بازگشت

تنفيذ امر يزيد باعتقال الامام او اغتياله في مكة


قـلنـا فيما مضي ـفي متابعتنا لحركة السلطة الاموية المركزية في الشام تحت عنوان (التخطيط لاغـتـيـال الامـام (ع) أو اعتقاله في مكّة): إنّ هذه الخطة من المسلّمات التأريخية التي يكاد يجمع عـلي أصـلهـا المـؤرّخـون، وقـدّمـنـا هـنـاك مـجـمـوعـة كـافـيـة مـن الدلائل التـأريـخـيـة عـلي وجـود هـذه الخـطة التي كانت السبب الصريح لمبادرة الامام (ع) الي الخـروج من مكّة يوم التروية كما هو المشهور والصحيح، إضافة الي الاسباب الاخري الداعية الي مبادرة الخروج والتي تقع في طول ذلك السبب الصريح.

ويهمّنا هنا في متابعتنا لحركة السلطة الاموية المحلّية في مكّة المكرّمة أن نتعرّف علي حدود مسؤوليـة هـذه السـلطـة المـحـليـة فـي تـنـفـيـذ خـطـة السـلطـة المـركـزيـة لاغتيال الامام (ع) أو إلقاء القبض عليه في مكة المكرمة.


إنّ المـتـأمـّل فـي النـصـوص الواردة عـن الامـام (ع) نـفسه في هذا الصدد يري أنه (ع) يُلقي بمسؤولية هذه الخطّة علي النظام الاموي ككل وينسب هذه المسؤولية صراحة الي يزيد، كما في قـوله لاخـيه محمد بن الحنفية (رض): «يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فـأكـون الذي يـسـتـباح به حرمة هذا البيت»، [1] وفي قوله (ع) للفرزدق «لو لم أعجل لاُخذتُ». [2] .

وفـي قـوله (ع) لابـن الزبـيـر: «لان أُقـتـل خـارجـاً مـنـهـا بـشـبـريـن أحـبّ إليّ مـن أن أُقـتـل خـارجاً منها بشبر، وأيمُ اللّه، لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتي يقضوا بي حاجتهم!». [3] .

لكـنّ مـتـوناً تأريخية أخري تصرّح بأن المكلّف بتنفيذ هذه الخطة والاشراف عليها في مكّة هو واليـهـا عـمرو بن سعيد بن العاص (الاشدق)، يقول الطريحي في تعليله لعدم أداء الامام (ع) مـنـاسك الحج تلك السنة: «..وذلك لانّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولاّه أمر الموسم، وأمّره علي الحاج كلّه، وكان قد أوصاه بقبض ‍ الحسين سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة. ثمّ إنّه لعنه اللّه دسّ مع الحجّاج في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الحسين علي كلّ حال اتفق..». [4] .

ومـن قـبـله كان السيّد ابن طاووس (ره) قد أشار إلي ذلك قائلاً: «فلمّا كان يوم التروية قدم عـمـر بـن سـعـد بـن أبـي وقـاص ‍ إلي مـكـّة فـي جـنـد كـثـيـف، قـد أمره يزيد أن


يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه، أو يقاتله إن قدر عليه، فخرج الحسين يوم التروية». [5] .

ولاشـك أنّ تـصحيفاً وقع من سهو النسّاخ في بعض نسخ كتاب السيّد ابن طاووس (ره)، حيث ورد فـيـه إسـم (عـمـر بـن سـعـد بـن أبـي وقـّاص) بدلاً من (عمرو بن سعيد بن العاص)، ذلك لانّ الثـابـت والمشهور تأريخياً أنّ عمر بن سعد كان في الكوفة في الايام التي كان فيها الامام (ع) في مكّة. [6] .

ويـذكـر السـيـّد المقرّم (ره): «أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره علي الحاج، وولاّه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد..». [7] .

مـمـا مـرّ يـتضح أنّ والي مكّة آنذاك عمرو بن سعيد بن العاص (الاشدق) كان مأموراً بتنفيذ خطة اغتيال الامام (ع) أو إلقاء القبض عليه في مكّة سرّاً أو في مواجهة عسكرية علنية.

لكنّ لنا تحفّظاً علي هذه المتون في نقطتين هما:

1) ـ أنّ المـسـتـفـاد مـن مـتـون تـأريـخـيـة أخـري هـو أنّ عـمـرو الاشـدق كـان فـي مـكـّة


مـنـذ أوّل يوم دخل إليها الامام الحسين (ع)، [8] وقد كان هذا الاشدق والياً علي مكّة منذ أيّام مـعـاويـة، وعـلي هـذا جـُلّ المـؤرّخـيـن. ولم نعثر علي نصّ تأريخي يفيد أنّ الاشدق سافر الي الشام ثم عاد الي مكّة في المدّة التي كان الامام (ع) فيها بمكّة.

ولذا فـإنّ مـاورد فـي نـصّ الطـريـحـي أنّ «يـزيـد أنـفـذ عـمـرو» يـحـمـل عـلي مـعـنـي أنّ يـزيد أمر عمرو، وما ورد في نصّ ابن طاووس أنّ عمرو قدم الي مكّة يوم التـروية قد يحمل علي عودته من المدينة إلي مكّة بعد أن سافر إليها لارعاب أهلها، ومع هذا فإنّ من المستبعد جدّاً أن يعود الاشدق إلي مكّة يوم التروية ويتركها أياماً طويلة والامام (ع) فيها ووفود الناس تقبل عليه وتلتفّ حوله!

2) ـ ورد فـي بـعـض هـذه المـتـون أنّ يـزيـد أنفذ الاشدق في عسكر عظيم أو في جند كثيف، لكنّ المـسـتفاد من دلائل تأريخية أخري هو أن والي مكة الاشدق لم تكن لديه تلك القوّة العسكرية المـبـالغ فـيـهـا، بـل كـان لديـه جـمـاعـة مـن الجـنـد والشـرطـة قـد تـكفي لضبط الامور الادارية داخـل مـكـّة ولتـنـظـيـم حـركـة الحجيج آنذاك وحراسة السلطان فقط، وسنأتي علي ذكر بعض هذه الدلائل التـأريـخية لاحقاً في متابعتنا لمحاولة عمرو بن سعيد الاشدق منع الامام (ع) من الخروج عن مكّة.

ويـؤكـّد صـحـة مـانـراه: أنّ الاشـدق لم يـحـقـّق مـا أمـر بـه مـن إلقاء القبض علي الامام (ع) داخل مكّة، أو الفتك به سرّاً، أو جهراً في مواجهة علنية!

ولعـلّ قـائلاً يـقـول: إنّ وجـود الحماية الكافية التي كان الامام (ع) يتمتّع بها حيثما حلّ في مكّة كان السبب في عجز الاشدق عن تنفيذ ما أُمر به!

ولا يخفي أنّ هذا القول اعتراف ضمني بعدم كفاية القوّة الاموية!


أو يقول: إنّ عمرو بن سعيد الاشدق تحاشي الفتك بالامام (ع) في مواجهة علنية لانه يخشي مـن تـفاقم الامر علي السلطة الامويّة بسبب تواجد جموع الحجيج العامرة قلوبهم بحبّ الامام (ع) وتقديسه!

ولا يـخـفـي أنّ هـذا القـول صـحـيـح لو لم تـكـن هـنـاك أوامـر صـريـحـة وصـارمـة مـن قـبـل يـزيـد بـضـرورة تنفيذ المؤامرة، أو أنّ عمرو الاشدق لم يكن ذلك الطاغية الجبّار الارعن الذي لم يـتـورّع أمـام أهـل المدينة عن إعلان استعداده لحرق الكعبة إذا تحصّن بها ابن الزبير رغم أنف من رغم! غير مبالٍ بقداسة الكعبة وحرمتها ولا بمشاعر الامّة!

ويـؤيـّد مـانـراه أيـضـاً مـاورد فـي نـفـس نصّ ابن طاووس (ره) أنّ يزيد أمر الاشدق بمناجزة الحسين (ع) (إن هو ناجزه!) أو يقاتله (إن هو قدر عليه!)، وفي هذا إشعار كافٍ بخوف يزيد من عدم كفاية القوّة الاموية، فأين إذن ذلك العسكر العظيم والجند الكثيف.

وينبغي التأكيد هنا: أنّ كلّ ما قدّمناه لاينافي كون أنّ هذه الخطة والمؤامرة كانت السبب الصريح فـي مـبـادرة الامـام (ع) الي الخـروج مـن مـكـّة يـوم التـرويـة (قـبـيـل الشـروع بـمـراسـم الحـج)، وذلك لانّ أعـوان السـلطـة وعـمـلاءهـا قـد يـتـمـكـنـون مـن اغتيال الامام (ع) أثناء الحجّ حيث يكون هو وأنصاره وجميع الحجيج عُزّلاً من السلاح.


پاورقي

[1] اللهوف: 128.

[2] الارشاد: 201.

[3] نور الابصار: 258.

[4] المنتخب: 243؛ والبحار، 45: 99.

[5] اللهوف: 127.

[6] کـان عـمـر بـن سـعـد فـي الکـوفـة فـي الايـّام التـي کـان فـيـهـا مـسـلم بـن عـقـيـل (ع) مـنـذ کـان النـعـمـان بـن بـشـيـر واليـاً عـليـهـا، لانـّه أحـد الذيـن کـتـبـوا إلي يـزيد حـول ضـعـف النعمان ليستبدله بوالٍ غيره، وبقي عمر في الکوفة الي يوم التروية وما بعده لانه کان في مجلس عبيداللّه حينما جيء بمسلم (ع) أسيراً، وقد أوصي إليه مسلم (ع) لکنه خان الوصـيـة، فـالثـابـت أنّ عـمـر کـان فـي القـصـر سـاعـة مقتل مسلم (ع).

[7] مقتل الحسين (ع) للمقرّم: 165.

[8] راجع مثلاً: تذکرة الخواص: 214.