بازگشت

الايام المكية من عمر النهضة الحسينية


ارتـحـل الامام الحسين (ع) عن المدينة المنوّرة سنة ستين للهجرة إلي مكّة المكرّمة بعد موت معاوية بـن أبي سفيان علي أثر إعلانه رفض البيعة ليزيد، وكان (ع) قد أقام في مكّة المكرّمة منذ اليـوم الثـالث مـن شـعـبـان الي اليـوم الثـامـن من ذي الحجة من نفس السنة، أي ما لايقلّ عن مائة وخـمسة وعشرين يوماً، وهي فترة طويلة نسبياً في إطار حساب عمر النهضة الحسينيّة المباركة، غير أن هـذه الفـتـرة برغم طولها تعتبر الفترة المجهولة من عمر هذه النهضة المباركة إذا قورنت مع فـتراتها الاخري من حيث الوقائع والاحداث التي سجلها التاريخ عنها، ذلك لان كتب التأريخ مـرّت عـلي هـذه الفـتـرة المـكـيـّة مـرور الكـرام، فـعـدا وقـائع أيـّام مـا قـبـيـل خـروج الامـام (ع) مـن مكة التي حظيت بنوع من العناية التأريخيّة التفصيلية، نلاحظ أنّ التأريخ لم يسجّل عن بقيّة هذه الايام المكيّة الطويلة إلاّ ملاحظات عامة هي أقرب إلي الغموض منها إلي الوضوح.

هـذا مـع أنّ دراسـة النـهـضـة الحـسـيـنـيـّة واسـتـيـعـاب أبـعـادهـا وفـهـم أسـرارهـا مـنال لا يبلغ منه المحقق أقصي غايته بمعزل عن معرفة مجريات وقائع هذه الايام المكيّة ودراسة الاجوأ والتحركات المؤيّدة والمضادة التي كانت تعايشها النهضة الحسينيّة والامام (ع) في مكّة.

وتـتـزاحـم فـي ذهـن المـتـأمـل فـي هـذه الفـتـرة المـكـيـّة أسـئلة كـثيرة، قد يكون أوّلها


هو السؤال عـن عـلّة ارتـحـال الامـام (ع) مـن المـديـنـة المـنـورة إلي مـكـّة المـكـرّمـة لا إلي سـواهـا. هل أراد الامام (ع) أن يتّخذ من مكّة مركزاً لانطلاق الثورة علي الحكم الامويّ!؟ أم كان (ع) يريد اسـتثمار أشهر الحج في مكّة المكرّمة لايصال صوت هذه النهضة المباركة والتعريف بأهدافها الي كلّ العالم الاسلامي آنذاك؟

وكـان يـمـكـن للمـتـأمـّل أن يـجـيـب بـالايـجـاب عـلي مـحـتـوي الشـقّ الاوّل مـن السـؤال، أو يـتـبـنـّي الجـمـع بـيـن مـحـتـوي الشـقـّيـن الاوّل والثـانـي مـعـاً لو كـان فـي مـكـّة المـكـرّمـة قـاعـدة شـعـبـيـة كـبـيـرة مـواليـة لاهل البيت (ع)، ولكن هل كانت هذه القاعدة الشعبية الموالية موجودة فعلاً آنذاك!؟

مـن المـؤسـف أنّ مثل هذه القاعدة الشعبية الموالية لم تتوفر للامام الحسين (ع) ولا لاخيه الامام الحـسـن (ع) من قبله ولا لابيهما الامام أميرالمؤمنين (ع) من قبلهما، بسبب ما تركته معارك الاسلام الاولي كـبـدرٍ وأُحـدٍ وغـيـرهن في قلوب بطون قريش من أحقادٍ علي أميرالمؤمنين عليّ(ع) خاصة وعـلي أهـل البـيـت (ع) فـأضـبـّت عـلي عـداوتـهم وأكبّت علي منابذتهم، ذلك لانها لا تنسي عـليـّاً(ع) الذي نـاوش ذؤبـانـهـا وقـتـل صـنـاديـدهـا، وكـيـف تـنـسـاه «وهـو صـاحـب لوأ رسـول اللّه (ص) والمـهاجرين»!؟ [1] كيف تنسي قريش علياً(ع) وقد أورد أوّلها النار وقـلّد آخـرهـا العـار عـلي حدّ قول الامام زين العابدين (ع) وابن عبّاس؟! [2] كيف تحبّه وقد قـتـل فـي بـدرٍ وأُحـد مـن سـاداتـهـم سـبـعـيـن رجـلاً تـشـرب أنـوفـهـم المـأ قبل شفاههم؟ هكذا قال ابن عمر لاميرالمؤمنين عليّ(ع) الذي ردَّ عليه قائلاً:




ماتركتْ بدرُ لنا مُذيقا

ولا لنـا مـن خـلفـنـا طـريـقـا [3] .



عـن عـليّ بـن الحـسـن بـن فـضـّال، عـن أبـيـه، عـن أبـي الحـسـن (ع)، قـال: سـألتـه عـن أمـيـرالمـؤمـنـيـن (ع) كـيـف مـال النـاس عـنـه الي غـيـره، وقـد عـرفـوا فـضـله وسـابـقـتـه ومـكـانـه مـن رسول اللّه (ص)!؟ فقال (ع):

«إنـّمـا مـالوا عـنـه الي غـيـره وقـد عـرفـوا فـضـله لانـه قـد كـان قتل من آبائهم وأجدادهم وإخوانهم وأعمامهم وأخوالهم وأقربائهم المحادّين للّه ولرسوله عدداً كـثـيـراً، وكـان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم فلم يحبّوا أن يتولّي عليهم، ولم يكن في قلوبهم عـلي غـيـره مـثـل ذلك، لانـه لم يـكـن له فـي الجـهـاد بـيـن يـدي رسول اللّه (ص) مثل ما كان له، فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلي سواه». [4] .

وقـد مـارس ساسة السقيفة ومؤيدوهم عملاً إعلامياً مدروساً ومتواصلاً لتأجيج ثائرة قريش علي عـليّ(ع) ولتـرسـيـخ حـقـدهـا عـليـه، فـهـاهـو عـمر بن الخطّاب مثلاً ينظر الي سعيد بن العاص فـيـقـول له: «مـالي أراك كـأنّ فـي نـفسك عليَّ شيئاً، أتظنّ أنّي قتلت أباك؟ واللّه لوددت أنـّي كـنـت قاتله! ولو قتلته لم أعتذر من قتل كافر، ولكنّي مررت به في يوم بدر فرأيته يـبـحـث للقـتـال كما يبحث الثور بقرنه، وإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ، فلمّا رأيت ذلك هبته ورغـتُ عنه! فقال: إلي أين يابن الخطّاب!؟ وصمد له عليٌ فتناوله، فواللّه ما رمت مكاني حتي قتله». [5] .

وكان عليُ(ع) حاضراً في المجلس فقال:


«اللّهـُمَّ غـفـراً، ذهـب الشـرك بـمـا فـيـه، ومـحـا الاسـلام مـا تـقـدّم، فـمـالك تـُهـيِّج النـاس عليَّ!؟». [6] .

وقـد لخـّصـت سـيّدة نسأ العالمين فاطمة الزهرأ عليها السلام علّة كراهية قريش لعليّ(ع) أمام نـسـأ المـهـاجـريـن والانـصـار اللواتـي جـئن لعـيـادتـهـا فـي مـرضـهـا قبل شهادتها حيث قالت (س):

«ومـا الذي نـقـمـوا مـن أبـي الحـسـن!؟ نـقـموا منه واللّه نكير سيفه، وقلّة مبالاته بحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات اللّه». [7] .

ومـا بـرح أمـير المؤمنين عليّ(ع) بعد رسول اللّه (ص) يشكو الي اللّه ما فعلت به قريش من غـصـب حقّه وتصغير عظيم شأنه حتي مضي شهيداً، ومن شكايا بثّه الي اللّه تعالي في هذا قوله (ع):

«مـالنـا ولقـريـش!؟ ومـا تـنـكـر مـنـّا قـريـش غـيـر أنـّا أهل بيت شيّد اللّه فوق بنيانهم بنياننا، وأعلي فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا اللّه عليهم، فـنـقـمـوا علي اللّه أن اختارنا عليهم، وسخطوا مارضي اللّه، وأحبّوا ماكره اللّه، فلمّا اختارنا اللّه عـليـهـم شـركـنـاهـم فـي حـريـمـنـا، وعـرّفناهم الكتاب والنبوّة، وعلّمناهم الفرض والدين، وحـفـّظـنـاهـم الصحف والزبر، وديّناهم الدين والاسلام، فوثبوا علينا، وجحدوا فضلنا، ومنعونا حـقـّنا، وأَلتونا [8] أسباب أعمالنا وأعلامنا، اللّهم فإنّي أستعديك علي قريش فخذ لي بـحـقـّي مـنـهـا، ولا تـدع مـظـلمـتـي لديـهـا، وطـالبـهـم ــيـاربّ بـحـقـّي، فـإنـّك الحـكـم العدل، فإنّ قريشاً صغّرت عظيم


أمري...». [9] .

ويقول (ع) في نفثة أخري وهو يدعو اللّه تعالي علي قريش:

«فـأَجـزِ قـريـشـاً عـنـي بـفـعـالهـا، فـقـد قـطـعت رحمي، وظاهرت عليَّ، وسلبتني سلطان ابن عمّي..». [10] .

ويـجـيـب (ع) أخـاه عـقـيـلاً فـي كـتـاب إليـه: «فـدع عـنـك قـريـشـاً وتـركـاضـهـم فـي الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنّهم قد أجمعوا علي حربي كإجماعهم علي حرب رسول اللّه (ص) قبلي، فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن عمي..». [11] .

ويـلخـّص (ع) مـوقـفـه فـي صـبـره عـلي الطـامـّة الكـبـري فـي انـحـراف الامـّة عـن وصـيـّة رسول اللّه (ص) وغصب قيادة السقيفة حقّه الالهي في الخلافة:

«ما رأيت منذ بعث اللّه محمّداً(ص) رخأً، والحمد للّه، واللّه لقد خفت اللّه صغيراً وجاهدت كبيراً، أقـاتـل المـشـركـيـن وأعـادي المـنـافـقـين حتي قبض اللّه نبيّه (ص) فكانت الطامّة الكبري، فلم أزل حذراً وجلاً أخاف أن يكون ما لا يسعني معه المقام، فلم أرَ ـ بحمد اللّه إلاّ خيراً، واللّه مازلت أضـرب بـسيفي صبياً حتي صرت شيخاً، وإنّه ليصبّرني علي ما أنا فيه أنّ ذلك كلّه في اللّه...». [12] .



پاورقي

[1] البحار، 19: 206.

[2] البحار، 29: 482.

[3] البحار، 29:482 عن المناقب لابن شهرآشوب، 3:220.

[4] البحار، 29 :280 ـ 281، رقم 2 عن علل الشرائع وعيون أخبار الرضا(ع).

[5] أنساب القرشيين: 193.

[6] البحار، 19: 280 ـ 281 عن الارشاد للمفيد: 46.

[7] البحار، 43: 160، باب 7، حديث 9؛ الاحتجاج، 1: 147.

[8] ألَتَهُ يَألِتهُ: إذا نقَصَهُ ـ النهاية، 1:58.

[9] البحار، 29: 559، حديث 10، عن العدد القوية: 189، حديث 19.

[10] البـحـار، 29: 628، حـديـث 38 عـن الامـامـة والسـياسة: 55 تحت عنوان: (خروج عليّ من المدينة).

[11] البحار، 29: 621، حديث 31؛ ونهج البلاغة: 409، رقم 36.

[12] البحار، 29: 556 ـ 557، حديث 7 عن إرشاد المفيد:151.