بازگشت

التزام و حل


و الضحاك يكشف لنا هنا عن موقف غريب في سلوكه و تعامله مع عياله و ماله من طرف و مع الله تعالي من طرف آخر.

و لابد من أن نكشف في هذه الوقفة هذا الموقف لتكتمل عندنا الصورة التي نريد أن نرسمها للضحاك من خلال جوابه للحسين عليه السلام فهو يطرح أولا عذره من خلال التزامه بالنسبة الي عياله و ديونه، ثم يطلب ثانيا منه أن يكون في حل من أمره عندما يريد الانصراف اذا لم يجد قتاله من دونه نافعا له.

ثم يعرض علي الحسين عليه السلام استعداده للقتال و الدفاع عنه بصورة محدودة و مقيدة، فهو حسب هذا التسلسل الذي نجده في جوابه للامام يقدم التزامه تجاه عياله و ديونه أولا، ثم يطلب من الحسين عليه السلام أن يكون في حل من أمره ثانيا.

و واضح أن هذا الالتزام الذي يحرض عليه الضحاك تجاه الدنيا، و هذا الحل الذي يطلبه الضحاك من الحسين تجاه الله أمر غريب في شخصية الضحاك، و قد كان أحري به و أجدر أن يكون حريصا بهذا الالتزام تجاه الله، و بهذا الحل و التحلل و التحرر تجاه الدنيا.

ان تفكير الضحاك بن عبدالله في هذا الموقف تفكير محتاط و متحفظ بصورة غريبة، فهو في الوقت الذي يستجيب لدعوة الامام يبقي الأبواب من خلفه


مفتوحة ليتمكن من العودة الي الدنيا عندما يبلغ المفترق الذي لا يستطيع بعده أن يجمع بين الدنيا و الآخرة، و لابد من أن يختار أحدهما، اما ديونه و عياله و اما الآخرة، فيبقي الأبواب من ورائه مفتوحة ليتمكن من أن يرجع الي الدنيا في اللحظة الحرجة من المسير.

و نحن اذا استثنينا اولئك الذين يتحركون علي غير صراط الله، و يصدون الناس عن الحركة الي الله تعالي، نجد أن سائر الناس في تحركهم الي الله علي طائفتين:

الطائفة الاولي: تتحرك الي الله سبحانه في جد و عزم، و صدق، تهدم من ورائها جسور العودة الي الدنيا، لا يطردون الدنيا و لا يهجرونها، ولكنهم اذا بلغوا المفترق الذي لابد لهم من أن يختاروا عنده الدنيا أو الآخرة لا يؤثرون علي الآخرة شيئا.

و هؤلاء هم«الصادقون»في التحرك الي الله (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) [1] ، و موقعهم من الله عزوجل في الآخرة (في مقعد صدق عند مليك مقتدر). [2] .

و طائفة اخري من الناس يتحركون الي الله في حذر و احتياط يحبون الله و رسوله ولكن ما لم يزاحم دنياهم، و ما لم يسلبهم دنياهم، فاذا بلغوا المفترق الذي لابد فيه من الاختيار الصعب آثروا الدنيا علي الآخرة و اختاروا شق الدنيا، و عادوا اليها، ولكيلا ينقطع طريق العودة عليهم في اللحظات الأخيرة لا يهدمون من ورائهم الجسور التي تنقلهم الي الدنيا.


فهؤلاء يتحركون الي الله سبحانه، و لا نشك في نيتهم و صدقهم - في هذه الحدود - ولكن كلما قطعوا شوطا من الطريق، مدوا من ورائهم بقدره جسرا ينقلهم الي الدنيا.

و هكذا كان الضحاك بن عبدالله اشترط علي الحسين عليه السلام قبل كل شي ء أن يكون في حل من الانصراف الي دينه و عياله، فدخل مع الحسين فيما دخل فيه من قتال جيش بني امية، و قاتل بين يدي الحسين عليه السلام و قتل منهم و جرح عددا ولكنه قد تحوط لنفسه منذ أول ساعة فأخفي فرسه داخل فسطاط بين البيوت، و قاتل راجلا بين يدي الحسين لتسلم له فرسه و ليركبها و يفر بها الي خارج ساحة المعركة و يهرب عن جند ابن زياد في اللحظة الحرجة التي لابد له فيها من أن يختار أحد الأمرين... فلما جد الجد ذكر الامام الحسين باذنه له في الانصراف متي شاء و متي لم ينفعه دفاعه عنه و قتاله من دونه، فصدقه الحسين، فركب فرسه و هرب من الآخرة الي الدنيا.

ان هذا الرجل دقيق في تقدير المسافة التي يستطيع أن يساير الحسين عليه السلام فيها، يضبط حساباته في هذه الحركة بشكل دقيق، و يتحوط للعودة الي الدنيا عندما يصل الي المفترق الذي يؤثر عنده الدنيا علي الآخرة.

يشخص المفترق بدقة، و يحدد المسافة التي يساير فيها الحسين بدقة، و يتحوط للعودة من الله الي الدنيا في اللحظة المناسبة، و يبقي من ورائه و هو يتحرك مع الحسين عليه السلام الي الله بابين مفتوحين يرجع من خلالهما الي الدنيا عندما يريد:

أحدهما: موافقة الحسين عليه السلام أن يكون في حل من أمره عندما يريد الانصراف الي الدنيا.


و ثانيهما: فرسه التي احتفظ بها في فسطاط داخل البيوت عندما حاصر جيش بني امية الحسين عليه السلام ليستطيع أن يركبها في اللحظة المناسبة من الآخرة الي الدنيا.

و مرة اخري نريد أن نقارن في هذه النقطة من البحث بين الضحاك و زهير، كل منهما أقبل علي الله تعالي مع الحسين عليه السلام.

الضحاك دخل معركة الطف الي جنب الامام و قاتل و جاهد بين يديه، و زهير رحمه الله أقبل مع الحسين عليه السلام و جاهد و قاتل، ولكن الفرق بين هذا و ذاك ان الضحاك أقبل علي الله و أبقي الأبواب مفتوحة من خلفه، بكل دقة و احتياط، و أبقي الجسور قائمة من ورائه الي الدنيا ليعود اليها في اللحظة التي يريد، و أما زهير فعندما قرر الوفود علي الله تعالي مع الحسين عليه السلام قطع كلما كان بينه و بين الدنيا من جسور، و أغلق كل باب بينه و بين الدنيا، و قال لزوجته«دلهم»في عزم و قوة و يسر:«الحقي بأهلك».

و اننا نتابع تفكير الضحاك و ما أخذه الضحاك من احتياط لنفسه في مثل تلك الساعة و تلك المعركة فنري أن هذه الدقة في التقدير و الضبط في الحساب، و التحفظ و الاحتياط الشديدين جدير بالاحترام لو كان في علاقة الانسان بنفسه و محاسبته لها.

أما عندما يكون التعامل مع الله تعالي فمثل هذا التقدير و الدقة و الاحتياط للعودة الي الدنيا هو من الشح في العطاء، و من التردد في العمل و فقدان العزم.


پاورقي

[1] الاحزاب / 23.

[2] القمر / 55.