بازگشت

تأمل و ملاحظات


1) ـ يمكن تشخيص تأريخ هذه المحاورة من قرائن متون روايتها أنّها حصلت في الايام الاخيرة من إقـامـة الامـام (ع) فـي مـكـّة، بدليل قوله (ع) «قد أزمعتُ علي ذلك في أيّامي هذه..»، أو أنها حـصـلت فـي اليوم الاخير أو اليوم الذي قبله، بدليل قوله (ع) كما في رواية الطبري: «قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين..».

2) ـ تـؤكـّد نـصـوص هذه المحاورة أنّ تصميم الامام (ع) علي التوجّه الي العراق قد شاع في النـاس فـي مـكّة وغيرها، خصوصاً في الايّام الاواخر من إقامته فيها، وهذا لاينافي أن يبقي موعد السفر سرّياً لو أراد الامام (ع) ذلك، مع أن نفس موعد سفر الركب الحسيني من مكّة لم يكن سرّياً إذ كـان الامـام (ع) قـد أعـلن عـنـه فـي خـطـبـتـه قـبـيـل سـفـره حـيـن قـال فـيـهـا: «... مـن كـان بـاذلاً فـيـنـا مـهـجـتـه، ومـوطـّنـاً عـلي لقـاء الله نـفـسـه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالي.». [1] .

3) ـ في هذه المحاورة يتجلّي المحور الاساس في تفكير ابن عباس (رض) وموقفه من قيام الامام (ع) فـهـو مـع القـيـام، وضـد الخـروج الي العـراق قـبل أن يتحرّك أهله عملياً لترتيب وتهيئة الاضـاع وتـمـهـيـدهـا استقبالاً لمقدم الامام (ع) إليهم، وهذه المقولة صحيحة في حدود منطق النصر الظـاهـري الذي كانت تنطلق منه مشورات ابن عباس (رض) ونصائحه، والمُلفت للانتباه أنّ الامـام (ع) لم يـُخـطـّيء


مـثـل هـذه المـشـورة والنـصـيـحـة فـي جـمـيـع المحاورات التي طُرحت فيها من قـِبـل ابـن عـبـاس وغـيـره، [2] بـل كـان يعلّق عليها بما يُشعر بصحتها في حدود منطق الظاهر. [3] .

4) ـ فـي ضـوء مـنـطـق (الظـاهـر) يـمـكـن للمـتـابـع المـتـأمـّل أن يـفـسـّر قـول الامـام (ع) «لابـدّ مـن العـراق» أنّ إصـراره (ع) عـلي التـوجـّه الي العـراق كـان بـسبب رسـائل أهـل الكـوفة إليه، إذ شكّلت هذه الرسائل حجّة علي الامام (ع) في وجوب الاستجابة لهـم والتـوجـّه إليـهـم، خـصـوصـاً بـعـد وصـول رسـالة مـسـلم بـن عقيل (ع) إليه وقد أخبره فيها بأنّ عدد المبايعين له في الكوفة بلغ ثمانية عشر ألفاً (أو أكـثـر)، وطـالبـه فـيـهـا بـالقـدوم إليـهـم، ويـؤيـّد هـذا مـا روي عـنـه (ع) أنـه قال لابن عباس ‍ في محاورة أخري: «.. وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم وقد وجب عليَّ إجابتهم وقام لهم العذر عليَّ عند الله سبحانه». [4] .

أمـّا فـي ضـوء مـنـطـق «العـمـق» فـإنّ قـوله (ع) «لابـدّ مـن العـراق» مـع عـلمـه بـأن أهـل الكـوفـة سـوف يـقـتـلونـه ومـن مـعـه مـن أنـصـاره ـ وتـصـريحات الامام (ع) بأنه سوف يـُقـتـل كـثـيـرة مـتـظـافـرة ـ لابـدّ أن يـفسّر بأنّ الامام (ع) يعلم أيضاً أنّ العراق هو الارض المختارة للمصرع المختار، وميدان الواقعة الحاسمة، واقعة «الفتح بالشهادة»، الواقعة التي تـكـون نـتـائجـهـا جـمـيـعـاً لصـالح الاسـلام المـحـمـّدي الخـالص وأهل البيت (ع) إلي قيام الساعة، ذلك لانّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ


إقليم إسـلامـي آخـر، ولانّ العـراق لم يـنـغـلق إعـلامـيـاً ونـفـسـيـّاً لصـالح الامـويـيـن كـمـا هـو الشـام، بـل لعـلّ العـكـس ‍ هـو الصـحـيح، فالعراق آنذاك هو أرض المصرع المختار لما ينطوي عليه من استعدادات للتأثر بالحدث العظيم «واقعة عاشوراء» والتغيّر علي هدي اشعاعاتها.

ويـؤيـّد هـذا التـفـسـير (في العمق) أنّ الامام (ع) ظلّ مصرّاً علي التوجّه الي الكوفة حتي بعد انـتـفـاء حـجّة أهل الكوفة عليه عملياً حين بلغه خذلانهم لمسلم (ع) الذي أمسي وحيداً وجاهد وحيداً حتي قُتل!

5) ـ ورد فـي هـذه المـحـاورة قـول ابـن عـبـاس (رض) للامـام (ع): «.. وأنـت تـعـلمُ أنـّه بلدٌ قد قـُتـِل فـيـه أبـوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله!...» ولاشك أنّ المراد ب‍ (ابن عمّك) هو مسلم بن عقيل (ع)، ولذا فإنّ هذه العبارة شاذّة ومخالفة للمشهور الثابت، ذلك لانّ خـبـر مـقـتـل مـسـلم (ع) أتـي الامـام الحـسـيـن (ع) بـعـد خـروجـه مـن مـكـّة فـي مـنـزل مـن مـنـازل الطـريـق (زرود)، ولعـلّ هـذه العـبـارة قـد أُدخـلت إدخـالاً عـلي أصل متن هذه المحاورة عمداً أو سهواً، والله العالم.

كذلك الامر في قول ابن عباس (رض) للامام (ع): «.. فأتقِ الله والزم هذا الحرم..»، ذلك لانّ فـيـه مـن سـوء الادب فـي مـخـاطـبة الامام (ع) ما يبعد صدوره جدّاً عن ابن عباس (رض) العارف بمقام الامام الحسين (ع) خاصة وبمقام أهل البيت (ع) عامّة.

6) ـ يمكن حمل قـول الامـام (ع): «.. لئن أُقـتـل بـالعـراق أحـبُّ إليَّ مـن أن أُقـتـل بـمـكـّة..» عـلي أصـل إصـرار الامـام (ع) ألاّ يـكـون هـو القـتـيـل فـي مـكـّة الذي تـُسـتـحـلّ بـه حـرمـة هـذا البـيـت، ويـمـكـن حـمـل هـذا القـول أيـضـاً عـلي حـقـيـقـة عـلمـه (ع) بـأنّ العـراق هـو أفـضـل أرض للمـصـرع المـخـتـار كـمـا قـدّمـنـا قـبـل ذلك، ولانّ الواقـعـة التـي يـُقـتـل (ع)


فيها علي أرض العراق سوف تكون إعلامياً وتبليغياً (علي الاقلّ) في صالح الامام (ع) تـمـامـاً بـحـيث لايتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم علي مصرعه فتختنق الاهداف المرجوّة من وراء هذا المـصـرع الذي سـيـهـزّ الاعـماق في وجدان هذه الامّة ويحرّكها بالاتجاه الذي أراده الحسين (ع)، وهـذا بـخـلاف مـالو قـُتِل الامام (ع) بمكّة غيلة في خفاء أو علانية، قتلة يمكن للعدوّ أن يُغطّي عـليـهـا ويـتـنـصـّل مـن مـسـؤوليـتـه عـنـهـا، بـل يـسـتـفـيـد مـن نـفـس الحادثة لصالحه إعلامياً، إذ يـقـتـل القاتل ـ الذي كان قد أمره هو بقتل الامام (ع) ـ فيظهر للامّة بمظهر المطالب بدم الامام (ع) الثـائر له، فـتـنـطـلي اللعـبة علي أكثر الناس، وتبقي مأساة الاسلام علي ماهي عليه، بل تترسخ المصيبة وتشتدّ.

7) ـ فـي خـتـام هـذه المـحـاورة نـقـف أمـام قـول الامـام (ع): «ومـا قضي اللّه فهو كائن، ومع ذلك أسـتـخير الله وأنظر مايكون.»، وقد تكرّر قوله (ع) «أستخير الله» في بعض محاوراته (ع) مع ابن الزبير وابن مطيع وفي ردّه علي كتاب المسور بن مخرمة.

فـهـل عـنـي الامـام (ع) بـالاسـتـخـارة طـلب مـعـرفـة مـا فـيـه الخـيـرة مـن الامـور!؟ وهل يعني هذا أنّ الامام الحسين (ع) لم تكن لديه خطّة علي الارض في مسار نهضته منذ البدء، ولم يـكـن لديـه علم بما هو قادم عليه من مصير في مستقبل ايّامه وأنّ بوصلة الاستخارة هي التي كانت توجّه حركته!؟

وهـل يـوافـق هـذا: الاعـتقاد الحقّ بالشرائط اللازمة للامامة المطلقة المتجسّدة في شخصيات أئمّة أهل البيت (ع) بعد النبي الاكرم (ص)، خصوصاً علي صعيد (علم الامام (ع»!؟

وهـل يـصـدّق هـذا التـراث الروائي الكـبـيـر المـتـظـافر المأثور عن النبيّ(ص)


وعنهم (ع) في إخباراتهم عن (الملاحم والفتن) إلي قيام الساعة، وخصوصاً الاخبارات المأثورة عن النبيّ(ص) وعن عليّ والحسن والحسين (ع) بصدد (ملحمة عاشوراء)!؟

قبل الاجابة يحسن بنا أن نتعرّض هنا الي معني الاستخارة لغة واصطلاحاً.


پاورقي

[1] مـثـيـر الاحـزان: 38؛ وقـد بـيـّنـا فـي الفـصـل الاوّل أنه (ع) خطب هذه الخطبة في عامة الناس.

[2] کعمر بن عبدالرحمن المخزومي، وعمرو بن لوذان، ومحمد بن الحنفية (رض).

[3] فقد قال (ع) لابن عباس في محاورة أخري بعدها (تأتي) وقد طرح فيها نفس المشورة: «إنـي والله لاعـلم أنـک نـاصـح مـشـفـق!»، وقـال (ع) لعمر بن عبدالرحمن وقد عرض نفس هذه المـشـورة: «فـقـد والله عـلمـت أنـّک مـشـيـت بـنـصـح وتـکـلّمـت بـعـقـل!»، وقـال (ع) لعمرو بن لوذان وقد قدّم نفس هذا الرأي: «يا عبدالله، ليس يخفي عليَّ الرأي ولکنّ الله تعالي لا يُغلب علي أمره!».

[4] معالي السبطين، 1:151.