بازگشت

المحاورة 1


وهي محاورة ثلاثية كان عبدالله بن عمر، الثالث فيها، ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت في الايام الاولي مـن إقـامـة الامـام الحـسـين (ع) في مكّة المكرّمة، وكان بها يومئذٍ ابن عباس وابن عمر (وقد عـزمـا أن يـنـصـرفـا الي المدينة)، ونحن نركّز هنا علي نصوص التحاور فيها بين الامام (ع) وبين ابن عباس لاننا الان


بصدد تشخيص أبعاد موقفه وتحرّكه.

وقـد ابـتـداء ابـن عـمـر القـول فـي هـذه المـحـاورة مـحذّراً الامام (ع) من عداوة البيت الاموي وظلمهم ومـيـل النـاس الي الدنـيـا، وأظـهـر له خـشـيـتـه عـليـه مـن أن يـُقـتـل، وأنـه سـمـع رسـول الله (ص) يـقـول: «حـسـيـن مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله إلي يوم القيامة»، [1] ثمّ أشـار عـلي الامـام (ع) أن يـدخـل فـي صـلح مـا دخل فيه الناس ‍ وأن يصبر كما صبر لمعاوية!! [2] .

فـقـال له الحـسـيـن (ع): «أبـا عـبـدالرحـمـن! أنـا أبـايـع يـزيـد وأدخـل فـي صـلحـه وقـد قـال النـبـيّ(ص) فـيـه وفـي أبـيـه مـا قال!؟

فقال ابن عباس: صدقتَ أبا عبدالله، قال النبيّ(ص) في حياته: مالي وليزيد، لا بارك الله فـي يـزيـد!، وإنـّه يـقـتـل ولدي وولد ابـنـتـي الحـسـيـن (ع)، والذي نـفـسـي بـيـده لايُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم!

ثم بكي ابن عباس، وبكي معه الحسين (ع).

وقال: «يا ابن عباس، تعلمُ أنّي ابن بنت رسول الله (ص)!

فـقـال ابـن عـبـاس: أللّهـمّ نـعـم، نـعـلمُ ونـعـرف أنّ مـا فـي الدنـيـا أحـد هـو ابـن بـنـت رسـول الله (ص) غـيـرك، وأنّ نـصرك لفرض ‍ علي هذه الامّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لايقدر أن يقبل أحدهما دون الاخري!

قـال الحـسـيـن (ع): يـا ابـن عـبـاس، فـمـا تـقـول فـي قـومٍ أخـرجـوا ابـن بـنـت رسـول الله (ص) مـن داره وقـراره ومـولده،


وحـرم رسـوله، ومـجـاورة قـبـره، ومولده، ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لايستقرّ في قرار ولايأوي في موطن، يريدون في ذلك قـتـله وسـفـك دمـه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله!.

فـقـال ابن عباس: ما أقول فيهم إلاّ (إنّهم كفروا بالله وبرسوله ولايأتون الصلاة إلاّ وهم كـُسـالي)، [3] (يـُراؤون النـاس ‍ ولايذكرون الله إلاّ قليلاً، مذبذبين بين ذلك، لا إلي هـؤلاء ولا إلي هـؤلاء ومـن يـُظـلل اللهُ فـلن تـجـد له سـبـيـلا)، [4] وعـلي مـثـل هـؤلاء تـنـزل البـطـشـة الكـبـري، وأمـّا أنـت يـا ابـن بـنـت رسـول الله (ص) فـإنـك رأس الفـخـار بـرسـول الله (ص) وابـن نـظـيـرة البـتـول، فـلا تـظـنّ يـا ابـن بـنـت رسـول الله أنّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد(ص) فماله من خلاق.

فقال الحسين (ع): أللّهمَّ اشهد.

فقال ابن عباس: جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك تريدني إلي نفسك، وتريد منّي أن أنـصـرك! والله الذي لا إله إلاّ هو أن لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّي انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممن أوفّي من حقّك عشر العشر وها أنا بين يديك مرني بأمرك.

وهـنـا يـتـدخـل ابـن عـمـر ليـغـيـّر مـجـري الحـوار ـ حـيـن أحـسَّ أنّ الكـلام بـلغ الدرجـة الحـرجـة بـقول الامام (ع) «أللّهمّ اشهد» أنّ الحجّة قائمة علي المخاطب، وصار الحديث علي لسان ابن عـبـاس الذي أدرك مـغـزي «أللّهـمّ اشـهـد» في وجوب نصرة الامام (ع) ووجوب الانضمام إلي رايـتـه فـي القـيـام ضـد الحكم الاموي، الامر الذي


يعني أنه (أي ابن عمر) مقصود أيضاً بالامتثال لهذا الواجب ـ فقال لابن عباس: مهلاً، ذرنا من هذا يا ابن عباس!!

ثمّ عطف يخاطب الامام (ع) داعياً إيّاه الي الرجوع الي المدينة والتخلّي عمّا عزم عليه من القيام، وطـالباً منه الدخول في صلح القوم، والصبر حتي يهلك يزيد!!، ويدّعي ابن عمر هنا أنّ الامام (ع) متروك ولابأس عليه إن هو ترك القيام حتي وإنْ لم يبايع!!

وهـنـا يـُظـهـر الامـام (ع) تـبـّرمـه مـن مـنـطـق ابـن عمر، ثم يُلزمه بالتسليم لحقيقة أنّ ابن بنت رسـول الله (ص) فـي طـهـره ورشـده ومنزلته الخاصة ليس كيزيد بن معاوية، ويُعلمه أنّ الامـويـيـن لايتركونه حتي يبايع أو يقتل، ثمّ يدعوه إلي نصرته، فإن لم ينصره فلا أقلّ من أن لايسارع بالبيعة!!

ثمّ أقبل الامام الحسين (ع) علي ابن عباس رحمه الله..

فـقال: يا ابن عباس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنت مع والدي تـشـير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ الي المـديـنـة فـي حـفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شيءٌ من أخبارك، فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومـقـيـمٌ فـيـه أبـداً مـا رأيـتُ أهـله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واسـتـعـصـمـتُ بـالكـلمـة التـي قـالها إبراهيم الخليل (ع) يومَ أُلقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل) فكانت النار عليه برداً وسلاماً.

.. فـبـكـي ابـن عـبـاس وابن عمر في ذلك الوقت بكاءً شديداً، والحسين (ع)


يبكي معهما ساعة، ثمّ ودّعهما، وصار ابن عمر وابن عباس الي المدينة. [5] .


پاورقي

[1] الفتوح، 5: 26 ـ 27.

[2] سوف نکشف عن سرّ منطق ابن عمر هذا في تحليلنا لشخصيته، فتابع.

[3] سورة التوبة، الاية 45.

[4] سورة النساء، الاية 142.

[5] راجع: الفتوح، 5: 26 ـ 27 ومقتل الحسين (ع) للخوارزمي، 1: 278 ـ 281/لقد تفرّد ابـن أعثم الکوفي في کتابه «الفتوح» برواية تمام هذه المحاورة، ونقلها عنه الخوارزمي في کـتـابـه «مـقـتـل الحـسـيـن (ع»)، وقـد تضمّنت هذه المحاورة بعض الفقرات التي لايمکن للمتتبع المـتـأمـّل إلاّ أن يـتـحـفـّظ حـيـالها إنْ لم يقطع بکذبها ورفضها، خصوصاً في بعض نصوص التحاور بين الامام وبين ابن عمر، وقد أرجاءنا الکلام فيها الي حيث موقع دراسة موقف ابن عمر ونوع تحرّکه وحقيقة انتمائه.