بازگشت

شخصية يزيد بن معاوية


ولد يـزيـد بـن مـعـاويـة فـي الشـام سنة 25 أو 26 للهجرة، في قصر إمارة كثر فيه الترف وكـثـر العـبـيـد والخـدم، و (يبدو مستغربا بادئٍّ ذي بدء أن نعرف أنّ يزيد نشاء نشاءة مسيحيّة تـبعد كثيرا عن عرف الاسلام، وتزيد بالقاري الدهشة إلي حدّ الانكار، ولكن لايبقي في الامر مـا يـدعـو إلي الدهـشة إذا علمنا أنّ يزيد يرجع بالامومة إلي بني كلب، هذه القبيلة التي كانت تـديـن بـالمـسـيـحـيـّة قـبـل الاسـلام، ومـن بديهيّات علم الاجتماع أنّ إنسلاخ شعب كبير من عقائده يستغرق زمنا طويلا،


بين معاودات نفسيّة ورجعات ضميريّة وذكريّات وجدانيّة، وبالاخصّ إذا كانت عقيدة سيطرت علي الافكار والعادات والعرف العام.

والتـأريـخ يـحـدّثـنـا أنّ يـزيـد نشاء فيها إلي طور الشباب، أو حتّي جاوز طور الطفولة. ومـعـنـي هـذا أنّه أمضي الدور الذي هو محطّ أنظار المربّين وعنايتهم، وبذلك ثبت علي لون من التـربـيـة النـابـيـة تـمازجها خشونة البادية وجفاء الطبع. علي أنّ طائفة من المؤرّخين ترجّح ولايـبـعـد أن يـكـون صـحـيـحـا أنّ مـن أساتذة يزيد بعض ‍ نساطرة [1] الشام من مـشـارقـة النـصـاري، وربـّمـا شـهد لهذا التقدير ما جاء في تأريخ الشام لابن عساكر (من أنّ يزيد كان يعرف طرفا من الهندسة) هذا الفنّ الذي كان مجهولامن العرب، ممّا يضعنا أمام الامر الواقـع الذي يـتـّسق تفسيره علي هذه الوجه، ولايخفي ما يكون لهذه التربية من أثرٍ سي فيمن سـيـكـون وليَّ أمـر المـسـلمين... فقد كان يتزيّد في تقريب المسيحيّين ويستكثر منهم في بطانته الخـاصـّة، لمـا إنـّه يقع بينهم علي من يمتزج به وينسجم معه (علي ما يقولون). ولقد اطمأنّ إليهم حتّي عهد بتربية ابنه إلي مسيحي علي ما لااختلاف فيه بين المؤرّخين...

إذا كـان يـقـيـنـا أو يـشـبه اليقين أنّ تربية يزيد لم تكن إسلاميّة خالصة، أو بعبارة أخري كـانـت مـسـيـحـيـّة خـالصـة، فـلم يـبـق ما يُستغرب معه أن يكون متجاوزا مستهترا مستخفّا بما عليه الجـمـاعـة الاسـلامـيـّة، لايـحـسـب لتـقـاليـدهـا واعـتـقـاداتـهـا أيّ حـسـاب ولايـقـيـم وزنـا، بل الذي يُستغرب أن يكون علي غيرذلك...). [2] .


وكان يزيد متهتّكا في معاصيه ومباذله وهواياته لايأبه بالاعراف الاجتماعيّة ولايقيم لها وزنا، ولم يكن معاوية ينهاه عنها، بل كان يدعوه إلي التستّر عليها كي لايفتضح فيشمت به عدوُّ ويُساء به صديق، فقد قال له يوما:

(يـا بـنـيّ مـا أقـدرك عـلي أن تصل حاجتك من غير تهتّك يذهب بمروءتك وقدرك ويشمتُ بك عدوّك ويسي بك صديقك، ثمّ قال: يا بنيّ إنّي منشدك أبياتا فتأدّب بها واحفظها، فأنشده:



انصب نهارا في طلاب العلا

واصبر علي هجر الحبيب القريب



حتّي إذا الليل أتي بالدجي

واكتحلت بالغمض عين الرقيب



فباشر الليل بما تشتهي

فإنّما الليل نهار الاريب



كم فاسقٍ تحسبه ناسكا

قد باشر الليل بأمرٍ عجيب



غطّي عليه الليل أستاره

فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيب



ولذّة الاحمق مكشوفة

يسعي بها كلّ عدوٍّ مُريب [3] .



وكـأنّ مـعـاويـة يـحـدّثـه عـن تـجـربـتـه هـو فـيـمـا يـتـسـتـّر بـه فـي الليل!!

ولمّا أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس، طلب من زياد أن يأخذ بيعة المسلمين في البـصـرة، فـكـان جـواب زيـاد له: (فما يقول الناس إذا دعوناهم إلي بيعة يزيد، وهو يلعب بـالكـلاب والقـرود، ويـلبـس المـصـبـّغ، ويـُدمـن الشـراب، ويـمـشـي عـلي الدفـوف...). [4] .

وفـي هـذا الخـبـر إشـارة واضـحـة إلي أنّ يـزيـد كـان مـشهورا بذلك عند الناس،


ويؤيّد ذلك قول الامام الحسين (ع) لمعاوية:

(كأنّك تصف محجوبا أوتنعت غائبا عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ يزيد من نفسه علي مـوقـع رأيـه، فـخـذ ليزيد في ما أخذ من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السُّبَّق لاتـرابـهـن، والقـيـنـات ذوات المـعـازف، وضـروب المـلاهي، تجده ناصرا ودع عنك ما تحاول...). [5] .

بل هناك عبارة لابن كثير في تأريخه تصرّح باشتهار يزيد في ذلك:

(اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغناء والصيد، واتّخاذ الغلمان والقيان والكلاب، والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلاّ ويُصبح فيه مخمورا...). [6] .

بل عدّه بعض المؤرّخين من الاوائل في ذلك:

(كـان يـزيـد بـن مـعـاويـة أوّل مـن أظـهر شرب الشراب والاستهتار بالغناء، والصيد واتّخاذ القـيـان والغـلمـان، والتفكّه بما يضحك منه المترفون من القرود، والمعافرة بالكلاب والديكة). [7] .

ومنذ أن فتح عينيه علي الدنيا في قصر أبيه، كانت كلّ طلباته مستجابة فورا، فما تعوّد أن يُردَّ له طلب، وكان هذا من الاسباب الذي جعلت شخصيّته ذات بُعدٍ واحد خلافا لشخصيّة أبيه المـتعدّدة الابعاد، وجعلت منه قاصر النظر ضعيف الرأي لاينظر إلي أمرٍ ما إلاّ من زاوية واحدة من زواياه، ولذا فقد عالج القضايا


المستعصية التي واجهها بحسمٍ أرعن لايرتكز علي أساسٍ من حـكـمة ونضج وبصيرة، وكأنّ الدنيا كلّها قصر أبيه المترف فلاينبغي لاحدٍ إلاّ أن يخضع لامره ورغبته (ولم يكن يزيد يحتمل أن يلتوي عليه أحدٌ بطاعة، وإنّما كان يري أنّ طاعته حقُّ علي الناس جميعا، فمن التوي بها عليه فليس له عنده إلاّالسيف). [8] .

وكـان قـصور نظره وضعف رأيه وتشنّجه النفسي قد تجلّي في القضايا الكبري كقضيّة مواجهة الامام الحسين (ع)، ومواجهة انتفاضة المدينة المنوّرة.

فـقـد كـان يـزيـد هـوالذي أمر بقتل الامام الحسين (ع)، إذ قد خيّر عبيداللّه بن زياد بين قتله أو قـتـل الامـام (ع)، وبـيـن أن يـبـقـي حـُرّا يـحـمـل اللقـب الامـويّ أويـعـود عبدا روميّا كما هو حقيقة، يقول عبيداللّه بن زياد:

(أمّا قتلي الحسين فإنّه أشار إليَّ يزيد بقتله أوقتلي فاخترتُ قتله...). [9] .

وروي اليعقوبي أنّ يزيد كتب إلي عبيداللّه بن زياد قائلا:

(قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلي الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّها نـحوهم، وقد بُليٍَّ به بلدك من بين البلدان، وأيّامك من بين الايّام، فإن قتلته، وإلاّ رجعت إلي نسبك وإلي أبيك عُبَيدٍ، فاحذر أن يفوتك). [10] .

لكـنّ بـعـض المـؤرّخـيـن رووا هـذه الرسـالة بـدون أمـر يـزيـد الصـريـح بقتل الامام (ع)، كمثل ابن عساكر الذي رواها مخفّفة هكذا:

(إنـّه قـد بـلغني أنّ حسينا صار إلي الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الازمان،


وبلدك من بـيـن البـلدان، وابـتـليـت بـه أنـت من بين العمّال، وعندها تُعتقُ أو تعود عبدا كما تعتبدُ العبيد. فقتله ابن زياد وبعث برأسه إليه). [11] .

وفـي مـوضـع آخـر خـفـّف ابـن عـسـاكـر مـن القـضـيـّة تـخـفـيـفـا أكـثـر فقال:

(وبـلغ يـزيـد خـروجـه فـكـتب إلي عبيداللّه بن زياد وهو عامله علي العراق، يأمره بمحاربته وحمله إليه إن ظفر به، فوجّه اللعين عبيداللّه بن زياد الجيش إليه مع عمر بن سعد بن أبي وقّاص). [12] .

والغريب أنّ الراوي في هذا النصّ الاخير يوجّه اللعن إلي عبيداللّه بن زياد ولايلعن يزيد الذي أمره بمحاربة الامام (ع)!!

يقول عبداللّه العلايلي:

(لذلك أعـتـمـد روايـة اليـعـقـوبـي المـحـقـّقـة (مـن أنّ يـزيـد أمـر ابـن زيـاد بـقـتل الحسين (ع)، وأشك في غيرها وأميل إلي أنّها [13] تنصّلٌ من يزيد لمّا رأي عـِظـم مـا جـنـّت يـداه، وإنـّمـا إعـتـمـدهـا المـؤرّخـون المـعـتـدلون تـخـفـيـفـا لحـمـّي المـأسـاة). [14] .

ولو لم يـكـن يزيد هوالامر بالقتل لما ترنّم حين رأي السبايا والرؤوس المقدّسة علي أطراف الرماح وقد أشرفوا علي رُبي نهر جيرون قائلا:



لمّا بدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الشموس علي رُبي جيرونِ






نعب الغرابُ فقلتُ صِحْ أو لاتصح

فلقد قضيتُ من الغريمِ ديوني [15] .



(ومـن هـنـا حـكـم ابـن الجـوزي والقـاضـي أبـويـعـلي والتـفـتـازانـي والجلال السيوطي بكفره ولعنه...). [16] .

ويـعترف يزيد بأنّه قاتل الامام الحسين (ع) إقرارا، إذ لمّا (أُتي برأس الحسين إلي يزيد بن معاوية بدمشق فنصب، فقال يزيد: عليّ بالنعمان بن بشير. فلمّا جاء:

قال: كيف رأيت ما فعل عبيداللّه بن زياد؟

قال: الحربُ دُوَلٌ.

فقال: الحمدللّه الذي قتله.

قال النعمان: قد كان أمير المؤمنين ـ يعني به معاوية ـ يكره قتله.

فـقـال: ذلك قـبـل أن يـخـرج، ولو خـرج عـلي أمـيـرالمـؤمـنـيـن واللّه قـتـله إن قدر...). [17] .

فـيـزيـد فـي ردّه هـذا يقرّ بتبنّي قتل الامام الحسين (ع) إذا خرج، وقد حمد اللّه علي قتله، ثمّ هو يـنـسـب هذا المـوقـف إلي أبـيـه مـعـاويـة خـلافـا لمـا ورد فـي بعض ‍ الاخبار من طريق الفريقين [18] من أنّ معاوية قد أوصاه بالمسامحة مع الامام وبالعفو عنه، والتي هي أقرب إلي منهج معاوية في دهائه، ولايبعد أن يكذب يزيد علي أبيه بعد أن أدرك عظم ما اجترح في هذه المأساة، وهو الغرير الذي يفتقر حتّي إلي أبسط مسحة من الدهاء.


نـعـم قـد يـقـدم مـعـاويـة عـلي قـتـل الامـام (ع)، خـرج أو لم يـخـرج، إذا رأي أنّ بـقـاءه يـشـكـّل خـطـرا عـليـه أو علي الحكم الامويّ، ولكنّه لايقتله بهذه الطريقة المكشوفة التي فعلها يـزيـد، بل يقتله سرّا بالسم أو اغتيالاثمّ ينسب الفعلة إلي غيره، ويطلب هو بدم الامام (ع) فيوهم الناس ويخدعهم ويزداد بذلك حبّا عند أكثر الناس.

ثـمّ إنّ هـنـاك فـارقـا واضحا بين موقف معاوية من الامام (ع) وموقف يزيد منه، وهو أنّ معاوية لم يـشـدّد علي الامام في أمر البيعة ليزيد وإن كان قد أوهم الناس أنّ الامام (ع) قد بايع كما فـي بـعـض الروايـات، أمـّا يـزيـد فـلم يـرخـصّ للامـام (ع) فـي ألاّيـبـايـع، بل ركز بين اثنتين: البيعة أو القتل.

وقـد خـرج يـزيـد عـن طـوره النـفـاقـي فـأظـهـر كـفـره وعـداءه السـافـر لرسول اللّه (ص)، وافتخر بانتمائه إلي جاهليّة أسلافه، وإلي حركة النفاق، حينما وضع رأس ‍ الامام (ع) بين يديه فتمثّل متشفّيا بأبيات ابن الزبعري التي مطلعها:



ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الاسلْ



وقيل: إنّ يزيد قد أضاف إليها هذه الابيات من عنده:



لاهلّوا واستهلّوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لاتُشَل



لست من عتبة إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل



لعبت هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولاوحيٌ نزل [19] .



وهـذا بـنـفـسـه كـاشف عن شخصيّة يزيد ذات البعد الواحد والتي لاتتمتّع بشيءٍ من الدهاء العادي فضلاعن دهاء أبيه.

وكـأنّ يـزيـد قـد ظـفـر بـأمـنيّته الكبري بقتل سيّد الشهداء (ع)، وغمرت كيانه


نشوة الغلبة العـاجـلة والتـشـفـّي، فـقـد (جـلس ذات يـوم عـلي شـرابـه، وعـن يـمـيـنـه ابـن زيـاد، ذلك بعد قتل الحسين (ع)، فأقبل علي ساقيه فقال:



إسقني شربة تروّي مُشاشي

ثمّ مِلْ فَاسْقِ مثلَها ابنَ زيادِ



صاحب السرِّ والامانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي



ثمّ أمر المغنّين فغنّوا به...). [20] .

(وغـلب عـلي أصـحـاب يـزيـد وعـمـّاله مـا كان يفعله من الفسوق. وفي أيّامه ظهر الغناء بمكّة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب.

وبـالجـمـلة، كـان مـوفـّر الرغـبـة فـي اللهـو والقـنص والخمر والنساء وكلاب الصيد حتّي كان يـُلبـسـهـا الاساور من الذهب والجلال والمنسوجة منه، ويهب لكلّ كلبٍ عبدا يخدمه، وساس الدولة سـيـاسـة مـشـتـقـّة مـن شـهـوات نـفسه، وكانت ولايته ثلاث سنين وستّة أشهر، ففي السنة الاولي قـتـل الحـسـيـن بـن عـلي، وفـي السـنـة الثـانـيـة نـهـب المـديـنة وأباحها ثلاثة أيّام، تمّ فيها قـتـل سـبـعـمـائة مـن المـهـاجـريـن والانـصـار، فـلم يـبـق بـدريُّ بـعـد ذلك، وقتل عشرة آلاف من الموالي والعرب والتابعين، وافتضاض ألف عذراء). [21] .


پاورقي

[1] النسطوريّة: أمّة من النّصاري يخالفون بقيّتهم وهم بالرّومية نسطروس (لسان العرب: نسطر، 5: 206).

[2] الامام الحسين (ع) (العلايلي): 58 ـ 59.

[3] البداية والنهاية، 8: 250.

[4] تأريخ اليعقوبي، 2: 220.

[5] الامامة والسياسة، 1: 187.

[6] البداية والنهاية، 2: 258.

[7] معالم المدرستين، 3: 24 عن أنساب الاشراف.

[8] الفتنة الکبري، 2: 237.

[9] الکامل في التأريخ، 4: 140.

[10] تأريخ اليعقوبي، 2: 242.

[11] تأريخ ابن عساکر (ترجمة الامام الحسين (ع) تحقيق المحمودي: 208، حديث 260.

[12] نفس المصدر: 207، حديث 259.

[13] أي الروايات الاخري.

[14] الامام الحسين (ع) (العلايلي): 59 ـ 60.

[15] تذکرة الخواص: 235.

[16] مقتل الامام الحسين (ع) (المقرّم): 350.

[17] مقتل الحسين (ع) (الخوارزمي): 59 ـ 60.

[18] راجع: تاريخ الطبري، 4: 238 ـ 239؛ وأمالي الصدوق: 129، م 30، حديث 1.

[19] راجع معالم المدرستين، 3: 202 ـ 203.

[20] مروج الذهب، 3: 77.

[21] الامام الحسين (ع) (العلايلي): 345 ـ 346.