بازگشت

محاولة عمرو الاشدق لمنع الامام من الخروج عن مكة


يـحـدّثـنـا التـأريـخ عـن أسلوبين سلكتهما السلطة الامويّة المحليّة في مكّة لمنع الامام (ع) من الخـروج عـن مـكـّة، أحـدهما كان


أسلوباً سلميّاً عرض فيه عمرو بن سعيد الاشدق الامان والبر والصـلة للامـام (ع) فـي رسالة وجهها إليه، والاخر كان أسلوباً قمعياً وعسكرياً حيث تصدّت جماعة من جند السلطة للركب الحسيني لمنع حركته في الخروج عن مكّة.

ويـبـدو أنّ الاسـلوب الاوّل أي أسـلوب بـذل الامـان والصـلة كـان قبل الاسلوب القمعي، كما هي العادة في مثل هذه الوقائع.

تـقـول رواية تأريخية أنّ الاشدق لما بلغه عزم الحسين (ع) علي مغادرة مكّة بعث إليه رسالة ورد فيها: «إنّي أسأل اللّه أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يرديك، بلغني أنك قد عزمت عـلي الشـخـوص إلي العـراق! وإنـي أُعـيـذك بـاللّه مـن الشـقـاق، فـإنـّك إن كـنـت خـائفـاً فأقبل إليَّ فلك عندي الامان والبرّ والصلة!». [1] .

قد يُستفاد من قوله: «بلغني أنك قد عزمت علي الشخوص..» أنّ هذه الرسالة كتبها الاشدق والامـام (ع) فـي مـكـّة قـبـل شـخـوصـه إلي العـراق، لكـنّ قـوله الاخر فيها: «فإنك إن كنت خائفاً فـأقـبـل إليّ» مـشـعـر بـأنّ الاشـدق قـد كـتـبـهـا إلي الامـام (ع) وقـد خـرج بالفعل عن مكة.

لكـنّ روايـة الطـبـري تـصـرّح بـأنّ الاشـدق بـعـث بهذه الرسالة إلي الامام (ع) بعد خروجه بـاقـتـراح مـن عـبـداللّه بـن جـعـفـر، وأنّ الذي تـولّي أمـر كـتـابـة هـذه الرسـالة بـالفـعـل هـو عـبـداللّه بـن جـعـفـر ثـمّ خـتـمـهـا الاشـدق بـخـتـمـه، يقول الطبري:

«وقـام عـبـداللّه بـن جـعـفـر الي عـمـرو بـن سـعـيـد بـن العـاص فـكـلّمـه، وقال: أكتب إلي الحسين كتاباً تجعل له فيه الامان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له فـي كـتـابـك، وتـسـأله الرجـوع، لعـلّه يـطـمـئن إلي ذلك فـيـرجـع. فـقـال عـمـرو بـن سـعـيـد: أكـتـب مـاشـئت وأ تـني به حتي أختمه. فكتب عبداللّه بن جعفر الكتاب، [2] ثـمّ أتـي بـه عـمـرو بـن سـعـيد،


فقال له: اختمه وابعث به مع أخيك يحيي بن سـعـيـد، فـإنـّه أحـري أن تـطـمـئن نـفـسـه إليـه ويـعـلم أنـّه الجـدّ مـنـك. ففعل». [3] .

ويـتـابـع الطـبـري روايـتـه قـائلاً: «..فـلحـقـه يحيي وعبداللّه بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقـرأه يـحـيـي الكـتـاب، فـقـالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول اللّه (ص) وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له عليَّ كان أو لي! فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتي ألقي ربي!

قال وكان كتاب عمرو بن سعيد إلي الحسين بن عليّ(ع):

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«مـن عـمـرو بـن سـعـيـد إلي الحـسـيـن بـن عـلي: أمـّا بـعـد، فـإنـي أسـأل اللّه أن يـصـرفـك عـمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجّهت إلي العـراق، وإنـي أُعـيـذك بـاللّه مـن الشـقـاق، فـإنـي أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبداللّه بن جعفر ويحيي بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما فإنّ لك عندي الامان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك اللّه عليّ بذلك شهيد وكفيل ومراعٍ ووكيل. والسلام عليك». [4] .

ولا يـخـفـي عـلي ذي بـصـيـرة مـافـي هـذه الرسـالة وأشـبـاهـهـا مـن رسائل السلطة الاموية الظالمة من مفردات متكررة مقصودة، فالخروج علي النظام الظالم فيها من المـوبـقـات، ومن الشقاق، وسعيٌ في تفريق كلمة الامّة والجماعة، وما الي ذلك من أسلحة إعلامية لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والاصلاح!


ويذكر الطبريّ أنّ الامام (ع) كتب إليه:«..أمـّا بـعـدُ: فـإنـه لم يـشـاقـق اللّه ورسـوله مـن دعـا إلي اللّه عـزّوجـلّ وعـمـل صـالحاً وقال إنني من المسلمين، وقد دعوتَ الي الامان والبرّ والصلة، فخير الامان أمان اللّه، ولن يـؤمـن اللّه يـوم القـيـامـة مـن لم يـخـفـه فـي الدنـيـا، فـنـسأل اللّه مخافه في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبري فجُزيت خيراً في الدنيا والاخرة والسلام». [5] .

ويـبـدو أنّ الاشـدق لمـّا آيس من أسلوب عرض الامان [6] علي الامام (ع) لجاء


إلي ما تـعـوّد عـليـه مـن الاسـاليـب القـمـعـيـة فـي المـواجـهـة، فـقـد روي الطـبـري عـن عـقـبة بن سمعان قـال: «لمـّا خـرج الحسين من مكّة اعترضه رسلُ عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيي بن سعيد، فـقـالوا له: انـصـرف، أيـن تذهب!؟ فأبي عليهم ومضي، وتدافع الفريقان فاضطربوا بـالسـيـاط، ثـمّ إنّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قويّاً، ومضي الحسين (ع) علي وجهه، فـنـادوه: يـاحـسـيـن، ألا تـتـقـي اللّه، تـخـرج مـن الجـمـاعـة وتـفـرّق بـيـن هـذه الامـّة!؟ فـتـأوّل حـسـيـن قـول اللّه عـزّوجـلّ (لي عـمـلي ولكـم عـمـلكـم أنـتـم بـريـئون مـمـا أعمل وأنا بريء مما تعملون»). [7] .

وتقول رواية الدينوري: «ولما خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد ابن العاص في جماعة من الجند، فقال: إنّ الامير يأمرك بالانصراف، فانصرف وإلاّ منعتك!

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.

وبـلغ ذلك عـمـرو بـن سـعـيـد، فـخـاف أن يـتـفـاقـم الامـر، فأرسل الي صاحب شُرَطهِ يأمره بالانصراف!». [8] .

والمـتأمّل في هذين النصّين يستشعر بوضوح أنّ القوّة العسكرية الاموية


لم تكن كافية لمنع الامـام (ع) مـن الخـروج، والمفروض في مثل هكذا مواجهة تقع خارج حدود المدينة مع الركب الحسيني الكبير نسبياً حتي ذلك الوقت) أن يستعمل الاشدق كلّ ما لديه من قوّة في مواجهة الامام (ع) لمنعه مـن الخـروج، غـيـر أنّ الحـال لم تـعدُ أن تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط ثمّ خاف الاشدق من تفاقم الامر! وأمر (رسله) أو (جماعة من جنده) بالانصراف خائبين.



پاورقي

[1] البداية والنهاية، 8: 165.

[2] إنَّ العـارف بـشـخـصـيـة عبداللّه بن جعفر(رض) وبسيرته وعلاقته ومعرفته بالامام الحسين (ع)، والمتأمل بمحتوي هذا الکتاب، يستبعد کثيراً أن يکون هذا الکتاب من إنشاء عبداللّه بن جعفر لما فيه من مضامين الجسارة والجهل بمقام الامام (ع).

[3] تأريخ الطبري، 3: 297.

[4] تأريخ الطبري، 3: 297.

[5] تأريخ الطبري، 3: 297.

[6] ولاشک أنّ الامام (ع) أعرف من سواه بحقيقة ومصداقية الامان الذي يبذله بنو أميّة، إذ طـالمـا خـان مـعـاويـة عـهـد الامـان الذي بـذله لمـعـارضـيـه کـمـثـل حـُجـر بن عدي (رض)، إنّ الامان عند حکّام بني أميّة وولاتهم خدعة من خدع مصائدهم، أفلم يـُرسـل ابـن زياد إلي هاني من يؤمنه ويرغّبه في زيارته ثم اعتقله وعذّبه وقتله!؟ أوَلَمْ يخن ابن زياد الامان الذي بذله لمسلم (ع) ممثّله محمّد بن الاشعث!؟

إنّ الاشـدق وهـو طـاغـيـة وجـبـار مـن جبابرة بني اميّة لايختلف عن ابن زياد في قدرته علي الغشم والظـلم والفـتـک والغـدر، ويـحـدّثـنـا التـأريـخ أنّ ابـن زيـاد أرسـل الي الاشـدق مـن يـبشّره بقتل الامام الحسين (ع)، والاشدق هو الذي أعلم الناس بالمدينة بـقـتل امام الحسين (ع)، وأظهر فرحه لذلک ودعا ليزيد، ولما سمع واعية بني هاشم في دورهم عـلي الحـسـيـن (ع) حـيـن سـمـعـوا النـداء بـقـتـله تـمـثـل الاشـدق بقول عمرو بن معدي کرب:



عجّت نساء بني زياد عجّة

کعجيج نسوتنا غداة الارنبِ



ثـمّ قـال: هـذه واعـيـة بـواعـيـة عـثـمـان. (راجـع: مـسـتـدرکـات عـلم رجال الحديث، 6: 41؛ والارشاد: 247؛ والبحار، 45: 122؛ وسفينة البحار، 6: 465).

وروي أنـه لمـا انـهـزم النـاس فـي وقـعـة مـرج راهـط قـال له عـبـيـداللّه بـن زيـاد: إرتـدف خـلفـي. فـارتـدف، فـأراد عـمـرو بـن سعيد أن يقتله، فقال له عبيداللّه بن زياد: ألا تکفّ يالطيم الشيطان!!؟ (العقد الفريد، 4: 397).

وقـد ذاق هـذا الاشـدق فـي نـهـايـة مـطـاف حـيـاتـه مـرارة الغـدر الامـوي نـفـسـه بـعـدمـا بـذل له عـبـدالمـلک بـن مـروان (الامـان الامـوي!) حـيـث قـتـله بـيـده ذبـحـاً (راجـع: قـامـوس الرجـال، 8: 103)، وقـد روي الذهـبي تفصيل قصة قتله أنه: «استخلفه عبدالملک علي دمشق لمّا سـار ليـمـلک العـراق، فـتـوثـّب عـمـرو عـلي دمـشـق وبـايعوه، فلمّا توطّدت العراق لعبدالملک وقُتل مصعب، رجع وحاصر عمرواً بدمشق، وأعطاه أماناً مؤکّداً!! فاغترّ به عمرو، ثمّ بعد أيام غدر به وقتله. (سير أعلام النبلاء،3:449).

[7] تأريخ الطبري، 3: 296.

[8] الاخبار الطوال: 244.