بازگشت

اشارة


تـلفـت انـتـبـاه المـتأمّل في هذه الخطبة دعوي ابن مرجانة بأنّ يزيد أمره فيما أمره به «بالاحـسان إلي سامعكم ومطيعكم!» فمع أنّ هذه الدعوي لم تصدّقها وثائق التأريخ وهي أكذوبة مـن أكـاذيـب ابن زياد الكثيرة، وهذا الاحسان ـلو تحقّق مشروط بالانقياد التام والخنوع للسلطة الامـويـة، فـإنّ موعدة الاحسان الكاذبة هذه جأت متأخرة جداً بعد سنين متمادية تعمّد فيها طاغية الامـويـيـن الاكبـر مـعـاوية أن يُذيق أهل الكوفة الضيم والجوع والحرمان، وأن يجعلهم وقود حـروبـه فـي الثـغـور وفـي مـواجـهـة الخـوارج، عقوبة لولائهم لعلي (ع)، وكان معاوية لايعبأ بـشـكـايـة أهـل الكـوفـة، بـل يـردّ عـلي مـن يـحمل إليه الشكوي منهم أسوأ الردّ ويعامله بالاستخفاف والقسوة.

هـذه سـودة بـنـت عـمـارة تـأتـيـه مـن العـراق وتـشـكـو إليـه جور ولاته الذين حكّمهم في رقاب وأمـوال أهل الكوفة، فتقول: «لاتزال تُقدم علينا من ينهض بعزّك ويبسط سلطانك فيحصدنا حـصـاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قُدم بلادي، وقتل رجالي وأخذ مالي..». [1] .

فـمـا كـان جـواب الطـاغـيـة إلا أن قـال لهـا: «هـيـهـات، لمـّظـكـم ابـن أبـي طـالب الجـرأة!». [2] .

وقالت له عكرشة بنت الاطرش: «إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فتُرَدُّ


علي فقرائنا، وإنـّا قـد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير ولا يُنعشُ لنا فقير. فإنْ كان ذلك عن رأيك فمثلك من انـتـبـه عـن الغـفـلة وراجـع التـوبـة، وإنْ كـان عـن غـيـر رأيـك فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة!». [3] .

فـمـا كـان جـواب معاوية إلا أن قال لها: «هيهات ياأهل العراق، نبّهكم عليّ بن أبي طالب فلن تُطاقوا..». [4] .

فـلم تـكن الكوفة تنتظر من السلطة الاموية المركزية ولامن ولاتها إحساناً ورأفة ورفقاً طيلة سنين متمادية جرّعها فيها معاوية كأس الهوان والمذلّة والحرمان.

لكـنّ بـركـان الكـوفـة لمـا فـارت أعـمـاقـه بالحمم، ودوّت في فمه صرخة النُذُر بالتمرّد والقيام مع الحسين (ع) ضد الحكم الاموي، عزف الوالي الجديد ابن زياد نغمة الاحسان لتهدئة ثورة البركان المتأزّم بقذائف الحمم، بعد سنين طويلة، فلعلّ وعسي! ولكن أي إحسان هو!؟ إنه الاحسان الخاص للمنقادين السامعين الطائعين فقط.


پاورقي

[1] العقد الفريد، 2: 104.

[2] نفس المصدر.

[3] نفس المصدر، 2:112.

[4] العقد الفريد، 2: 112؛ وهناک وافدات أخريات وفدن علي معاوية بالشکاة والتبرّم مـن جـوره وجـور ولاتـه، مـنـهـن: الدارمـيـة، وأمّ الخـيـر، وأروي بـنـت عـبـدالمطلب، وأم سنان، والزرقـأ، وبـکارة الهلالية (راجع: العقد الفريد، 2: 102 ـ 121). وظاهرة وفود النسأ دون الرجال علي معاوية بالشکوي والتظلّم کاشفة عن أنّ الارهاب الاموي بلغ آنذاک حدّاً من التعاظم عـلي رجـال الکـوفـة الي درجـة أنّ أحداً منهم لم يکن ليستطيع التشکّي والتظلّم خوفاً من قسوة العقوبة والنکال.