بازگشت

لماذا الخروج من المدينة ليلا


تـكـاد المـصـادر التـأريـخـيـّة تـجـمـع عـلي أنّ الركـب الحـسـيـنـيّ خـرج مـن المـديـنـة فـي جـوف الليل، وإن كانت هذه المصادر قد إختلفت في الليلة التي كان الخروج فيها.

والظـاهـر مـن مـتـون بـعـض الروايـات أنّ سـاعـة الخـروج مـن المـديـنـة كـانـت مـن سـاعـات الليـل المـتـأخـّرة، مـمـّا يـوحـي بـأنّ الخروج كان بصورة سريّة وعلي خوف من طلب السلطة، خـصوصا وأنّ الروايات تحدّثت أنّ الامام (ع) قد خرج وهو يقراء قوله تعالي: (فخرج منها خائفا يترقّب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين).

وظـاهـر أجـواء وقـائع مـا بـعـد لقـاء الامـام (ع) بـوالي المـديـنـة يـثـيـر مـثـل هـذا التـصـوّر ولايـنـفـيـه، خـصـوصـا وأنّ الامـام (ع) كـان حـريـصـا عـلي أن لايـُقـتـل غـيـلة فـي المـديـنـة، أو تـقـع مـواجـهـة مـسـلّحـة فـي المـديـنـة، فـتـُهـتك بذلك حرمة حرم رسـول اللّه (ص)، فـاسـتـبـق (ع) الزمـن والاحداث كي لايقع كلّ ذلك المحذور، وخرج ليلابتلك الصورة السريّة!

وقـد تـكـرّر الامـر نـفـسـه مع الامام (ع) في مكّة المكرّمة أيضا، فخرج (ع) منها مستبقا الزمن والاحـداث كـي لايـقـع ذلك المـحـذور أيـضـا فـتـُهـتـك بذلك حرمة البيت، وكان (ع) قد خرج منها في السحر أو في أوائل الفجر كما في الروايات.

فـيـكـون الدافـع واحـدا فـي المـرّتـيـن (مـع أنـّنـا قـدّمـنـا مـن قبل أنّ هذا المحذور يقع


عند الامام (ع) في إطار خوف أكبر، وهو خوفه من أن تخنق ثورته في مهدها، سواء في المدينة أو في مكّة...).

غـيـر أنّ مـا يـُلفـت الانـتـبـاه ويـثـيـر التـأمـّل هـو أنّ الامـام (ع) قـبـل خـروجـه مـن مـكـّة قـام خـطـيـبـا وأعـلن فـي خـطـبـتـه عـن مـوعـد خـروجـه مـنـهـا حـيـث قال فيما قال في تلك الخطبة:

(... مـن كـان بـاذلافـيـنـا مـهـجـتـه، ومـوطـّنـا عـلي لقـاء اللّه نـفـسـه فليرحل معنا فإنّي راحلٌ مصبحا إن شاء اللّه تعالي) [1] .

وبـهـذا يـكـون الامـام (ع) قـد كـشـف عـن مـوعـد ارتـحـاله أوائل الصـبـاح كـمـا فـي هـذه الروايـة، أي فـي الوقـت الذي يـعـتـبـر أواخـر الليل وتكون فيه بعدُ بقيّة من ظلام تصلح للستر والخفاء.

لكـنّ كـشـفـه (ع) عـن مـوعـد ارتـحـاله فـي تـلك السـاعـة يـنـفـي التـعـليـل بـأنـّه (ع) خـرج فـي ظـلام السـحـر أو فـي بـقـيـّة ظـلام أوائل الصبح تستّرا من رقابة السلطة الحاكمة كي لايدركهُ الطلب!

هذا فضلاعن أنّه من المستبعد أن يخفي علي السلطة خروج الركب الحسينيّ ساعة خروجه من المدينة (وهـو ركـب كـبـير نسبيّا) أو ساعة خروجه من مكّة (وقد كان أكبر)، إذا حرصت هذه السلطة علي أن تـعـلم مـتـي يـخـرج هـذا الركـب، خـصـوصـا والمـدن آنـئذٍ تـعـتـبر مدنا صغيرة قياسا إلي المدن المعروفة اليوم.

وهـذا فـضـلاعـن أنّ والي المـدينة آنئذٍ الوليد بن عتبة كان متراخيا في الضّغط علي الامام (ع)، وكـان يـتـمـنـّي خـروجه من المدينة وألاّ يُبتلي بدمه! وهذا ليس ‍


بخافٍ علي الامام (ع) ـ كما هو اعتقادنا ـ وكما تشير إلي ذلك أدلّة تأريخيّة.

إنّ التعليل الذي أَطمئنُّ له في هذه المسألة هو أنّ الامام (ع) لم يخرج في الظلام من المدينة أو من مكّة حذرا من أعين السلطة وخوف الطلب، بل خرج في الظلام من كلتا المدينتين وليس في النهار كي لاتتصفّح أعين الناس فيهما النساء في الركب الحسيني، أو تنظر الاعين عن قربٍ كيف يركبن المطايا، الامر الذي تأباه الغيرة الحسينيّة الهاشميّة!

ولو لم يـكـن هـذا الامـر هـو العـلّة التـامـّة لخـروج الركـب الحـسـيـنـيّ فـي جـوف الليـل، فـلاأقـلّ مـن أن يـكـون العـلّة المـهـمـّة جـدّا فـي مـجـمـوعـة العـلل الاخـري التـي شـكـّلت العـلّة التـامـّة لهـذا الخـروج فـي ظـلمـة الليل.


پاورقي

[1] اللهوف: 26.