بازگشت

الاعماق الحضارية


و بمقياس أقوي و أبلغ يكون تأثير الماضي في الحاضر في سلسلة مترابطة من الحلقات من الأسباب و العلل.

فمبعث رسول الله صلي الله عليه وآله مثلا في القرن السادس الميلادي له تأثير بليغ، و فوق


حدود التصور في كل مراحل حضارتنا خلال القرون الأربعة عشر التي مرت علي هذه الامة.

و لا يمكن عزل الحادث الكوني الكبير عن كل مراحل تاريخنا و حضارتنا، و ليس من الممكن أن تكون أية شريحة من شرائح هذه الحضارة معزولة عن هذا السبب، أو نفهم أية شريحة من حضارتنا بمعزل عنه.

و الكلام نفسه يصدق في معركة بدر (يوم الفرقان) و يوم الأحزاب و فتح مكة و وقعة الطف، و هكذا...

ان لكل واحد من هذه الأحداث و غيرها دورا تأسيسيا في بناء هذه الحضارة، و ليس في الامكان أن تتكون هذه الحضارة بكل خصائصها القائمة فعلا، بمعزل عن العوامل التاريخية التي ساهمت في بناء و تكوين تاريخنا و مجتمعنا.

و كلما يزداد هذا العمق كلما تزداد قيمته الحضارية في بناء المجتمع، فالمجتمع الذي تمتد جذوره آلاف السنين يتمتع بقوة و صلابة أكثر من المجتمع و الحضارة التي تكونت في عدة مئات من السنين فقط.

ذلك أن العمق التاريخي البعيد يعتبر تراكما كبيرا من الأسباب و العلل من وراء المقطع الحضاري الذي نعاصره.

فقد يكون من السهل أن يتجاوز الانسان الظروف السياسية التي تكونت في عصره من الحب و البغض و الولاء و البراءة و الأخلاق و السلوك و التصورات، ولكن من الصعب جدا - و لا أقول من المستحيل - أن يتجاوز الانسان الحب و البغض الذي تكون خلال ألف سنة من الزمان.

فان مرور هذه الحقبة التاريخية الطويلة علي هذه الحضارة يكسبها الكثير من الصلابة و الثبات، مما يجعل من الصعب جدا أن يتجاوزها الانسان، و هذا هو (الميراث الحضاري) الذي نتحدث نحن عنه في هذه الدراسة.