بازگشت

لماذا تخلف ابن عباس عن الامام؟


عـبـدالله بـن العـبـّاس بـن عبدالمطلّب بن هاشم رضي الله عنهم أجمعين، كان مؤمناً بإمامة أئمة أهـل البـيـت الاثني عشر(ع) من بعد رسول الله (ص)، [1] عارفاً


بحقّهم، موقناً بأنّ نـصـرهـم والجهاد تحت رايتهم فرض كفرض ‍ الصلاة والزكاة، [2] وكانت سيرته مع الامـام أمـيـر المـؤمـنـيـن والامـام الحـسـن والامـام الحـسـين (ع) كاشفة عن هذا الايمان وهذا اليقين وهذه المـعـرفـة، [3] وكان (رض) لايتردد في إظهار


اعتزازه وافتخاره بما أنعم الله عليه بـه مـن مـوالاتـهـم وحـبـّهـم والانـقـيـاد لهـم والامـتـثـال لامـرهـم، ومـن جميل ما يُروي في ذلك أنّ مُدرك بن زياد اعترض علي ابن عباس حين رآه ذات يوم وقد أمسك للحسن والحسين (ع) بالركاب وسوّي عليهما: «قائلاً: أنت أسنُّ منهما تُمسك لهما بالركاب!؟

فـقـال: يالُكع، وتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله (ص)، أو ليس ممّا أنعم الله به عليَّ أن أمسك لهما وأسوّي عليهما!؟» [4] .

وكان ابن عباس (رض) قد حفظ ما سمع من رسول الله (ص) ومن أمير المؤمنين عليّ(ع) ما أخبرا بـه حـول مـقـتل الامام الحسين (ع)، والارض التي يُقتل فيها، وأسماء أصحابه، فها هو يروي قـائلاً: «كـنـت مـع أمـيـر المـؤمـنـيـن (ع) فـي خـرجـتـه الي صـفـيـن، فـلمـّا نزل بنينوي وهو بشطّ الفرات قال بأعلاصوته: يا ابن عباس، أتعرف هذا الموضع؟

قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين!

فقال (ع): لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّي تبكي كبكائي!

قـال: فـبـكـي طـويـلاً حـتـّي اخـضـلّت لحـيـتـه، وسـالت الدمـوع عـلي صـدره، وبـكـيـنـا


معاً وهو يـقـول: أوّه أوّه، مـالي ولال أبـي سـفـيـان!؟ مـالي ولال حـرب، حـزب الشـيـطـان وأوليـاء الكـفـر!؟ صـبـراً يـا أبـا عـبـدالله، فـقـد لقـي أبـوك مثل الذي تلقي منهم.». [5] .

وكـان ابـن عـبـاس (رض) يـقـول: «مـاكـُنـا نـشـكُّ، وأهـل البـيـت متوافرون، أنّ الحسين بن عليّ يُقتل بالطفّ!.». [6] .

إذن لِمَ لم يـلتـحـق ابـن عباس (رض) بالركب الحسيني ليفوز بشرف نصرة سيد المظلومين (ع) وبشرف الشهادة بين يديه!؟

هل أثّاقل الي الارض وآثر الدنيا علي الاخرة بعد عمر شريف عامر بالجهاد ونصرة الحق!؟

إنّ العـارف بـسـيـرة ابـن عـبـاس (رض) قـد يـرفـض حـتـي التـفـكـيـر فـي مثل هذا السؤال! أوليس ابن عباس هو القائل في محاورته الاولي مع الامام الحسين (ع) في مكّة فـي شـعـبـان سـنـة 60 للهـجـرة: «جـُعـلت فـداك يـا ابـن بـنـت رسـول الله، كـأنـك تـريـدني إلي نفسك، وتريد مني أن أنصرك! والله الذي لا إله إلاّ هو أنْ لو ضـربـتُ بـيـن يـديـك بـسـيـفي هذا حتّي انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممن أوفّي من حقّك عشر العشر! وها أنا بين يديك مرني بأمرك.».

إذن هل كان تقادم العمر به قد أعجزه عن القدرة علي النصرة!؟

إذا علمنا أنّ ابن عباس (رض) توفي سنة 68 للهجرة أو 69 وله من العمر سبعون عاماً أو واحد وسبعون، [7] أدركنا أنّ عمره سنة 60 للهجرة كان إثنين وستين


عاماً أو ثلاثة وستين عاماً، فهو أكبر من الامام الحسين (ع)بحوالي خمسة أعوام، إذن فقد كان قادراً علي الجهاد مع الامـام (ع) مـن حـيـث السـلامـة البدنية، خصوصاً وأنّه لم يُروَ أنّ ابن عباس كان مريضاً آنذاك كما روي بصدد محمّد بن الحنفية (رض) مثلاً.

فما هي علّة تخلّفه إذن!؟

لعـلّ المـتـأمـل فـي مـوضـوع عـلّة عـدم التـحاق ابن عباس (رض) بالامام (ع) في نهضته المقدّسة يلاحظ ـ قبل الوصول الي الجواب ـ نقطتين مهمتين تساعدان علي الاطمئنان أنه كان معذوراً، وهما:

1ـ في جميع ما روي من لقأات ومحاورات ابن عباس مع الامام الحسين (ع) في مكة سنة ستين للهجرة، لا يجد المتتبّع أنّ الامام (ع) قد دعا ابن عباس دعوة مباشرة الي نصرته كما صنع مثلاً مع ابن عـمـر، وحـتـي حـيـنـمـا قـال الامـام (ع) فـي مـحـاورتـه الاولي مـع ابـن عـبـاس وابن عمر: «اللّهمّ اشـهد» [8] أدرك ابن عباس مغزي قول الامام (ع)، وبادر الي اظهار استعداده للنصرة والجهاد بين يدي الامام (ع) وعدا هذا لايجد المتتبع أية إشارة من قريب أو بعيد مؤدّاها أنّ الامام (ع) قد دعا ابن عباس الي نصرته.

2ـ لم نـعـثـر ـ حـسـب تـتـبـعـنـا ـ عـلي نـصّ تـأريـخـيّ عـن أئمـّة أهـل البيت (ع) يفيد أنّ ابن عباس كان مقصّراً وملوماً ومداناً علي عدم إلتحاقه بالامام الحسين (ع)، بـل لم نـعثر علي نصّ تأريخي عام يشير الي إدانته [9] سوي هذا النصّ الذي نقله ابـن


شـهـر آشـوب مـرسـلاً: «وعـُنِّفَ ابـن عـبـاس عـلي تـركـه الحـسـيـن فـقـال: إنّ أصـحـاب الحـسـيـن لم يـنـقـصـوا رجـلاً ولم يـزيـدوا رجـلاً، نـعرفهم بأسمائهم من قـبـل شـهودهم!» [10] ، ويظهر من هذا النصّ أنّ ابن عباس لم يكن معذوراً في تركه الامام (ع)، لكـنّ إرسـال هـذا الخـبـر، ومـجـهـوليـة المـُعـنِّف، ومـعـلومـيـّة ولاء ابـن عـبـاس (رض) لاهل البيت (ع)، كلّ ذلك يفرض عدم الاطمئنان الي صدر هذا الخبر، أي «وعُنِّف ابن عباس!».

بعد هذا، ينبغي أن نذكّر بأنّ ابن عباس قد كُفَّ بصرُه آخر عمره، وهذا متّفقٌ عليه عند المؤرّخين، وأنّ سعيد بن جبير كان يقوده بعد أن كُفَّ بصره، [11] وتعبير «كُفَّ بصره» مشعرٌ بأنّ الضعف كان قد دبّ الي بصره حتي استفحل عليه فكفّه عن رؤية الاشياء، ولعلَّ هذا الضعف كان قد دبّ الي بصره منذ أيّام معاوية (ويحتمل أنّ بصر ابن عباس ‍ قد كُفَّ أواخر سنين معاوية)، هـذا مـا يـُشـعـر بـه قـول ابـن قـتـيـبـة فـي المـعـارف حـيـث يـقـول: «ثـلاثـة مـكـافـيف في نسق: عبدالله بن عباس، وأبوه العباس بن عبدالمطلّب، وأبوه عـبـدالمـطـلب بـن هاشم. قال: ولذلك قال


معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تُصابون في أبـصـاركـم. فـقال ابن عباس: وأنتم يا بني أميّة تُصابون في بصائركم!»، [12] فـلولا أنّ بـصـر ابـن عـبـاس (رض) كـان قـد ضـعـف جـداً أو قـد كـُفّ بـصـره آنـذاك لمـا كـان لقول معاوية مناسبة ولا داعٍ.

ويـقـول مـسـروق: «كـنـتُ إذا رأيـت عـبـدالله بـن عـبـاس قـلتُ: أجمل الناس، فإذا تكلّم قلتُ: أفصح الناس، فإذا تحدّث قلتُ: أعلم الناس، وكان عمر بن الخطّاب يقرّبه ويُدنيه ويشاوره مع جلّة الصحابة، وكُفَّ بصره في آخر عمره». [13] .

فـإذا عـلمـنـا أنّ مـسـروقـاً هـذا قـد مـات سـنـة 62 أو 63 للهـجـرة، [14] أمـكـن لنا أن نقول: إنّ ابن عباس كان مكفوفاً قبل سنة 62 أو 63 علي الاظهر، هذا علي فرض أنّ عبارة (وكفّ بصره في آخر عمره) من قول مسروق أيضاً.

وهـنـاك رواية يمكن أن يُستفاد من ظاهرها أنّ ابن عباس (رض) كان ضعيف البصر جداً أو مكفوفاً أوائل سـنـة إحـدي وسـتـيـن للهـجـرة، فـي الايـّام التـي لم يـكـن خـبـر مقتل الامام الحسين (ع) قد وصل بعد الي أهل المدينة المنورة.

هـذه الرواية يرويها الشيخ الطوسي (ره) في أماليه بسندٍ الي سعيد بن جبير (وهو الذي كان يـقـود ابـن عـبـاس بـعـد أن كـُفَّ بـصـره)، عـن عـبـدالله بـن عـبـاس قـال: «بـينا أنا راقدٌ في منزلي، إذ سمعتُ صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمّ سلمة زوج النبيّ(ص)، فخرجت يتوجّه بي قائدي الي منزلها!، وأقبل أهـل المدينة اليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيتُ إليها قلت: يا أمّ المؤمنين، ما بالك تصرخين وتـغـوثـيـن؟ فـلم تـجـبـنـي، وأقـبـلت عـلي النـسـوة الهـاشميات وقالت: يابنات عبدالمطلّب، أسـعـدنـنـي


وابـكـيـن مـعـي، فـقـد واللّهِ قـُتـل سـيـّدكـُنّ وسـيـّد شـبـاب أهل الجنّة، وقد واللّه قُتل سبط رسول اللّه وريحانته الحسين.

فـقـيـل: يـا أُمَّ المـؤمـنـيـن، ومـن أيـن عـلمـتِ ذلك؟ قـالت: رأيـت رسـول الله (ص) فـي المـنـام السـاعـة شـعـثـاً مـذعـوراً، فـسـألتـه عـن شـأنـه ذلك، فقال: قُتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم.

قالت فقمتُ حتّي دخلتُ البيت وأنا لا أكاد أن أعقل! فنظرتُ فإذا بتربة الحسين التي أتي بـهـا جـبـرئيـل مـن كـربـلاء فـقـال إذا صـارت هـذه التـربـة دمـاً فـقـد قـُتـل ابـنـك! وأعـطـانـيـهـا النـبـيّ(ص) فـقـال: إجـعـلي هـذه التـربـة فـي زجـاجـة ـ أو قـال فـي قـارورة ـ ولتـكـن عـنـدك، فـإذا صـارت دمـاً عـبـيـطـاً فـقـد قُتل الحسين. فرأيت القارورة الان وقد صارت دماً عبيطاً تفور.

قـال: وأخـذت أمّ سـلمـة مـن ذلك الدم فـلطـّخـت بـه وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة علي الحـسـيـن (ع)، فـجـاءت الركـبـان بـخـبـره، وأنـّه قـد قُتل في ذلك اليوم...» [15] .

فـقـول ابـن عـبـاس (رض):»فـخـرجـت يـتـوجّه بي قائدي الي منزلها» كاشف ـ علي الاقوي ـ عن مـكـفـوفـيـة بصره آنذاك (أو عن ضعف شديد جداً في بصره)، لحاجته الي قائد يقوده هو، وليس الي قـائد يـقـود دابـّتـه ـ كـمـا قـد يـُحـتـمـل ـ وذلك لقـرب المـسـافـة، بدليل أنه سمع الصراخ بإذنيه وشخّص أنّ الصراخ كان ينبعث من بيت أم سلمة (رض).

مـمـا مـضـي نـكـاد نـطـمئن الي أنّ ابن عباس (رض) كان يعاني من ضعف شديد


في بصره أو كان مـكـفـوفـاً بصره أواخر سنة ستين للهجرة ـ وبالذات في الايام التي كان فيها الامام الحسين (ع) فـي مـكـّة المـكـرّمة ـ الامر الذي أعجزه عن القدرة علي الالتحاق بالامام (ع) والجهاد بين يديه، فـكـان (رض) مـعـذوراً، ولعـلّ هـذا هـو السـرُّ فـي عـدم دعـوة الامـام (ع) إيـّاه للانـضـمام إليه، وتـرخـيـصـه إيـّاه فـي العودة الي المدينة ليرصد له أخبار السلطة الاموية والناس فيها حيث يـقـول (ع): «يـا ابـن عـبـاس، إنـك ابـن عـمّ والدي، ولم تـزل تـأمـر بـالخـيـر مـنـذ عـرفـتـك، وكـنـتَ مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يـسـتـنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ الي المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يخفَ عليَّ شيءٌ من أخبارك...». [16] .

ولايـقـدح بـمـا نـطـمـئنّ إليـه مـا أورده المـسـعـودي فـي مـروج الذهـب حـيـث يـقـول فـي ابـن عـبـاس (رض): «وكـان قـد ذهـب بـصـره لبـكـائه عـلي عـليٍّ والحـسـن والحـسـيـن..»، [17] إذ لايـُسـتـفـاد مـن هـذا النـصّ بـالضـرورة أنـه صـار مـكـفـوفـاً بـعـد مـقـتـل الحـسـيـن (ع)، بـل الظـاهـر مـن هـذا النـصّ أنّ الذي سـبـّب ذهـاب بـصـره هـو كـثـرة بكائه المتواصل لفقد امير المؤمنين عليّ [18] والحسن والحسين (ع)، ومؤدّي ذلك أنّ الضعف قد دبّ الي بـصـره لكـثـرة بـكـائه مـنـذ أيـّام فـقـده لامـيـر المـؤمـنـيـن (ع) ثـمّ لفـقـده الحسن (ع)، [19] ثمّ الحسين (ع)، ولايخفي أنّ ابن عباس (رض) كان يبكي بكاءً


شديداً للحسين (ع) وهو بعدُ لم يخرج ولم يُستشهد، لعلمه بما سيصيب الامام (ع) من شديد المحنة ولعلمه بمصيره، والدلائل التأريخية علي ذلك كثيرة متوافرة.


پاورقي

[1] ويـکـفـي فـي الدلالة عـلي ذلک مـتـن المـحـاورة ـ التـي رواهـا سـليـم بن قيس ـ بين معاوية وعـبـدالله بـن جـعفر(رض) وعبدالله بن عباس (رض) بمحضر الحسنين (ع) (راجع: کتاب سليم بن قيس: 231 ـ 238/ دار الفنون ـ لبنان)، وما رواه الخزاز القمّي في کفاية الاثر من روايات مسندة عن ابن عباس (رض) في الائمة الاثني عشر وفي أسمائهم (ع) (راجع: کفاية الاثر: 10 ـ 22/ انـتـشـارات بـيـدار)، ويـکـفـي هـنـا أن نـنـتـقـي مـنـه هـذه الروايـة عـن عـطـا قـال: «دخلنا علي عبدالله بن عباس وهو عليل بالطائف، في العلّة التي توفي فيها، ونحن زهاء ثـلاثـيـن رجـلاً مـن شـيـوخ الطـائف، وقـد ضـعـف، فـسـلّمـنـا عـليـه وجـلسـنـا، فـقـال لي: يـا عـطـا مـن القـوم؟ قـلت: يـا سيّدي هم شيوخ هذا البلد: منهم عبدالله بن سلمة بن حـضـرمي الطائفي، وعمارة بن أبي الاجلح، وثابت بن مالک، فما زلتُ أعدّ له واحداً بعد واحد، ثـمّ تـقـدّمـوا إليـه فـقـالوا: يـا ابـن عـمّ رسـول الله، إنـک رأيـت رسـول الله (ص) وسمعت منه ما سمعت، فأخبرنا عن اختلاف هذه الامّة، فقوم قد قدّموا عليّاً علي غيره، وقوم جعلوه بعد ثلاثة!.

قـال: فـتـنـفـّس ابـن عـبـاس وقـال: سـمـعـت رسـول الله (ص) يـقـول: عـليُّ مـع الحقّ والحقّ مع عليّ، وهو الامام والخليفة من بعدي، فمن تمسّک به فاز ونجي، ومـن تـخـلّف عـنه ضلّ وغوي، بلي، يکفنني ويغسّلني ويقضي ديني، وأبوسبطيَّ الحسن والحسين، ومن صلب الحسين تخرج الائمة التسعة، ومنّا مهديّ هذه الامّة.

فـقـال له عـبـدالله بـن سـلمـة الحـضـرمـي: يـا ابـن عـمّ رسـول الله، فهل کنت تعرّفنا قبل هذا؟

فقال: والله قد أدّيت ما سمعت، ونصحت لکم، ولکنّکم لاتحبّون الناصحين!

ثـم قـال: أتـّقـوا الله عـبـاد الله تـقـيـّة مـن اعـتـبـر بـهـذا... واعـمـلوا لاخـرتـکـم قـبـل حـلول آجـالکـم، وتـمـسـّکـوا بـالعـروة الوثـقـي مـن عـتـرة نـبـيـّکـم، فـإنـي سـمعته (ص) يقول: «من تمسّک بعترتي من بعدي کان من الفائزين».

ثـمّ بـکـي بـکـاءً شـديـداً، فـقـال له القـوم: أتـبـکـي ومـکـانـک مـن رسول الله (ص) مکانک؟

فقال لي: يا عطا، إنّما أبکي لخصلتين: هول المطّلع، وفراق الاحبّة!

ثـمّ تـفـرّق القـوم، فـقال لي: يا عطا، خذ بيدي واحملني الي صحن الدار. ثمّ رفع يديه الي السـمـاء وقـال: أللّهـمّ إنـّي أتقرّب إليک بمحمّدٍ وآله، أللّهمّ إنّي أتقرّب إليک بولاية الشـيـخ عـلي بـن أبي طالب. فما زال يکررّها حتي وقع علي الارض، فصبرنا عليه ساعة ثمّ أقـمـنـاه فـإذا هـو مـيـّت رحـمـة الله عـليـه.» (کـفـايـة الاثـر: 20 ـ 22؛ وانـظـر إخـتيار معرفة الرجال: 56، الرقم 106).

[2] مرّ بنا في المحاورة الاولي أنه (رض) قال للامام (ع): «وأنّ نصرک لفرض علي هذه الامة کفريضة الصلاة والزکاة التي لايقدر أن يقبل أحدهما دون الاخري».

[3] قـال العـلاّمـة فـي الخـلاصـة: «عـبـدالله بـن العـبـاس مـن أصـحـاب رسول الله (ص)، کان محبّاً لامير المؤمنين (ع) وتلميذه، حاله في الجلالة والاخلاص لامير المؤمـنـيـن أشـهـر مـن أن يـخـفـي...»، (ص 103، ذکـره فـي القـسـم الاوّل من کتابه / وانظر مستدرکات علم الرجال: 5:43).

«وقـد عـلم النـاس حـال ابـن عـباس في ملازمته له ـ أي عليّ(ع) ـ وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخـرّيـجـُه، وقـيـل له: أيـن عـلمـک مـن عـلم ابـن عـمـّک؟ فـقـال: کنسبة قطرة من المطر الي البحر المـحـيـط..». (شـرح نـهـج البـلاغـة لابـن أبـي الحـديـد: 1:19)، وقـال الشـيـخ حسن بن الشهيد الثاني: «عبدالله بن العباس حاله في المحبّة والاخلاص لمولانا أمـيـر المـؤمـنين والموالاة والنصرة له والذبّ عنه والخصام في رضاه والموازرة مما لاشبهة فيه...». (التحرير الطاووسي: 312).

وبعد أن أنهي الامام الحسن (ع) خطبته في الناس بعد وفاة أمير المؤمنين (ع) قام عبدالله بن عـبـاس بـيـن يـديـه فـقال: «معاشر الناس هذا ابن نبيّکم ووصيّ إمامکم فبايعوه..» (کشف الغمة:2:159 وراجع: مقاتل الطالبيين:33).

وکان (رض) والياً للامام الحسن (ع) علي البصرة کما کان والياً لامير المؤمنين (ع) عليها.

وقـد حـاول أعـداء أهـل البـيـت (ع) الطـعـن فـي هـذه الشـخـصية الهاشمية الجليلة فافتروا عليه أکذوبة اختلاس أموال بيت المال في البصرة ايّام کان والياً عليها في حياة أمير المؤمنين (ع)، وقـد انبري محققون کثيرون من علمائنا لتفنيد هذه الا کذوبة ولتنزيه ساحة حبر الامّة من أدرانها، ويحسن هنا أن ننتقي بعض المتون الواردة دفاعاً عن ساحة ابن عباس (رض):

«دخـل عـمـرو بـن عـبـيـد عـلي سـليـمـان بـن عـلي بـن عـبـدالله بـن العـبـاس بـالبـصـرة فقال لسليمان: أخبرني عن قول عليّ(ع) في عبدالله بن العباس: يفتينا في النملة والقملة وطار بـأمـوالنـا فـي ليـلة! فـقـال له: کـيـف يـقـول هـذا!؟ وابـن عـبـاس لم يـفـارق عـليـاً حـتـي قـتـل، وشـهـد صـلح الحـسـن (ع)! وأيّ مـالٍ يـجـتـمـع فـي بـيـت مـال البـصـرة مـع حـاجـة عـليّ(ع) الي الامـوال، وهـو يـفـرغ بـيـت مـال الکـوفـة فـي کـلّ خـمـيـس ويـرشـّه، وقـالوا: إنـه کـان يـُقـيـل فـيـه! فـکـيـف يـتـرک المـال يـجـتـمـع بـالبـصـرة!؟ وهـذا باطل!» (أمالي المرتضي، 1:177).

وقـال السـيـّد الخـوئي: «هـذه الروايـة ـ أي روايـة اخـتـلاس أمـوال البـصـرة ـ ومـا قـبـلها من طرق العامة، وولاء ابن عباس لامير المؤمنين وملازمته له (ع) هو السـبـب الوحـيـد فـي وضـع هذه الاخبار الکاذبة وتوجيه التهم والطعون عليه، حتي أنّ معاوية لعنه الله کان يلعنه بعد الصلاة! مع لعنه عليّاً والحسنين وقيس بن سعد بن عبادة والاشتر کما عـن الطـبـري وغـيـره... والمـتـحـصـّل مـمـا ذکـرنـا أنّ عـبـدالله بـن عـبـاس کـان جـليـل القـدر مـدافـعـاً عـن أمـيـر المـؤمـنـيـن والحـسـنـيـن (ع) کـما ذکره العلامة وابن داود.» (معجم رجال الحديث، 10:239).

وقـال ابـن أبـي الحـديـد: «وقـال آخـرون وهم الاقلّون: هذا لم يکن، ولافارق عبدالله بن عباس عـليـّاً(ع) ولابـايـنـه ولاخـالفـه، ولم يـزل أمـيـراً عـلي البـصـرة الي أن قـُتـل عـليّ(ع).. ويـدلّ عـلي ذلک مـا رواه أبوالفرج علي بن الحسين الاصفهاني من کتابه الذي کتبه الي معاوية من البصرة لمّا قُتل عليّ(ع). قالوا: وکيف يکون ذلک ولم يخدعه معاوية ويجرّه الي جـهـتـه، فـقـد عـلمـتـم کـيـف اخـتـدع کـثـيـراً مـن عـمّال أمير المؤمنين (ع) واستمالهم اليه بالامـوال، فـمـالوا وتـرکـوا أمـيـر المـؤمنين (ع)، فما باله وقد علم النبوة التي حدثت بينهما، لم يـسـتـمل ابن عباس ولا اجتذبه الي نفسه، وکلّ من قراء السير وعرف التواريخ يعرف مشاقّة ابن عـبـاس لمـعـاوية بعد وفاة عليّ(ع) وما کان يلقاه به من قوارع الکلام وشديد الخصام، وما کان يـثـنـي بـه علي أمير المؤمنين (ع) ويذکر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه ومآثره، فـلوکـان بـيـنـهـمـا غـبـار أو کـدر لمـا کـان الامـر کـذلک، بـل کـانـت الحـال تـکـون بـالضـدّ لمـا اشـتـهـر مـن أمـرهـمـا. وهـذا عـنـدي هـو الا مثل والا صوب.» (شرح نهج البلاغة، 4:171).

وقـال التـسـتـري: «الاصـل فـي جـعـلهـم هـذا الخـبـر ـ اخـتـلاس أمـوال البـصـرة ـ فـي ابن عباس إرادتهم دفع الطعن عن فاروقهم باستعماله في أيّام إمارته المـنـافـقـيـن والطـلقـاء ـ کـالمـغـيـرة بن شعبة ومعاوية ـ وترکه أقرباء النبيّ(ص)..» (قاموس الرجال، 6:441).

ويـحـسـن هـنـا أن ننظر إجمالاً في سندي خبري الاختلاس اللذين أوردهما الکشّي: سند الخبر الاوّل: «قـال الکـشـّي: روي عـليّ بن يزداد الصائغ الجرجاني، عن عبدالعزيز بن محمّد بن عبدالاعـلي الجـزري، عـن خـلف المـحـرومـي البـغـدادي، عـن سـفـيـان بـن سـعـيـد، عـن الزهـري قال: سمعت الحارث يقول:...» (اختيار معرفة الرجال، 1:279، رقم 109).

ويکفي هذا السند ضعفاً وجود سفيان بن سعيد (الثوري) فيه، الذي هو ليس من أصحابنا، وورد في ذمّه أحاديث صحيحة. (راجع: منتهي المقال، 3:351).

هـذا فـضـلاً عـن عـدائه لعـليّ(ع)، ولانـنـسـي قـوله المـعـروف: «أنـا أبـغـض أن أذکـر فضائل علي!» (سير أعلام النبلاء، 7:353).

وفـي السـنـد أيـضـاً: الزهـري الذي عـُرف بـأنـّه کـان يـدلّس عـن الضـعـفـاء (راجـع: تـهـذيب الکمال، 30:471 وميزان الاعتدال، 2:169 وتهذيب التهذيب، 11:218).

وعـُرِف الزهـري بـأنـه أفسد نفسه بصحبة الملوک، وترک بعضهم حديثه لکونه کان مداخلاً للخلفاء! (راجع: سير أعلام النبلاء، 5:339).

أمّا سند الخبر الثاني فهو:

«قـال الکـشـّي: قـال شـيـخ مـن أهـل اليـمـامـة، يـذکـر عـن مـعـلّي بـن هلال، عن الشعبي قال:...» (اختيار معرفة الرجال، 1:279، رقم 110).

ونقول:

1) ـ لکـلمـة الشـيـخ إطلاقات عديدة: منها: من له إلمام بالحديث، الزعيم الديني، رئيس القبيلة، لکنّ هذا العنوان لا محالة مهمل ولايمکن الاعتماد عليه إذ لايخرج عن الابهام والترديد.

2) ـ مـعـلّي بـن هـلال: قـال فـيـه أحـمـد بـن حـنـبـل: مـتـروک الحـديـث، حـديـثـه مـوضـوع کذب، وقـال فـيـه ابـن مـعـيـن: هـو مـن المـعـروفـيـن بـالکـذب ووضـع الحـديـث. وقال فيه أبوداود: غير ثقة ولامأمون. وقال سفيان: هذا من أکذب الناس.

وقـال فـي المـغـنـي: کـذّاب بـالاتـفـاق. «راجـع: مـيـزان الاعتدال، 4:152 وتهذيب التهذيب، 10:241).

3) ـ الشـعـبـي: وهو عامر بن شراحيل، قال الشيخ المفيد(ره): وبلغ من نصب الشعبي وکذبه أنه کـان يـحـلف بـالله أنّ عـليـّاً دخـل اللحـد ومـاحـفـظ القـرآن، وبـلغ مـن کـذبـه أنـه قال: لم يشهد من الجمل من الصحابة إلاّ أربعة، فإن جاؤا بخامس فأنا کذّاب.. کان الشعبي سـکـّيـراً خـمـّيـراً مـقـامـراً، روي عـن أبـي حـنـيـفة أنه خرق ما سمع منه لما خمره وقمره. (راجع: الفصول المختارة: 171 وقاموس الرجال، 5:612).

وروي أبـونـعـيـم، عـن عـمـرو بـن ثـابـت، عـن أبـي إسـحـاق قـال: ثـلاثـة لايـُؤمَنون علي عليّ بن أبي طالب: مسروق، ومرّة، وشريح وروي أن الشعبي رابعهم. (انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد،4:98).

قـال الشـهـيـد الثـانـي: «جـمـلة ما ذکره الکشي من الطعن فيه ـ أي ابن عباس ـ خمسة أحاديث کلّها ضعيفة السند..». (انظر: سفينة البحار، 6: 128).

وقـال العـلامـة الحـلّي: «.. وقـد ذکر الکشّي أحاديث تتضمّن قدحاً فيه، وهو أجلّ من ذلک، وقد ذکـرنـاهـا فـي کـتـابـنـا الکـبـيـر وأجـبـنـا عـنـهـا.» (خـلاصـة الاقوال: 103).

وقـال التـفـرشـي: «ومـا ذکـره الکـشـّي مـن الطـعـن فـيـه ضـعـيـف السـنـد» «نـقـد الرجال، 3:118).

[4] مناقب آل أبي طالب، 3:400؛ وفيات الاعيان 6:179.

[5] أمالي الصدوق: 478، المجلس 87، حديث رقم 5.

[6] مستدرک الحاکم، 3:179.

[7] راجـع: اخـتـيـار مـعـرفـة الرجـال (رجال الکشي)، 1:272، وأُسد الغابة، 3:195.

[8] راجـع نـصّ المـحـاورة الاولي لفـهـم المـراد فـي جوّ المحاورة نفسها، في صفحة 213 ـ 217.

[9] بـل ورد عـن الصـادق (ع) ان الامـام البـاقـر کـان يـحـبّه حباً شديداً انظر: اختيار معرفة الرجال: 57، الرقم 107.

[10] مـنـاقـب آل أبـي طـالب، 4:53 / ولعـل ابـن شـهـر آشـوب نقل هذا عن کتاب التخريج الذي نقل عنه رواية قبل هذه الرواية.

[11] «إنّ سـعـيـد بـن جـبـيـر کـان يـقـوده بـعـد أن کـُفّ بـصـره» (تـنـقـيـح المقال، 2:191).

وقـال الذهـبـي: «إنـّمـا أخـّر النـاس عن بيعة ابن عباس ـ أن لو شاء الخلافة ـ ذهاب بصره». (سير أعلام النبلاء، 3:356). و«خطب ابن الزبير بمکّة علي المنبر وابن عباس جالس مع الناس تـحـت المـنـبـر، فـقـال: إنّ هـا هـنـا رجـلاً قـد أعـمـي الله قـلبـه کـمـا أعـمـي بـصـره... فـقـال ابـن عـبـاس ‍ لقائده سعيد بن جبير: استقبل بي وجه ابن الزبير، وارفع من صدري، وکان ابـن عـباس قد کُفَّ بصره..» «أنظر: قاموس الرجال، 6:470 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحـديـد، 20: 130 و134 وسـيـر أعـلام النـبـلاء، 3:354 ومـنـتـهـي المقال، 4:201).

[12] المعارف: 589.

[13] اخـتـيـار مـعـرفـة الرجـال، 1:272؛ وتـنـقـيـح المقال، 2:191.

[14] سير أعلام النبلاء، 4:68.

[15] أمالي الطوسي: 314 ـ 315، المجلس 11، الحديث 640/87.

[16] الفتوح، 5:27؛ ومقتل الحسين (ع) للخوارزمي، 1:281.

[17] مروج الذهب، 3:108.

[18] ورد فـي بـعـض المـتون أنّ ذهاب بصره في آخر عمره کان بسبب البکاء علي أمير المؤمنين علي (ع) (انظر سفينة البحار، 6:128 عن حديقة الحکمة).

[19] ولعـلّ هـذا الضـعـف الذي دبّ الي بـصـره بـسـبـب هـذا البـکـاء المـتـواصـل مـنـذ فـقـده أمـيـر المـؤمـنـيـن (ع) کـان قـد اشـتـد واسـتـفـحـل بـعد فقده الامام الحسن (ع)، فکان ابن عباس قريباً من العمي أواخر عهد معاوية ـ فيما بعد شهادة الامام الحسن (ع) ـ فلما التقي معاوية في تلک الايام کان ضعف بصره الشديد هذا هو الذي دفع معاوية الي القول ساخراً: «أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصارکم!».