بازگشت

الخبر في المدينة


اخـتـلف شـأن مـديـنـة رسـول اللّه (ص) عـن سـائر مـدن الاسـلام الاخـري مـن حـيـث طـريـقـة وصـول خـبـر مـوت مـعـاويـة إليـهـا، فـقـد وصـل إليـهـا هـذا الخـبـر بـتـخـطـيط خاصّ


مدروس من قـِبـل يزيد في الشام، لانّه أراد من واليه علي المدينة وهو الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ـ عـلي مـا فـي أكـثر التواريخ [1] ـ أن يأخذ البيعة له من الامام الحسين (ع) بالاساس ومن عبداللّه بن الزبير ثانيا قبل أن يعلم أهل المدينة بخبر موت معاوية.

هـذا مـا يـسـتـفاد من الرسالة الصغيرة ـ التي وصفت كأنّها أذن فأرة ـ والتي بعثها يزيد إلي الوليـد بـن عـتـبـة مـع رسـالة النـعـي الكـبيرة، وكانت تلك الرسالة الصغيرة علي ما في رواية اليعقوبي:

(إذا أتـاك كـتـابـي هذا، فأحضر الحسين بن عليٍّّ (ع)، وعبداللّه بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث إليّ برؤوسهما، وخذ الناس ‍ بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي الحسين بن عليّ وعبداللّه بن الزبير، والسلام). [2] .

ويـسـتـفاد هذا أيضا من قول مروان بن الحكم حينما استشاره والي المدينة في كيفيّة أخذ البيعة من هؤلاء الرجال، حيث أجاب قائلا:

(أرسـل الساعة إلي هؤلاء النفر فخذ بيعتهم، فإنّهم إن بايعوا لم يختلف علي يزيد أحدٌ من أهل الاسلام، فعجّل عليهم قبل أن يُفشي الخبر فيمتنعوا...). [3] .

وفي رواية الفتوح:

(فـقـال مـروان: إبـعـث إليـهـم فـي هـذه السـاعـة فـتـدعـوهـم إلي البـيـعـة والدخـول فـي


طـاعـة يـزيـد، فـإن فـعـلوا قـبـلت ذلك منهم، وإن أبوا قدّمهم واضرب أعناقهم قـبـل أن يـدروا بـمـوت مـعـاويـة، فـإنـّهـم إن عـلمـوا ذلك وثـب كـلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلي نفسه...). [4] .

إذن فقد كانت الخطة أن تؤخذ البيعة من الامام الحسين (ع) ومن عبداللّه بن الزبير ومن عبداللّه بـن عـمـر عـلي مـا فـي بـعـض الروايـات قـبـل أن يـفـشـو الخـبـر ويـعـلم أهل المدينة بموت معاوية.

وممّا يؤكّد هذا أيضا:

أنّ رسـول الوليـد لمّا أتي إلي الامام الحسين (ع) وإلي عبداللّه بن الزبير يستدعيهما إلي الوليـد، ووجـدهـمـا فـي المـسـجـد، وأخـبـرهـمـا بـالاسـتـدعـاء، قال عبداللّه بن الزبير يسائل الامام (ع):

(يا أباعبداللّه، إنّ هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للناس، وإنّي قد أنكرت ذلك وبَعْثَه في هذه الساعة إلينا ودعاءَه إيّانا لمثل هذا الوقت، أتري في أيٍّ طلبنا!؟

فقال له الحسين (ع):

إذا أُخبرك أبابكر، إنّي أظنّ بأنّ معاوية قد مات، وذلك أنّي رأيت البارحة في منامي كأنّ منبر معاوية منكوس، ورأيت داره تشتعل نارا، فأوّلتُ ذلك في نفسي أنّه مات. [5] .

فـلو كـان خبر موت معاوية قد فشا وانتشر في المدينة ساعتئذٍ لكان ابن الزبير


قد علمه كما علم الناس.

والظـاهـر أنّ خـبـر موت معاوية ظلّ مكتوما عن عامّة أهل المدينة إلي ما بعد خروج الامام الحسين (ع) مـنـهـا فـلم ينتشر إلاّ انتشارا ضعيفا، ولم يعلم به إلاّ بعض خواصّ أهلها ممّن يحيط بالوالي من بـنـي أمـيـّة وبـعـض رجال السلطة، وممّن يحيط بالامام الحسين (ع) من بني هاشم وبعض شيعته، وعبداللّه بن الزبير وإخوته وبعض من يحيطون بهم، وعبداللّه بن عمر وخاصّته.

ولعـلّ هـذا مـا كـانـت تـريـده السـلطـة فـي المـديـنـة بـالذات، لعزل الامّة في المدينة عن حركة الامام (ع) سواء بقي في المدينة أو خرج منها، إذ إنّ السلطة الامـويـّة ـ عـلي فـرض بـقـائه ـ سـتـواصـل إحـراجـه مـنـفـردا لتـذليـل بيعته، ولن يطول ذلك أكثر من يومٍ أو يومين، فإذا بايع فلن يمتنع بعده أحدٌ من الامـّة عـن البـيـعـة، وإذا أصـرّ عـلي الامـتـنـاع فـلابـدّ له مـن أن يـحـتـال للخـروج مـن المـديـنـة مـخـافـة الاغـتـيـال، ولن يـطـول مـكـثـه ــحـتـّي يـخـرج ثـلاث ليال علي الاكثر، فتخلو المدينة منه وممّن يتّبعه، وعندئذ تـسـهـل عـمـليـّة أخـذ البـيـعـة مـن أهـل المـديـنـة في غياب الامام (ع)، أمّا من عداه من وجهاء المدينة فلايتمتّع بمثل تلك المنزلة التي يتمتّع بها الامام (ع) في قلوب الناس وليس له تلك الاهمّية، فـضـلاعـن أنّ بـعـضـهـم يـتـّسـم بـالمـيـوعـة والمـسـالمـة فـي المـواقـف ولاقـاطـعـيـّة له، كـمـثل عبداللّه بن عمر، الذي أشك بقوّةٍ أنّ بعض الروايات حشرته مع الامام (ع) وعبداللّه بن الزبير في وجهاء المدينة المعارضين للتغطية علي ميله للحكم الامويّ.

ومـمـّا يؤكّد ما ذهبنا إليه في تعمّد سلطة المدينة عدم الاعلان عن موت معاوية إلي ما بعد انجلاء المـوقـف الحـسـيـنـيّ، هـوأنّ الامـام (ع) طـلب مـن الوالي الوليـد بـن عـتبة أن يُدعي إلي البيعة بمحضر الناس فيكون الامر سواء حيث قال (ع):


(إنّ مـثـلي لايعطي بيعته سرّا، وإنّما أحبّ أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة، ولكن إذا كان من الغد ودعوت الناس إلي البيعة دعوتنا معهم فيكون أمرنا واحدا...). [6] .

فـالعادة إذن أن ينعي الوالي الخليفة الميّت في الغد ويدعو الناس إلي بيعة من يخلفه، هذا ما تُشعر به عبارة الامام (ع):

(... ولكن إذا كان من الغد ودعوت الناس إلي البيعة...).

والتـأريـخ لم يـحـدّثـنـا أنّ الوليـد بـن عـتبة قد جمع الناس في اليوم التالي للبيعة في المـسـجـد كـمـا العـادة [7] ولافـي اليـوم الذي بـعـده، بـل إنّ التـأريـخ ليـؤكـّد عـكـس ذلك، إذ كـتـب الوليـد إلي يـزيـد (يـخـبـره بـمـا كـان مـن أهـل المـديـنـة وما كان من ابن الزبير وأمر السجن (حيث أخرج بنوعدي عبداللّه بن مطيع العدوي مـنه بالقوّة وأخرجوا كلّ من كان في السجن)، [8] ثمّ ذكر له بعد ذلك أمر الحسين بن عليّ (ع):

(أنّه ليس يري لنا عليه طاعة ولابيعة). [9] .


فكتب إليه يزيد:

(من عبداللّه يزيد أمير المؤمنين إلي الوليد بن عتبة. أمّا بعدُ:

فـإذا ورد عـليـك كـتـابـي هـذا فـخـذ البـيـعـة ثـانـيـا عـلي أهـل المـديـنـة بتوكيد منك عليهم، وذر عبداللّه بن الزبير فإنّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبدا مـادام حـيـّا، وليـكـن مع جوابك إليّ رأس الحسين بن علي، فإن فعلتَ ذلك فقد جعلتُ لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الاوفر والنعمة واحدة، والسلام). [10] .

فـقوله: (فخذ البيعة ثانيا علي أهل المدينة بتوكيد منك عليهم) كاشف عن أنّ الوليد لم يكن يستطيع أخذ البيعة من أهل المدينة بوجود الامام الحسين (ع)، وقوله: (البيعة ثانيا): يتضمّن الاشـارة إلي البـيـعـة الاولي التـي أخـذهـا مـعـاويـة بـولايـة العـهـد ليـزيـد مـن أهـل المـديـنـة فـي حـيـاتـه خـدعـة. لاأنّ الوليـد أخـذ البـيـعـة مـن أهل المدينة ليزيد ثمّ دعاه يزيد إلي أخذها مرّةً ثانية منهم بتوكيد عليهم.

وقوله: (وذر عبداللّه بن الزبير...) كاشف عن عدم تمتّع ابن الزبير بالاهمية التي يتمتع بها الامام (ع).

وقـوله: (وليـكـن مـع جـوابـك إليّ رأس الحـسـيـن بن عليّ (ع) كاشف عن أنّ وجود الامام (ع) بـمـاله من منزلة ومكانة قدسيّة في الامّة هوالعقبة الكبري في طريق البيعة التي يريدها يزيد من أهل المدينة خاصّة.

كـمـا أنّ هـذه الرسـالة كـاشـفـة بـنـوع محتواها عن نوع شخصيّة يزيد التي لاتتمتّع حتّي بذرّة من الحـكـمة والدهاء، وكاشفة عن سطحيّته وضحالته الظاهرة، فها هو أمام رغبته وغضبه لاينظر إلي حقائق الواقع السياسي والاجتماعي ولايعباء بها، إنّه


فيما يأمر به متجاوزا هذه الحقائق كما يأمر الطفل في تخيّلاته وألعابه خلافا لما تحكم به السنن الطبيعيّة والاجتماعيّة.

إنّ كـتـمـان خـبـر مـوت مـعـاويـة عـن أهـل المـديـنـة عـمـومـا عـدّة أيـّامٍ ربـّمـا شـكـّل واحـدا مـن أسـبـاب تـخـلّف أهـل المدينة عن نصرة الامام (ع) وفيهم آنئذٍ مئات من الصحابة وأكـثـر مـن ذلك من التابعين، لانّ الظاهر أنّ جُلّهم لم يعلم حتّي بخروجه من المدينة، وما علموا بذلك إلاّ بعد حين من مكثه في مكّة المكرّمة، مع أنّ الذين التحقوا به من المدينة في مكّة بعد ذلك أفراد قليلون.


پاورقي

[1] فـقـد شـذّ بـعض المؤرّخين عن ذلک في إسم والي المدينة، کابن قتيبة الدينوري حيث روي أنّ اسم الوالي هو خالد بن الحکم (الامامة والسياسة، 1: 205).

[2] تأريخ اليعقوبي، 2: 241.

[3] الامامة والسياسة، 1: 206.

[4] الفتوح، 5: 10.

[5] الفتوح، 5: 11 ـ 12.

[6] الفتوح، 5: 13.

[7] إلاّ مـا جـاء فـي (تـأريـخ ابـن عـسـاکر (ترجمة الامام الحسين (ع) تحقيق المحمودي: 198، حديث 225؛ وخرج الحسين (ع) وعبداللّه بن الزبير من ليلتهما إلي مکّة، وأصبح الناس وغـدوا إلي البـيعة ليزيد، وطُلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا...)، وهذه الرواية مع ما فيها مـن مـخـالفـة المـشـهـور الثـابـت أنّ ابـن الزبـيـر خـرج مـن مـکـّة قبل الامام بليلتين أو ليلة علي الاقلّ، فإنّها ضعيفة السند لاأقلّ بجويريّة بن أسماء الذي قـال فـيـه الامـام الصـادق (ع): (وأمـّا جـويـريـّة فـزنـديـق لايـُفـلح أبـدا)، (اخـتيار معرفة الرجال (رجال الکشّي)، 2: 700، حديث 742).

[8] ما بين القوسين ليس من نفس النصّ.

[9] الفتوح، 5: 17 ـ 18.

[10] الفتوح، 5: 18.