات


العسكرية والسياسية والاجتماعية! ولاشكّ أنّ التفكير بمثل هذه المبادرة قد طراء علي أذهانهم أكثر من مرّة! فلماذا لم يبادروا!؟

لعـلّ الاجـابـة عـلي هـذا السـؤال مـن أصـعـب مـا يـواجـه المـتـأمـّل فـي حـركـة أحـداث النـهـضة الحسينية المقدّسة، ومع هذا فإنَّ من الممكن هنا أن نتحدّث باختصار في أهمّ الاسباب التي أدّت الي عدم مبادرة الشيعة في الكوفة الي السيطرة علي الاوضاع فيها قبل مجيء الامام (ع) إليها، وهي:

1) ـ لم يـكـن للشـيـعـة فـي الكوفة ـ وهم من قبائل شتّي ـ خصوصاً في فترة ما بعد الامام الحسن المـجـتبي (ع) عميدُ من شيعة أهل الكوفة، يرجعون إليه في أمورهم وملمّاتهم، ويصدرون فيها عن راءيه وقراره وأمره.

نـعـم، هـنـاك وجـهـاء وأشـراف متعدّدون من الشيعة في الكوفة، لكلٍّ منهم تأثيره في قبيلته، لكـنـهـم لاتصدر مواقفهم إزاء الاحداث الكبري المستجدّة عن تنسيق بينهم وتنظيم يوّحد بين تلك المواقف، وينفي عنها التشتّت والتفاوت.

ولقـد تـرسـّخـت هـذه الحـالة فـي شـيـعـة الكـوفة خاصة نتيجة السياسات التي مارسها معاوية ـ بـتـركـيـز خـاص عـلي الكـوفـة خـلال عـشـريـن مـن السنوات العجاف الحالكة ـ في خلق الفرقة والتـنـاحـر بـيـن القـبـائل، والارهاب والقمع، والمراقبة الشديدة التي ترصد الانفاس، والاضـطـهـاد المـريـر والقتل الذي تعرّض له كثير من الشيعة ومن زعمائهم خاصة، الامر الذي زرع بـيـن النـاس عـلي مـدي تـلك السـنين العشرين العجاف الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة السلطان، وضعف الثقة وقلّة الاطمئنان فيما بينهم، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار.

ويكفي دليلاً علي كلّ ما أشرنا إليه من التعددية والتشتّت نفس المنحي الذي تمّت فيه مكاتبة أهـل الكـوفة الامام الحسين (ع) في مكّة، فلولا التعددية في مراكز


الوجاهة والزعامة لما تعددّت الرسائل والرسل منهم إلي الامام (ع).

فـلوكـان لهـم زعـيم واحد يصدرون عن رأيه وأمره لكفي الامام (ع) منهم رسالة واحدة تأتي من زعـيـمـهـم، لا إثـنـا عـشـر ألف رسـالة!، ولمـا احـتـاج الامـام (ع) إلي أن يسأل آخر الرسل: «خبّراني من اجتمع علي هذا الكتاب الذي كُتب به إليَّ معكما؟». [10] .

كـمـا يـكـفـي دليـلاً عـلي ضـعـف الثـقـة والاطـمـئنـان، والفـرديـة فـي إتـخـاذ المـوقـف والقرار، قـول الشـهـيـد الفـذّ عـابـس بـن أبـي شـبـيـب الشـاكـري (رض) بـيـن يـدي مـسـلم بـن عـقـيـل (ع): «أمـّا بـعـدُ، فـإنّي لا أُخبرك عن النّاس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرُّك منهم! واللّه أحدّثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، واللّه لاجيبنّكم إذا دعوتم، ولا قاتلنّ معكم عدوّكم، ولاضربنّ بسيفي دونكم حتّي ألقي اللّه، لا أريد بذلك إلاّ ما عند اللّه». [11] .

2) ـ هـنـاك ظـاهـرة عـمـّت القـبـائل العـربـيـة التي استوطنت الكوفة، وهي ظاهرة انقسام الولاء في أفـرادهـا، فـفـي كـلّ قـبـيـلة إذا وجـدتَ مـن يـعـارض الحـكـم الامـويّ أو يـوالي أهـل البـيـت (ع) فـإنّك تجد أيضاً قبالهم من يوالي الحكم الامويّ ويخدم في أجهزته، ولعلّ المـواليـن للحـكـم الامـوي فـي جـلّ هـذه القـبـائل أكـثـر مـن المـعـارضـيـن له عـامـة والمـواليـن لاهل البيت (ع) خاصة.

وهـذه المـشكلة ربّما كانت هي المانع أمام زعماء من الشيعة كبار في قبائلهم الكبيرة من أن يُثَوِّروا قـبـائلهـم ضـد الحـكـم الامـويّ عـلانـيـة، ويـنـهـضـوا بـهـم للقـيـام بـمـثـل تـلك المـبـادرة المـطـلوبـة، ذلك لانّ افراداً كثيرين هناك في نفس القبيلة ممّن


يخدمون في أجـهـزة الامويين ويوالونهم سيسارعون إلي اخبار السلطة الاموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم الشـيـعـيّ، فـيـقـُضـي عـلي ذلك العـمـل قـبـل البـدء فيه، كما يُقضي علي الزعيم الشيعيّ وعلي أنـصـاره أيـضـاً، فـفـي قـبـيـلة مـذحـج الكـبـيـرة فـي الكـوفـة مـثـلاً، كما تجد زعيماً شيعياً رائداً مـثـل هـانـي بـن عـروة (رض) تـجـد إزاءه ايـضـاً زعـيـمـاً آخـر ـ أو أكـثـر ـ مـثـل عمرو بن الحجّاج الزبيدي، يتفاني في خدمة الامويين إلي درجةِ أَنْ يؤثر مصلحة الامويين حـتـي عـلي مـصـلحـة مذحج نفسها، حينما قام بدوره المريب في ركوب موجة انتفاضة مذحج وقيامها لاطـلاق سـراح هـانـي (رض) فـردّهـم عـن اقتحام القصر وصرفهم وفرّق جموعهم، بمكيدة منه ومن شريح وابن زياد.

وهـذه الظـاهـرة تـجـدهـا فـي بـنـي تـمـيـم، وبـنـي أسـد، وكـنـدة، وهـمـدان، والازد، وغـيـرهـا مـن قبائل أهل الكوفة.

إذن فـقـد كـان مـن العسير عملياً علي أيّ زعيم كوفي شيعي أن يقود جموع قبيلته في عملٍ ما ضدّ الحـكـم الامـويّ، وذلك لوجـود زعـمـاء آخـريـن مـن نفس القبيلة موالين للحكم الامويّ، باستطاعتهم التخريب من داخل القبيلة نفسها علي مساعي الزعيم الشيعي، أو من خارجها بالاستعانة بالسلطة الاموية نفسها.

3) ـ يـُضـاف إلي السـبـبـيـن الاوّل والثـانـي ـ وهـما أهمُّ الاسباب ـ سبب ثالث وهو تفشيّ مرض الشـلل النـفسي، وازدواج الشخصية، والوهن المتمثّل في حبّ الدنيا والسلامة وكراهية الموت، في جـُلّ أهـل الكـوفـة آنذاك خاصة، ومن أوضح الامثلة علي ذلك ما عبّر به محمّد بن بشر الهمداني ـ الذي روي تـفـاصـيـل اجـتـمـاع الشـيـعـة الاوّل مـع مـسـلم بـن عـقـيـل (ع) فـي دار المـخـتـار، وروي مـقـالة عـابس الشاكري ومقالة حبيب بن مظاهر ومقالة سعيد بن عـبـدالله الحـنـفـي رضـوان الله عـليهم، في استعدادهم للتضحية والموت في نصرة الامام (ع) ـ حـيـنـمـا سـأله الحـجـّاج بـن عـليّ


قـائلاً: فـهـل كـان مـنـك أنـت قول؟

أجـاب قـائلاً: إنـّي كـُنـت لاُحـبُّ أنْ يـُعـزَّ اللّه أصـحـابـي بـالظـفـر، ومـا كـنـت لاحـبَّ أنـْ أُقتل، وكرهت أن أكذب! [12] .

ومن الامثلة الواضحة علي ذلك أيضاً، قول عبيد الله بن الحرّ الجعفي مخاطباً الامام (ع): «واللّه إنـي لاعـلمّ أنّ مـن شـايـعـك كـان السـعـيـد فـي الاخرة، ولكن ما عسي أن أُغني عنك ولم أخلّف لك بـالكـوفـة نـاصـراً!؟ فـأنـشـدك اللّه أن تـحملني علي هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت!». [13] .

وكان زعماء الشيعة الكوفيون قد أدركوا خطورة إنتشار هذا المرض، وتفطّنوا لاثره السَّيء علي كلّ نهضة وقيام، فكانوا يحسبون لخذلان الناس في أيّ مبادرة جهادية ألف حساب، نلاحظ ذلك مـثـلاً فـي قـول سـليـمـان بـن صـرد الخـزاعـي فـي اجـتـمـاع الشـيـعـة الاوّل: «فـإن كـنـتـم تـعـلمـون أنـكـم نـاصـروه ومـجـاهـدو عـدوّه فـاكـتـبـوا إليـه، وإنْ خـفـتـم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!». [14] .

ونـلمـح أيـضـاً هـذا الا دراك والمـعـرفـة بـتـفـشـّي هـذا المـرض فـي قول عابس الشاكري (رض) وهو يخاطب مسلماً(ع): «فإنّي لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم!...». [15] .

وبعدُ: فلعلّ هذه الاسباب المهمة الثلاثة التي ذكرناها تشكلّ إجابة وافية عن علّة عدم مبادرة زعماء الشـيـعـة فـي الكـوفـة إلي السـيـطـرة عـلي الاوضـاع فـيـهـا قبل مجيء الامام (ع).



پاورقي

[1] تاريخ الطبري 3:295.

[2] تاريخ الطبري 3:294.

[3] الارشاد: 223؛ والکامل في التأريخ 2:549.

[4] تاريخ الطبري 3:295.

[5] تاريخ الطبري 3:294.

[6] الکامل في التاريخ 2:549.

[7] الفتوح 5:36.

[8] تأريخ الطبري 3:301.

[9] لسـان العـرب 6:343 / وفـيـه: الکـَمـْشُ: الرجـل السريع الماضي. رجلٌ کَمْشٌ وکميش: عزوم ماضٍ سريع في أموره. وفي الحديث: واکمش في فراغک قبل أن يقصد قصدک..» أيّ شَمِّر وجدَّ في الطلب..» (مجمع البحرين 4:153).

[10] اللهوف: 107.

[11] تأريخ الطبري 3:279.

[12] راجع: تاريخ الطبري 3:279.

[13] الاخبار الطوال: 251.

[14] تاريخ الطبري 3:277.

[15] تاريخ الطبري 3:279.