وثيقة البيع
و أما الوفاء بالثمن و وثيقة البيع فان الشاري هو الله تعالي و هو المتعهد بالثمن، و من أوفي بعهده من الله؟
و ان المؤمن ليتصور هذا الثمن الكبير الباقي لهذه البضاعة النافذة، ثم يعلم أن الله تعالي هو الذي يتولي الوفاء بهذا العهد فتمتلي ء نفسه غبطة و راحة و يقينا و يطمئن قلبه بعهد الله تعالي و ميثاقه.
و من عجيب أمر هذا البيع و الشراء وثيقة هذا البيع، فان وثائق البيوع تختلف باختلاف أهمية درجة البيع و قيمته، و اذا كان المشتري في هذا البيع هو الله تعالي و البضاعة هي الأنفس و الأموال و الثمن الجنة، فلابد أن تكون وثيقة هذا البيع علي قدر قيمته، وأعز الوثائق كتب الله تعالي و ألواح الوحي المرسلة الي أنبيائه؛ و وثيقة هذا البيع من هذا النوع: التوراة و الانجيل و القرآن، و ناهيك بها من وثائق تبعت الطمأنينة و الثقة في أضعف النفوس.
و لأمر ما يأتي في هذه الآية الكريمة تأكيد الموثق في هذا البيع و يأتي ذكر المواثيق الذي سجل الله تعالي فيه عهده لعباده بالجنة و يأتي قوله تعالي:
(... ومن أوفي بعهده من الله...). [1] .
فان القلوب كلما كانت تطمئن أكثر لوعد الله قدمت علي هذه المبايعة مع الله بثقة و يقين أكبر. و الضعف في الاطمئنان لا ينافي الايمان، فقد يكون الانسان مؤمنا ولكن لم يبلغ في تعامله مع الله تعالي درجة عالية من اليقين و الاطمئنان، و مثل هذا الايمان يشوبه الكثير من الضعف و التخلف عند المبايعة و الاستجابة لدعوة الله تعالي.
و أما عندما ترتفع درجة ثقة الانسان بوعد الله تعالي الي مستوي (الطمأنينة) و (اليقين) فان الأمر يختلف بالنسبة اليه اختلافا كبيرا و تكاد تكون (الجنة) ثمنا مقبوضا و البيع نقدا، و ليس الثمن موعودا.
ان الذين رزقهم الله الطمأنينة و اليقين يرون وعد الله حاضرا و يرون الجنة ماثلة أمام أعينهم، فلا يشكون، و لا يترددون، و لا يحجمون، و لا يساورهم شك و لا ريب، و يقدمون علي المبايعة مع الله، من دون خوف، أو تراجع، أو نظر الي الوراء، و يقدمون أنفسهم و أموالهم لله ببساطة و ارتياح و من غير معاناة.
روي مسلم أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال لأصحابه يوم بدر:«قوموا الي جنة عرضها السماوات و الأرض.
قال عمر بن حمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السماوات و الأرض؟
قال: نعم.
قال: بخ بخ.
فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: ما يحملك علي قولك بخ بخ.
قال: لا والله يا رسول الله الا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فانك من أهلها.
فأخرج تمرات من قربه، فجعل يأكل منهن.
ثم قال: لئن أنا حييت حتي آكل تمراتي هذه انها لحياة طويلة.
قال: فرمي بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتي قتل». [2] .
و روي مسلم بن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه قال:«سمعت أبي، و هو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: ان أبواب الجنة تحت ظلال السيوف، فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أباموسي أنت سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول هذا؟ قال: نعم، قال: فرجع الي أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشي بسيفه الي العدو، فضرب به حتي قتل». [3] .
بمثل هذه البساطة و الثقة و الطمأنينة كانوا يتعاملون مع الله تعالي.
و قد هازل برير عبدالرحمن الأنصاري (ليلة عاشوراء)، فقال له عبدالرحمن الأنصاري: ما هذه ساعة باطل! فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلا و لا شابا، ولكني مستبشر بما نحن لاقون؛ والله ما بيننا و بين الحور العين الا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، و لوددت أنهم مالوا علينا الساعة. [4] .
و خرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين: ما هذه ساعة ضحك يا حبيب!
قال حبيب: و أي موضع أحق بالسرور من هذا؟ ما هو الا أن يميل علينا
هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور. [5] .
روي عن جابر أن رجلا قال (في ساحة المعركة):«أين أنا يا رسول الله ان قتلت؟ قال: في الجنة. فألقي تمرات كن في يده، ثم قاتل حتي قتل». [6] .
پاورقي
[1] التوبة / 111.
[2] الجامع الصحيح لمسلم 44 / 6، کتاب الأمارة / باب ثبوت الجنة للشهيد. دارالفکر - بيروت.
[3] الجامع الصحيح لمسلم 45 / 6، کتاب الامارة / باب ثبوت الجنة للشهيد.
[4] تأريخ الطبري 241 / 6.
[5] مقتل المقرم / 238.
[6] صحيح مسلم 43 / 6.