بازگشت

الجسر الذي مده الضحاك الي الدنيا من عمق الطف


و لنستمع اليه مرة اخري:


(لما رأيت أصحاب الحسين قد اصيبوا، و قد خلص اليه و الي أهل بيته، و لم يبق معه غير سويد بن عمر الحنفي و بشير بن عمرو الحضرمي قلت له: يابن رسول الله قد علمت ما كان بيني و بينك قلت لك: اقاتل عنك ما رأيت مقاتلا، فاذا لم أر مقاتلا فأنا في حل من الانصراف فقلت لي:«نعم»، فقال:«صدقت»و كيف لك النجاة؟ ان قدرت علي ذلك فأنت في حل، قال: فأقبلت الي فرسي، و قد كنت حيث رأيت خيل«أصحابنا» [1] تعقر أقبلت بها حتي أدخلتها فسطاطا لأصحابنا بين البيوت و أقبلت اقاتل معهم راجلا... فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط ثم استويت علي متنها، ثم ضربتها حتي اذا قامت علي السنابك رميت بها عرض القوم، فأفرجوا لي..). [2] .

ان أمر الضحاك لغريب في نوعه، فهو يمد جسور الدنيا الي عمق معركة الطف و الي داخل خيام الحسين عليه السلام حيث لا يوجد فيها غير الآخرة، فهذه الفرس التي أخفاها الضحاك في فسطاط لأصحاب الحسين عليه السلام بين البيوت يوم عاشوراء هو الجسر الذي مده الضحاك لينقله الي الدنيا.

و قد رأينا و سمعنا كثيرا عن امتداد الدنيا الي أعماق النفس في مختلف مراحل الطريق الي الله سبحانه، ولكننا لم نر فيما راينا و لم نسمع فيما سمعنا أن الدنيا تنفذ و تمتد و تكمن في نفس الانسان الي هذا الحد، فيدخل الانسان معركة


الطف مع الامام و يسقط أهل بيت الحسين عليه السلام و أصحابه صرعي بين يديه، و يقاتل بين يديه عليه السلام، و يدعو له الحسين، و هو يري الامام واقفا وحده بين يدي الأعداء ثم لم يفارقه حب الدنيا، و نفوذ الدنيا و سلطانها علي نفسه في هذه المراحل جميعا.

ان التصاق الدنيا بنفس الانسان لغريب، و من الخطأ أن يغتر الانسان بنفسه فيتصور أنه قد تحرر من سلطان الدنيا، و نفوذها، و لم يعد بحاجة الي معاناة و تزكية و جهاد للنفس.

ان في نفس الانسان خبايا عميقة، و أعماقا مجهولة يكمن فيما حب الدنيا، و يبقي هذا التعلق يطارد الانسان في حركته الي الله تعالي من حيث يعلم الانسان أو لا يعلم، حتي اذا بلغ الانسان نقطة الاختيار الصعب برز حب الدنيا من أعماق النفس المجهولة الي السطح البارز للنفس، و غير وجهة الانسان و حركته من الله تعالي الي الدنيا.

ان حب الدنيا يلاحق الانسان الي هذه النقطة التي لا يكاد أن يبلغها الانسان الا بعد أن يخرج من مصفاة الابتلاء عشرات المرات، و مع ذلك كله يبقي هذا الحب كامنا في نفسه.

اننا لا نريد أن نتهم الضحاك في صدقه و حبه للحسين عليه السلام، و ليس من سبب يدعونا أن نتهم هذا الرجل الذي وقف هذا الموقف يوم عاشوراء من الحسين عليه السلام في نيته و صدقه، فلم يطلب الضحاك من الدفاع عن الحسين عليه السلام و من القتال بين يديه دنيا، و هذا حق يجب أن نقول به و نعترف له به، لكنه مع ذلك كله لم يتحرر من حب الدنيا و من التعلق بالدنيا و من تبعات الدنيا، حتي عندما ساقه التوفيق و السعادة الالهية الي هذه المعركة الحاسمة بين الحق و الباطل


في التأريخ، و وضعه الله تعالي في أشرف موقع يتصوره الانسان، و هو موقع الدفاع عن الاسلام الي جنب ابن بنت رسول الله صلي الله عليه وآله.

و الآن بعد هذا التحليل النفسي لموقف الضحاك بن عبدالله المشرقي يجب أن نوجز مرة اخري العناصر التي تدخل في تكوين هذا الموقف الغريب، و أهم هذه العناصر هي:

1- حب الدنيا و التعلق بها، و هو رأس هذه العناصر جميعا، و هو أول شي ء اعتذر به الضحاك الي الحسين عليه السلام عن مسايرته و نصرته، فلم يتخفف و لم يتحرر الضحاك من الدنيا و هو في وسط هذه المعركة المصيرية، كما تخفف و تحرر عنها«زهير»من قبل.

2- شحة العطاء، و هي غير نضوب النفس، ففي حالة النضوب و الجفاف ينقطع كل خير عن نفس الانسان، أما في حالة«الشح»فيبقي للانسان عطاء محدود و شحيح، و قد رأينا كيف وضع الضحاك نصرته للحسين عليه السلام ضمن مجموعة من الشروط، و لم يبذل نصرته بذلا، كما صنع سائر أصحاب الحسين عليه السلام، و لم يوطن نفسه للقاء الله كما طلب الامام الحسين من المسلمين في مكة المكرمة.

3- التحرر عن الالتزامات التي تفرضها الدعوة و الجهاد، و التحلل عن القيود و العهود التي يفرضها الولاء لله تعالي و لرسوله و للأئمة المسلمين.

و هذه العناصر الثلاثة تؤدي الي ظواهر سلبية كثيرة في شخصية الانسان من قبيل:

الخوف، و الجبن، و الخضوع، و الانقياد للطاغوت، و انحسار سلطان الضمير عن حياة الانسان و سلوكه.


و لسنا نريد أن نقول: ان هذه العناصر كانت موجودة مجتمعة في موقف الضحاك بن عبدالله، ولكننا نريد أن نقول ان أمثال هذه المواقف يمكن أن تنحل الي هذه المجموعة من العناصر السلبية.

و في ختام هذه التأملات نعتذر من الضحاك بن عبدالله المشرقي اذا كنا قد أسأنا اليه، و تناولنا موقفه من الحسين عليه السلام بالتحليل و النقد بهذه الصورة، و لا نريد أن نبخسه حقه، فقد نال ما حرمنا منه نحن من شرف القتال بين يدي الحسين عليه السلام، و من دعاء الحسين عليه السلام له.. و انما كنا نريد أن نجعل من نقاط الضعف في موقفه وسيلة لتقويم نقاط الضعف في مواقفنا و سلوكنا.



پاورقي

[1] يقول الضحاک: خيل«أصحابنا»و هو عازم علي مفارقتهم و الانفلات من مصيرهم، و أي صحبة يا تري بعد أن فارقهم و هجرهم الي دينه و عياله و لحق بصاحبه مالک بن النضر الأرحبي؟؟!!.

[2] تأريخ الطبري / الطبعة الاوربية: ج 7 ص 355 - 354. و نفس المهموم للشيخ عباس القمي: ص 300 - 298.