بازگشت

الاستنصار الحسيني


و يستوقفنا في خطابات الحسين عليه السلام خطابه المعروف في مكة عشية خروجه الي العراق، و قد تناقل أرباب السير هذا الخطاب، و ورد في أكثر المصادر التي دونت سيرة الحسين عليه السلام و خروجه الي العراق.

و قد ذكرنا الخطاب في بداية هذه المقالة، و يبدأ الامام الخطاب بهذه الكلمة العجيبة:«خط الموت علي ولد آدم مخط القلادة علي جيد الفتاة».

و هذه البداية تفسر كل حركة الامام و خروجه، و توضح للناس الذين


يستنصرهم الحسين عليه السلام ما يؤول اليه أمره و أمر من معه ليخرج من يخرج معه، و هو علي بينة من أمره، و هو أمريهم الامام كثيرا، و يصر عليه في كل مراحل حركته بمقدار اصراره علي استنصار الناس و دعوتهم للخروج معه علي يزيد.

فهو يدعوهم و يعفيهم في وقت واحد، يدعوهم اذا صح عزمهم علي لقاء الله في خروجهم هذا، و طابت أنفسهم بالقتل في سبيل الله.

و يعفيهم، اذا لم تطب نفوسهم بالقتل في سبيل الله، فان الحسين يسعي الي الموت، و ليس الي سلطان و لا مال.

ويطلب من الأنصار من يصدق عزمه و تصدق نيته علي ابتغاء القتل في سبيل الله.

و مصيبة الناس في دنياهم اقبالهم علي الدنيا و تعلقهم بها و هروبهم و خوفهم من الموت.

و هو سر ضعفهم، و سقوطهم، و خضوعهم للظالمين، و هوان أنفسهم عليهم، هو نقطة الضعف الكبري في حياتهم. فاذا هانت الدنيا في أعين الناس، و زال الخوف من الموت عن نفوسهم لم يتمكن الظالم من ظلمهم، و لم يعطوا أنفسهم للظلم. و كيف يهرب الانسان من الموت و قد«خط الموت علي ولد آدم مخط القلادة علي جيد الفتاة».

فالموت يحاصر الانسان، و لا يستطيع ابن آدم أن يخرج من حصار الموت فلا ينفعه هروب.

ثم لماذا يخاف الانسان من الموت و الموت جمال المؤمن و كماله، و يزدان به كما يزدان جيد الفتاة بالقلادة... و لا ينقص من جمال الموت أنه يحاصر الانسان كما لا ينقص من جمال القلادة أنها تطوق جيد الفتاة. فليس كل طوق ذل و أسر.


و لست أعرف تصويرا للموت أجمل من هذا التصوير الذي يقدمه الحسين عليه السلام للموت عشية خروجه الي العراق.

ثم يقول عليه السلام:«و ما أولهني الي أسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف».

ان الموت عند الحسين عليه السلام لقاء الله، و لقاء أسلافه الصالحين ابراهيم و موسي و عيسي و رسول الله. و هو يشتاق الي هذا اللقاء اشتياق يعقوب الي يوسف. فهو غصن من تلك الشجرة و ثمرة طيبة لها يحن اليها حنين الفرع الي أصله. فليس بالموت يمكن ردع الحسين عليه السلام عن رسالته و قضيته.

و هذه رسالة الحسين عليه السلام الي طاغية عصره و الي أنصاره معا.

ثم يقول عليه السلام:«لا محيص عن يوم خط بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت». و هي صورة اخري لنفس المشهد ولكن بلون آخر... فقد كان المشهد السابق مشهد الشوق والوله الي لقاء الله و لقاء أحبائه، و هذا مشهد التسليم و الرضا لأمر الله.

و هو نفس المشهد، ولكن بصيغة اخري: و سواء عرض الامام هذه العاقبة من خلال الاشتياق والوله أو من خلال التسليم و الرضا، فالرسالة واحدة و النتيجة واحدة. ثم يقول عليه السلام:«لن تشذ عن رسول الله صلي الله عليه وآله لحمته، و هي مجموعة له في حظيرة القدس.».

انه من لحم رسول الله صلي الله عليه وآله و دمه و بضعة من رسول الله، من جسمه و روحه، و وعيه، و هداه، و بصيرته، و رسول الله صلي الله عليه وآله هو الخير و الهدي كله، و ما تفرق من رسول الله صلي الله عليه وآله يجتمع له في حظيرة القدس، و لا تشذ عن رسول الله صلي الله عليه وآله لحمة و لا بضعة له.

و من أراد أن يجتمع برسول الله صلي الله عليه وآله مع الصديقين و الصالحين في حظيرة القدس فعليه أن يلتحق بالحسين عليه السلام. و من شذ عنه عليه السلام شذ عن رسول الله صلي الله عليه وآله. ثم يختم عليه السلام كلامه بهذا الخطاب«ألا و من كان باذلا فينا مهجته، موطنا علي لقاء الله


نفسه فليرحل معنا، فاني راحل مصبحا ان شاء الله».

ان السبط الشهيد يسعي الي لقاء الله، و يطلب من الناس مهجهم و يدعو الناس الي أن ينتزعوا حب الدنيا من قلوبهم، و يوطنوا أنفسهم للقاء الله.

و هو خطاب عجيب. قلما نعهد نظيرا له في خطابات القادة السياسيين و العسكريين اذا دعوا الناس للقتال.

فهو عليه السلام لا يمنيهم بمال و لا سلطان، انما يمنيهم بلقاء الله، و يطلب منهم أن يوطنوا أنفسهم للقاء الله، و لا يرضي منهم بغير (مهجهم).

ثم يقول لهم أنه يتقدمهم في هذه الرحلة«فاني راحل مصبحا غدا ان شاء الله»و لست أدري ماذا تستبطن هذه الجملة القصيرة«فاني راحل مصبحا ان شاء الله»من العزم، و الارادة، و القوة، و البصيرة، و الهدي، و التسليم لمشيئة الله و ارادته.

و قد شاء الله تعالي أن يكون هذا العزم و الارادة و البصيرة و التسليم مبدأ لبركات كثيرة في تاريخ الاسلام.

و في منزل البيضة خطب الحسين عليه السلام في أصحاب الحر فقال: أيها الناس ان رسول الله صلي الله عليه وآله قال:«من رأي سلطانا جائرا، ناكثا عهده مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم و العدوان فلم يغير عليه بفعل و لا قول كان حقا علي الله أن يدخله مدخله».

و هذا الحديث الذي يرويه السبط الشهيد عن جده رسول الله صلي الله عليه وآله منهجا في العمل السياسي و الحركي للمسلمين، يختلف عن المنهج الذي تبناه بنوا امية في عصرهم، و يلخصه أبوعبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب في كلمته المعروفة«نحن مع من غلب».

و قد عمل بنوامية علي اشاعة هذا المنهج السياسي بين المسلمين، و اختلقوا


في ذلك الأحاديث، و بشروا به من علي المنابر لاجهاض كل معارضة سياسية و حركية في وجوههم، و لا سباغ الشرعية علي حكمهم.

فمن هذه الأحاديث...

روي الحجاج قال: قال لي أبوهريرة:

ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: يوشك أن يأتيك رجال من أهل الشام، فيأخذوا صدقتك. فاذا أتوك فتلقهم بها فاذا دخلوها، فكن في أقاصيها، و خل عنهم و عنها، و اياك و أن تسبهم فانك ان سببتهم ذهب أجرك و أخذوا صدقتك و ان صبرت جاءت في ميزانك يوم القيامة. [1] .

و عن زيد بن وهب قال سمعت عبدالله قال: قال لنا رسول الله صلي الله عليه وآله: انكم سترون بعدي اثرة و امورا تنكرونها.

قالوا: فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا اليهم حقهم، و سلوا الله حقكم. [2] .

و عن جنادة بن امية قال: دخلنا علي عبادة بن الصامت، و هو مريض، فقلنا: (أصلحك الله حدثنا بحديث ينفعك الله به، سمعته من النبي صلي الله عليه وآله فقال: دعانا النبي صلي الله عليه وآله فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا علي السمع و الطاعة في منشطنا و مكرهنا و عسرنا و يسرنا و اثرة علينا، و أن لا ننازع الأمر أهله، الا أن تروا كفر بواحا عندكم من الله فيه برهان). [3] .

و هذا أقصي ما يطلبه الحكام الظلمة من الناس، و في كتب الحديث الكثير من هذه الروايات التي يأباها القرآن و يرفضها الاسلام.


و نحن من دون أن نناقش هذه الأحاديث مناقشة سندية، نقطع بأنها منحلة موضوعة علي رسول الله صلي الله عليه وآله، و نتهم في ذلك بني امية أولا. و قد خفي أمر ذلك علي كبار المحدثين الذين رووا هذه الأحاديث و أكثروا من روايتها.

و دليلنا علي ذلك هو القرآن.

و نعتقد أن المنهج العلمي الصحيح في نقد الرواية هو عرض الرواية علي القرآن.

و النقد من حيث السند يأتي بعد العرض علي القرآن، فما خالف القرآن نرفضه و نرده صح سنده أم لم يصح. هذا هو منهج أهل البيت عليهم السلام في نقد الرواية.

و لذلك فنحن لا نطيل الوقوف عند مناقشة هذه الروايات و نقدها من حيث السند، فالأمر عندنا أوضح من ذلك. و دليلنا علي ذلك آيات محكمات من كتاب الله تنهي عن الركون الي الظالمين و عن طاعة المسرفين.

و اليك اضمامة من آيات كتاب الله:

يقول تعالي: (و لا تركنوا الي الذين ظلموا فتمسكم النار). [4] .

و يقول تعالي: (و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون). [5] .

و يقول تعالي: (و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا). [6] .

و يقول تعالي: (ألم تر الي الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل اليك، و ما انزل


من قبلك يريدون أن يتحاكمون الي الطاغوت و قد امروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا). [7] .

و ينهض أبوعبدالله سيدالشهداء يومئذ لازالة هذا اللبس عن سنة رسول الله صلي الله عليه وآله، فيعلن في الناس، أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال:«من رأي سلطانا جائرا... فلم يغير عليه بفعل و لا قول كان حقا علي الله أن يدخله مدخله».

و هي مسؤولية شاقة و صعبة، و انطلاقا من هذه المسؤولية خرج الحسين عليه السلام علي طاغية عصره.

فاذا ابتلي الله تعالي المسلمين بسلطان جائر... فلا يسع المسلمين جميعا الا أن ينهضوا لتغييره، بفعل أو قول، و من يسكن الي الظالم و يسكت عنه«كان حقا علي الله أن يدخله مدخله»... و هي كلمة عجيبة، تستوقف الانسان طويلا، و تشعر الانسان بثقل المسؤولية الصعبة في ظروف الظلم و الاستبداد السياسي. فلا يكفي ألا يركن الانسان الي الظالم و لا يتعاون معه، و لا يسنده حتي لا يدخل مدخله في النار، و انما يجب عليه أن يسعي الي تغييره بفعل أو قول، فان لم يفعل كان حقا علي الله أن يدخله مدخله.

ثم يقول عليه السلام«و أنا أحق من غير»، و من أولي من ابن رسول الله صلي الله عليه وآله أن ينهض بالتغيير و يقود حركة التغيير و يدعوا الي التغيير.

و هو عليه السلام في هذه الرحلة قائد و قدوة، قائد يقود حركة التغيير و يدعو الي التغيير«و أنا أحق من غير».

و (قدوة)، يتقدمهم في كل محنة و عذاب، و يكون نصيبه منه الأوفي. يقول عليه السلام:«فان تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم. فأنا الحسين بن علي و ابن فاطمة بنت رسول الله. نفسي مع أنفسكم، و أهلي مع أهليكم، و لكم في اسوة».


ثم يقول:«و ان لم تفعلوا و نقضتم بيعتي... فحظكم أخطأتم، و نصيبكم ضيعتم، و من نكث فانما ينكث علي نفسه.»

ان آل أبي سفيان أعداء الناس، و قد تمكنوا من رقاب الناس، و أفسدوا أخلاق الناس و دينهم و قيمهم و أذلوهم... و الحسين عليه السلام يخرج ليقود حركة التغيير، و ان نقضوا عهدهم، فلم يضروا الا أنفسهم، و أمكنوا آل أبي سفيان من رقابهم، و وطئوا أنفسهم لظلم آل أبي سفيان و استكبارهم، و أورثوا أبناءهم ذلا، و من نكث فانما ينكث علي نفسه.



پاورقي

[1] الشعر و الشعراء / لابن قتيبة / ص 572.

[2] صحيح البخاري 181 / 4 (کتاب الفتن) ط مصر 1286 ه.

[3] صحيح البخاري 181 / 4 (کتاب الفتن) ط. مصر 1286 ه.

[4] هود / 113.

[5] الشعراء / 152 - 151.

[6] الکهف / 28.

[7] النساء / 60.