وحدة المسيرة و وحدة المعاناة و وحدة الثواب
و من أروع ما في هذا التصور الاسلامي للميراث: أن الأجيال اللاحقة لا ترث فقط المواريث الحضارية من الأجيال السابقة، و انما تشاركها أيضا في ثواب معاناتها و عنائها الطويل في صراعها مع الكفر و النفاق لاقامة هذه الفرائض الاسلامية و تثبيتها.
فقد تحمل سلفنا الصالح علي هذا الطريق الكثير من العناء و المعاناة في الصراع مع الطاغوت لاقامة هذه الفرائض و تثبيتها و تعبيد الانسان لله.
و نحن (الوارثون) لا تنتقل الينا فقط هذه القيم و المواريث (العبودية و الايمان و الصلاة) من سلفنا، و انما ينتقل الينا أيضا ثواب معاناتهم و صبرهم و عنائهم دون أن يكون لنا فعل و تحمل في هذه المعاناة و العناء.
و الجسر العجيب الذي ينتقل عليه هذا الثواب و الأجر من دون معاناة و عناء، و يشرك اناسا في ثواب اناس آخرين سبقوهم هو الولاء و الحب.
و عجيب أمر الولاء و الحب، فهو يوحد أطراف هذه المسيرة المتباعدة، و يجعلها قطعة واحدة، و يشرك اللاحق في ثواب السابق، و يجعل السابق موردا و معينا للاحق. و هذا هو البعد الثالث (المستقبلي) لمسيرة الدعوة الي الله.
روي الحكم بن عيينة، قال: لما قتل أميرالمؤمنين عليه السلام الخوارج يوم
النهروان، قام اليه رجل فقال: يا أميرالمؤمنين:[ طوبي لنا اذ شهدنا معك هذا الموقف، و قتلنا معك هؤلاء الخوارج ] فقال أميرالمؤمنين عليه السلام [1] «و الذي فلق الحب و برأ النسمة، لقد شهدنا في هذا الموقف اناس لم يخلق الله آباءهم، و لا أجدادهم بعد، فقال الرجل: و كيف يشهدنا قوم لم يخلقوا؟! قال: بلي قوم يكونون في آخر الزمان، يشركوننا فيما نحن فيه، و يسلمون لنا، فاولئك شركائنا فيما كنا فيه حقا حقا». [2] .
و روي محمد بن سلمة، رفعه قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام:«انما يجمع الناس الرضا و السخط، فمن رضي أمرا فقد دخل فيه و من سخطه فقد خرج منه». [3] .
و عن سليمان بن خالد، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لو أن أهل السماوات و الأرض لم يحبوا أن يكونوا شهداء مع رسول الله صلي الله عليه وآله لكانوا من أهل النار. [4] .
و روي أبوجعفر محمد بن أبي القاسم الطبري في كتابه (بشارة المصطفي)، عن عطية العوفي، قال: خرجت مع جابر بن عبدالله الأنصاري زائرين قبر الحسين عليه السلام، فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطي ء الفرات، فاغتسل ثم ائتزر بأزار و ارتدي بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد، فنشرها علي بدنه، ثم لم يخط خطوة الا ذكر الله تعالي، حتي دنا من القبر. قال: ألمسنيه، فألمسته، فخر علي القبر مغشيا عليه، فرششت عليه شيئا من الماء، فلما أفاق، قال: يا حسين ثلاثا. ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال: و أني لك بالجواب و قد شخبت أو داجك علي أثباجك، و فرق بين بدنك و رأسك، فأشهد أنك ابن خاتم النبيين، و ابن سيد
المؤمنين، و ابن حليف التقوي، و سليل الهدي، و خامس أصحاب الكساء، و ابن سيد النقباء، و ابن فاطمة سيدة النساء، و ما لك لا تكون هكذا، و قد غذتك كف سيد المرسلين، و ربيت في حجر المتقين، و رضعت من ثدي الايمان، و فطمت بالاسلام. فطبت حيا و طبت ميتا، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك، و لا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله و رضوانه، و أشهد أنك مضيت علي ما مضي عليه أخوك يحيي بن زكريا. ثم جال بصره حول القبر و قال:
السلام - الشهداء من أصحاب الحسين و أهل بيته - أيتها الأرواح التي حلت بفناء الحسين، و أناخت برحله، و أشهد أنكم أقمتم الصلاة، و آتيتم الزكاة، و أمرتم بالمعروف، و نهيتم عن المنكر، و جاهدتم الملحدين، و عبدتم الله حتي أتاكم اليقين، و الذي بعث محمدا بالحق نبيا لقد شاركنا كم فيما دخلتم فيه.
قال عطية: فقلت له يا جابر، كيف و لم نهبط واديا، و لم نعل جبلا، و لم نضرب بسيف، و القوم قد فرق بين رؤوسهم و أبدانهم، و أوتمت أولادهم، و ارملت أزواجهم.
فقال: ياعطية، سمعت حبيبي رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: من أحب قوما حشر معهم، و من أحب عمل قوم أشرك في عملهم، و الذي بعث محمدا صلي الله عليه وآله بالحق أن نيتي و نية أصحابي علي ما مضي عليه الحسين و أصحابه عليهم السلام. [5] .
پاورقي
[1] ما بين المعقوفتين زيادة من المصدر.
[2] المحاسن / ص 262.
[3] نفس المصدر.
[4] نفس المصدر.
[5] بشارة المصطفي لشيعة المرتضي / ص 75 - 74، ط النجف 1383 ه.