بازگشت

ملاحظات مستفادة من هذه الخطبة الشريفة


1ـ شبّه الامام (ع) حتمية عدم انفلات الانسان من طوق قهرية الموت بعدم انفلات عنق الفتاة من طوق القـلاد المـحكم، وتشبيه الموت بالقلادة علي جيد الفتاة وهي زينة لها إلفاتة رائعة إلي أنّ الموت خطوة تكاملية في مسار حركة الانسان التكوينية، وهو زينة للمؤمن خاصة في مسار حركة المـصـيـر لكـونـه مـعـبـراً للمـؤمـن مـن دار العنأ والتزاحم والابتلأ والشدائد الي دار النعيم والجـزأ الاوفـي والسـعـادة الابـديـة، ولاشـك أنّ الشـهـادة وهـي أفضل وأشرف الموت أحري بحقيقة الزينة من مطلق الموت، ولا يؤتاها إلا ذو حظّ عظيم.

2ـ في قوله (ع): «خِيرَ لي مصرع أنا لاقيه» إشارة إلي أنّ هذا المصرع اختيار إلهي لا علي نـحـو القهر والجبر طبعاً، بل علي نحو التشريف بكرامة التكليف في الظروف الصعبة الخاصة المؤدية إلي أنْ يتحرّك الامام (ع) نحو هذا المصرع تعبّداً وامتثالاً لامر اللّه تعالي في آدأ هذا التكليف في مثل تلك الظروف.

كما أنّ في قوله هذا إشارة إلي علمه بمصيره ومآل أمره.

3ـ فـي قـوله (ع): «لامـحـيـص عن يوم خُطّ بالقلم» إشارة جليّة إلي حتمية وقوع هذا المصرع، وتـحـقـّق ذلك المـصـيـر قـضـأ مـن اللّه تـعـالي، لا عـلي نـحـو القـهـر والجـبـر كـذلك، بـل عـلي نـحـو أنّ حـركـة الاحـداث فـي عـلم اللّه تـبـارك وتـعـالي سـتـؤول في النهاية بمشيئة اللّه تعالي إلي تحقّق هذا المصرع وبالكيفية التي وقع بها.

4ـ فـي هـذه الخـطـبـة ركـّز الامـام (ع) عـلي أن مـصـيـره فـي التـوجـه إلي العـراق هـو القـتـل، واشـار إلي بـشـاعـة القـتـلة بـأنّ أوصـاله تـقـطـّعها عسلان الفلوات بين النواويس


وكـربـلأ، ولعـلّ فـي قـوله (ع) بـيـن النـواويـس وكـربـلأ إشـارة إلي امـتـداد الجيش ‍ الاموي وكثافته الشديدة علي امتداد مابين هاتين المنطقتين..

وشـرط عـلي مـن يـلتـحـق بـه أن يـكـون بـاذلاً فـي مـوالاة أهـل البـيـت (ع) مـهـجـتـه، ومـوطـّنـاً عـلي لقـأ اللّه نـفـسـه، أي لا مـصـيـر إلاّ القتل والصبر علي السيوف والاسنّة!

فماذا اراد الامام (ع) من ورأ ذلك.. ولماذاـ!؟

إنّ القـائد الربـانـي فـي حـركـتـه نحو تحقيق أهدافه يسعي كغيره من القادة إلي تهيأة العدّة والعدد ويتوسّل الي ذلك بالاسباب الظاهرة المألوفة، ولكنه يختلف عن القادة الساعين الي تـحـقـيـق النـصـر الظـاهـري فـقـط فـي انـّه لا يـبـتـغـي الاعـوان كـيـفـمـا كـانـوا، بـل القـائد الربـّانـي يبتغي أعواناً ربّانين من نوعه، هدفهم الاساس في كلّ ما هم ساعون إليه مـرضاة الربّ تبارك وتعالي، أعواناً هادين مهديين، مصرّين علي المضيّ في طريق ذات الشوكة مـع عـلمـهـم بـمـصيرهم، ومن أولئك تتشكّل العدّة الحقيقية للقائد الربّاني التي يرسم بحسبها خـطّة الفعل ونوع المواجهة، فهو لايعتمد في رسم خطط ونوع المواجهة علي كلّ من التحق به، وكثير منهم الطامعون وأهل الريبة والعصيان، فلابد من تمحيصهم، ولابدّ من تنقية الركب الحسينيّ مـن كـلّ أولئك قـبـل الوصـول الي سـاحـة المـواجـهـة، ولذا كـان لابـدّ من أن يختبر حقيقة النيّات والعـزائم بـالاعـلام والتـأكـيـد عـلي أنّ المـصـيـر هـو القـتـل والصـبـر عـلي السـيـوف والاسـنـة، وأنّ ذلك لا يـقـوي عـليـه إلاّ باذل في حقيقة الموالاة مهجته، موطّن علي لقأ اللّه نفسه!!

وهـذا الاخـتـبـار مـن سنن منهج القيادة الربانيّة، وقد حدّثنا القرآن الحكيم عن هذه السنّة في اختبار النهر علي يد طالوت (ع):

(فـلمـّا فـصـل طـالوت بـالجـنـود قـال إنّ اللّه مـبـتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس


مني، ومن لم يطعمه فإنه مني، إلاّ من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلاّ قليلاً منهم، فلما جاوزه هو والذين آمـنـوا مـعـه قـالوا لا طـاقـة لنـا اليـوم بـجـالوت وجـنـوده، قـال الذيـن يـظـنـّون أنـهـم مـلاقـوا اللّه كـم مـن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصابرين) [1] .

يـُضـاف الي ذلك أنّ القـائد الربـّانـي حـيـنـما يُطلع أنصاره علي ما سوف يلقي ويلقونه من مـصـيـر ومـا سـوف يـواجهونه من شدائد ومكاره يكون بذلك قد فتح لهم باب علّو الدرجة وسمّو المـنـزلة والمـثـوبـة العـليـا عـنـد اللّه تـبـارك وتـعـالي فـي حـال إصـرارهـم عـلي المـضـيّ عـلي طـريـق الجـهـاد فـي سبيل اللّه.

والمـتـأمـل فـي تـفـاصـيـل حركة الامام الحسين (ع) يري أنّ الامام (ع) كان قد دأب علي الاخبار بـمـصـرعـه مـنـذ أن كـان فـي المـديـنـة، وفـي الطـريـق الي مـكـة، وفـي مـكـّة، وفـي منازل الطريق منها الي العراق، مغربلاً بذلك الركب الحسيني من جميع من أرادوا الدنيا من ورأ الالتحاق به، ولم يكتف بذلك بل عرّض حتي الصفوة الخالصة من أنصاره لهذا الاختبار، لتعلو بـثـبـاتـهم درجاتهم الرفيعة عند اللّه تبارك وتعالي، وهكذا كان، حتي رأوا منازلهم في الجنّة عـيـانـاً تلكم العشيّة، ثمّ في الغد الرهيب نراه (ع) قد رسم خطّته الحربية علي أساس قوّته الحـقـيـقـيـة المـؤلّفـة مـن تـلكـم الصـفـوة القـليـلة الخـالصـة مـن كل شائبة!

5ـ فـي قـوله (ع): «لن تـشـذّ عـن رسول اللّه (ص) لُحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تـقـرّ بـهـم عـيـنـه، ويـنـجـز بـهـم وعـده...» إشـارة إلي أنّ مـسـار أهـل البـيـت (ع) امـتـداد لمـسـار رسـول اللّه (ص)، وهـم مـعـه فـي درجـتـه ومـنـزلته، وتقرّ عين الرسـول (ص) بـمـا


جـعـل اللّه لهـم وخـصـّهـم بـه مـن كـرامـة الدنـيـا والاخـرة [2] ولعـل فـي قـوله (ع) «ويـنـجز بهم وعده» إشارة إلي أنّ الوعد الالهي بإظهار دين اللّه علي الديـن كـلّه عـلي كـلّ الارض سـيـتـحـقـق فـي النـهـايـة عـلي يـد رجـل مـن أبـنـأ رسـول اللّه (ص) ومـن أبـنـأ الحـسـيـن (ع) هـو الامـام المـهـدي المـنـتـظـر(ع) [3] .

الخطبة الثانية

إنّ التأمّل في محتوي الخطبة الثانية وعدم ارتباط مضامينها بمضامين الخطبة الاولي يقوّي الظنّ فـي أنّ مـنـاسـبـة الخطبة الثانية بعيدة عن مناسبة الخطبة الاولي زماناً ومكاناً، غير أن الحائري صـاحـب كـتـاب مـعـالي السـبـطـيـن أورد الخـطـبـة الاولي نـقـلاً عـن اللهـوف لابـن طـاووس، ثـمّ قال بعدها: «وخطب بعدها هذه الخطبة...» وأورد الخطبة الثانية، علماً بأنّ اللهوف لم يحتو لا عـلي هـذه الاشـارة ولا عـلي الخـطـبة الثانية نفسها! واللّه العالم عن أيّ مصدر أخذ صاحب معالي السبطين هذه الخطبة وتلكم الاشارة.

ونـحـن نـورد هـذه الخـطـبـة هـنـا بـعـد الخـطـبـة الاولي، لانّ هـذا الفـصـل يـخـتـصّ بـكـلّ


مـا يـرتـبـط بـحـركـة الامـام (ع) فـي مـكـّة المـكـرّمـة، ولانّ مـن المـحـتمل أن يكون الامام (ع) قد اشار عقيب الخطبة الاولي بالاشارات الاخلاقية التي تضمنتها مقاطع الحكم القصار التي احتوتها الخطبة الثانية.


پاورقي

[1] سورة البقرة: 249.

[2] عـن مـحـمـد بـن مـسـلم قال: سمعت أباجعفر وجعفر بن محمد(ع) يقولان: إنّ اللّه تعالي عـوّض الحـسـين (ع) من قتله أن جعل الامامة في ذريته، والشفأ في تربته، وإجابة الدعأ عند قبره، ولا تُعدّ أيّام زائريه جائياً وراجعاً من عمره.

قـال مـحـمـد بـن مـسـلم: فـقـلت لابـي عـبـداللّه (ع): هـذه الخـلال تُنال بالحسين (ع)، فماله في نفسه؟ قال: إنّ اللّه تعالي ألحقه بالنبيّ فکان معه في درجته ومنزلته، ثمّ تلا أبوعبداللّه (ع): (والذين آمنوا واتّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيتهم) الاية». (البحار 44:221).

[3] والروايـات فـي هـذا المـعـنـي کـثيرة يجدها من أرادها في الکتب المؤلّفة في غيبته (ع)، کـالغـيـبـة للطـوسـي، والغـيـبـة للنـعـمـانـي، وکـمـال الديـن للصـدوق، ويـحـتـويـهـا بشکل مجموع کتاب معجم أحاديث المهدي (ع). فراجع.