بازگشت

هل خرج الامام من مكة سرا؟


قـال المـرحـوم المـحـقـّق الشـيخ السماوي في كتاب (إبصار العين): «ولمّا جأ كتاب مسلم إلي الحـسـيـن عـزم عـلي الخـروج، فـجـمـع أصـحـابـه فـي الليـلة الثـامـنة من


ذي الحجّة، فخطبهم فقال:..»، [1] ثم أورد خطبته المعروفة بعبارتها الشهيرة «خُطَّ الموت علي ولد آدم مخطَّ القلادة علي جيد الفتاة» والتي ورد في آخرها قوله (ع):

«فـمـن كـان بـاذلاً فـيـنـا مـهـجـتـه، مـوطـّنـاً عـلي لقـأ اللّه نـفـسـه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شأ اللّه تعالي».

وقـد يـُسـتـفاد من قول الشيخ السماوي (ره): «فجمع أصحابه..» أنّ هذه الخطبة التي أعلن فـيـهـا الامـام (ع) عـن مـوعـد ارتـحـاله عـن مـكـّة لم تـكـن أمـام مـحـضـر عـام، بـل كـانـت فـي اجـتـمـاع خـاص اقـتصر علي أصحابه (ع) فقط، فموعد السفر لم يعلم به إلاّ أصحابه، ولم يخرج الموعد إذن عن كونه سراً من أسرار حركة الركب الحسيني من مكّة، أي أنّ الامام الحسين (ع) كان قد خرج بركبه من مكّة الي العراق سرّاً!

لكـنّ المـلفـت للانتباه أنّ الشيخ السماوي (ره) لم يذكر المصدر الذي أخذ عنه قوله «فجمع أصحابه..»، كما أننا لم نعثر علي مصدر من المصادر التأريخية المعروفة والمعتبرة ـوالتي يحتمل أنّ الشيخ السماوي (ره) قد أخذ عنها كان قد ذكر هذه العبارة «فجمع أصحابه..».

بل إنّ المصادر التي ذكرت هذه الخطبة بالذات لم تذكر تلكم العبارة، ففي اللهوف: «وروي أنـّه (ع) لمـّا عـزم عـلي الخـروج الي العـراق قـام خـطـيـبـاً فـقـال:..»، [2] وفـي مـثـيـر الاحـزان: «ثـم قـام خـطـيـبـاً فـقـال:..»، [3] وفـي كـشـف الغمة: «ومن كلامه (ع) لمّا عزم علي الخروج الي العراق، قام خطيباً فقال:..» [4] .


هذه هي المصادر الاساسية التي نعلم أنها ذكرت هذه الخطبة..

ومـع هـذا، فـإنّ خـروج الامام (ع) من مكّة لم يكن سرّاً حتي علي فرض أنّ الامام (ع) كان قد خطب هـذه الخـطـبـة فـي أصـحـابـه فـقـط، ذلك لانّ الذيـن كـانـوا مـلتـفـّيـن حـول الامـام (ع) وهـو فـي مـكـّة كـثـيـرون، وفـيـهـم مـن يـريد الدنيا وفيهم من يريد الاخرة، ولم يـُغـربـل هـذا الجـمـع الكـبـيـر إلاّ فـي مـنـازل الطـريـق إلي العـراق مـنـزلاً بـعـد منزل حتي لم يبق معه إلا الصفوة التي استشهدت بين يديه في الطف. فمن البعيد جداً أن تكون حـركـة الركـب الحـسـيـنـي من مكّة إلي العراق سرّاً، والمحيطون بالامام (ع) في مكّة آنذاك خليط من أناس نواياهم شتّي، ثمّ هل يُتصوَّر أنّ حركة الركب الحسيني وهو كبير نسبياً في مكّة المكرّمة وهي آنذاك صغيرة نسبياً ـبكلّ ما تستلزمه حركة مثل هذا الركب الكبير من مقدّمات واستعدادات تخفي عن أعين السلطة الذين كانوا يتحسسون الصغيرة والكبيرة من حركة الامام (ع)!؟

يـذهـب بـعـض المـحـقـّقـيـن المـتـتـبـعـيـن إلي عـكـس مـا أورده الشـيـخ السـمـاوي (ره) حـيـث يقول: «ولمّا عزم الامام (ع) علي مغادرة الحجاز والتوجّه إلي العراق أمر بجمع الناس ليلقي عليهم خطابه التأريخي، وقد اجتمع إليه خلق كثير في المسجد الحرام من الحجّاج وأهالي مكّة، فقام فيهم خطيباً، فاستهلّ خطابه بقوله..»، [5] ثم أورد تلكم الخطبة نفسها.

ومن الادلّة علي أنّ خروج الامام الحسين (ع) من مكّة لم يكن سرّاً أنّ والي مكة يومئذٍ عمرو بن سعيد بـن العـاص أمـر صـاحـب شـرطـتـه بـاعـتـراض الركـب الحـسـيـنـي عـنـد الخـروج، يـقـول التـأريـخ: «ولمـّا خـرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند.


فقال: إنّ الامير يأمرك بالانصراف فانصرف وإلا منعتك.

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط.

وبـلغ ذلك عـمـرو بـن سـعـيـد، فـخـاف أن يـتـفـاقـم الامـر، فأرسل إلي صاحب شرطته يأمره بالانصراف.» [6] .

إذن فـخـروج الركـب الحسينيّ من مكّة لم يكن سرّاً، وهذا لا ينافي الحقيقة


التأريخية في أنّ الامام الحـسـيـن (ع) قـد اسـتـبـق الاحـداث والزمـان فـخـرج مـن مـكـّة مـبـادراً قـبـل أن يـغـتـاله الحـكـم الامـويّ فـيـهـا أو يُقبَض عليه، لان خروج الامام (ع) من مكّة بالركب الحـسـيـنـي الكـبـيـر نـسـبـيـاً وقـتـذاك كـان عـلي امـتـنـاع وأهـبـة واسـتـعـداد لكـلّ احـتـمـال، في وقت لم يكن من مصلحة الحكم الاموي أن تواجه سلطته المحلّية في مكّة ـعلي فرض امتلاكها القوّة العسكرية الكافية [7] الامام الحسين (ع) مواجهة حربية علنية في مكّة أو فـي أطـرافـهـا، لانّ الامويين يعلمون ما للامام الحسين (ع) من مكانة سامية عزيزة وقدسية بالغة فـي قـلوب جـمـوع الحـجـيـج الذين لازالوا آنذاك في مكّة، فهم يخافون من انقلاب الامر وتفاقمه عـليـهـم، ولعـلَّ روايـة الديـنـوري السـابـقـه تـشـعـر بـهـذه الحـقـيـقـة حـيـث تـقـول: «.. وبـلغ ذلك عـمـرو بـن سـعـيـد، فـخـاف أن يـتـفـاقـم الامـر، فأرسل إلي صاحب شرطته يأمره بالانصراف».

وعـلي ضـوء مـا تـقـدّم تـتـأكـّد صـحـة مـاتـقـدّم فـي الجـزء الاوّل [8] مـن هـذا الكـتـاب (مـع الركـب الحـسيني من المدينة إلي المدينة): أنّ خروج الامام الحـسـيـن (ع) مـن مـكـّة المـكـرّمـة (وكـذلك مـن المـديـنـة) فـي السـحـر أو فـي أوائل الصـبـح فـي ستر الظلام من أجل ألاّ تتصفح أنظار الناس في مكّة (وكذلك في المدينة) فـي وضـح النـهار حرائر


بيت العصمة والرسالة والنسأ الاُخريات في الركب الحسيني، وهذا هو السبب الا قوي ـإن لم يكن السبب الوحيد في مجموعة الاسباب التي دفعت الامام (ع) إلي الخروج في السحر أو في أوائل الصبح، وهذا ما يتناسب تماماً مع الغيرة الحسينية الهاشمية.


پاورقي

[1] إبصار العين: 27.

[2] اللهوف: 126.

[3] مثير الاحزان: 41.

[4] کشف الغمة 2: 241 / دار الکتاب الاسلامي ـ بيروت.

[5] حياة الامام الحسين بن علي (ع) 3: 47.

[6] الاخـبـار الطـوال: 244 / وراجـع: الکـامـل فـي التـاريـخ 2: 547 وفـيه: «ثم خرج الحـسـيـن يوم التروية فاعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص..». وتاريخ الطبري 3: 96 وفـيـه: «لمـّا خـرج الحسين من مکّة اعترضه رسل عمرو بن سعيد». لکنّ ابن عبد ربّه في کتابه العـقـد الفـريـد 4: 377 تـفـرّد بـهـذا النقل الغريب: «ثم خرج ـأي عمرو بن سعيد إلي مکّة، فـقـدمـهـا قـبل يوم التروية بيوم، ووفدت الناس للحسين يقولون: ياأبا عبداللّه، لو تقدّمت فـصلّيت بالناس فأنزلتهم بدارک! إذ جأ المؤذّن بالصلاة، فتقدّم عمرو بن سعيد فکبّر، فـقـيـل للحـسـيـن: أخـرج أبـا عـبـداللّه إذ أبـيـت أن تـتـقـدّم. فـقـال: الصـلاة فـي الجـمـاعـة أفضل. قال: فصلّي، ثمّ خرج، فلمّا انصرف عمرو بن سعيد بـلغـه أنّ حـسـيـنـاً قد خرج، فقال: اطلبوه، إرکبوا کلّ بعير بين السمأ والارض فاطلبوهـ! قال: فعجب الناس من قوله هذا، فطلبوه فلم يدرکوه.».

وهـذه الروايـة مـع مخالفتها لحقائق تأريخية عديدة، أهمّها أنّ التأريخ الموثّق لم يروِ أنّ الامـام الحـسـيـن (ع) قـد صـلّي خـلف أحد ولاة يزيد بن معاوية في جماعة أبداً، نراها تضطرب اضـطـراب خـيـال الاطـفـال فـتـصـوّر أنّ الامـام (ع) ما إنْ يخرج من المسجد حتي يختفي مع الرکب الحـسـيني الکبير في خروجه من مکّة الي درجة أنّ عمرو بن سعيد لمّا انصرف من نفس الصلاة التي کـان الامـام (ع) معه فيها! (علي فرض ‍ الرواية) طلب من جلاوزته أن يطلبوا الامام (ع) علي کلّ بعير بين السمأ والارض فلم يدرکوه!!

يـقـول العـلامـة الامـيـنـي (ره) فـي کـتـابـه الغـديـر 3: 78 «قـد يـحـسـب القـاريء لاوّل وهلة أنه ـأي العقد الفريد کتاب أدب لاکتاب مذهب، فيري فيه نوعاً من النزاهة، غير أنّه مـتـي أنهي سيره إلي مناسبات المذهب تجد مؤلّفه ذلک المهوّس المهملج، ذلک الا فّاک الاثيم.».

[7] «فقد روي أنه لما کان يوم التروية قدم عمرو بن سعيد بن العاص إلي مکّة في جند کـثـيف، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين (إن هو ناجزه!) أو يقاتله (إن قدر عليه!)، فخرج الحسين يوم التروية.» (نفس المهموم: 163)، ويلاحظ علي هذه الرواية ـ وهي تؤکّد وجود قوّة عـسـکـريـة کـثيفة لدي السلطة الاموية المحلّية في مکّة ـ أنها لا تقطع بأنّ هذه القوّة العسکرية تـمـلک القـدرة عـلي إنـزال الهـزيـمـة بـقـوة الامـام 7، بـدليـل قـول الرواية (إن قدر عليه)، کما أنّ هذه الرواية تؤکّد أنّ السلطة الاموية لاتريد مـنـاجـزة الامـام 7 (فـي قـتـال عـلنـي) فـي مـکـّة إلا إذا اضـطـرّت الي ذلک، بدليل قول الرواية (إن هو ناجزه). فتأمّل.

[8] الامام الحسين (ع) في المدينة المنورة:399 ـ 401.