بازگشت

الشهيد مقياس للتقييم


و أحتمل أن تكون تسمية الشهيد بالشهيد متأثرة بالمعني الثاني و هو أداء الشهادة.

فان (الشاهد) و (الشهيد) يستعملان بمعني الدليل و الميزان و المعيار و المقياس الذي نزن به الأحكام و الأمور كثيرا. و هو معني قريب من المعني الثاني للشهادة الذي أشرنا اليه قريبا.

و القرآن، و ان كان لم يستعمل هذه الكلمة في معناها المصطلح الا أنه استعمل هذه الكلمة في هذا السياق بالذات. يقول تعالي: (و كذلك جعلناكم امة وسطا


لتكونوا شهداء علي الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا...) [1] .

و هذه الآية تصرح بأن الامة المؤمنة بالله - المعتدلة - شهيدة علي الناس، و الرسول شهيد علي هذه الامة، فماذا يمكن أن يكون معني الشهيد في هذه الآية الكريمة في الشهادتين جميعا: شهادة الامة المؤمنة علي الناس، و شهادة رسول الله صلي الله عليه وآله علي الامة؟

و بأي ملاك تكون هذه الامة شهيدة علي الناس جميعا، و يكون الرسول صلي الله عليه وآله شهيدا عليها؟

أعتقد أن الاجابة علي التساؤل الثاني يفتح الطريق للاجابة علي السؤال الأول. ان الملاك الذي جعل هذه الامة شهيدة علي سائر الناس هو الاعتدال و الوسطية و عدم الجنوح الي اليمين و اليسار، و هذا الاعتدال و الوسطية يؤهلها، لتكون شهيدة علي الناس، و نفس الملاك - بالتأكيد و بدلالة السياق - هو السبب في شهادة الرسول صلي الله عليه وآله علي الامة و هذا التفسير واضح من متن الآية الكريمة: (و كذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس...).

اذن، سر الشهادة كامن في حالة الاعتدال و الوسطية بالذات، و هذه الحالة هي التي تؤهل الامة لكي تكون شهيدة علي الناس.

ان الناس يجنحون لليمين و اليسار في الأكثر، و تري هذه الكتل البشرية تمتد من أقصي اليمين الي أقصي اليسار، و تتلاعب بهم أمواج الفتن و الشهوات و الأهواء و الأنفعالات النفسية و المصالح و العواطف في اتجاهات شتي، و لابد لهذه الكتل البشرية التائهة و الضائعة في هذا الخضم البشري الواسع من (معالم محسوسة) و ملموسة في الطريق، تستهدي بها و تميز بها الصحيح من السقيم،


و الاستقامة من الاعوجاج و الهدي من الضلال كما لابد لها من (كتاب) و وحي و شريعة و تعاليم، و لا يغني أحدهما عن الآخر.

لابد لها من تعاليم و دروس و توجيهات، و لابد لها كذلك من معالم ملموسة و قائمة علي الطريق.

و الخاصية المطلوبة في هذه المعالم: أن تكون معتدلة و متوسطة و علي الطريق تماما، ليس علي اليمين و لا علي اليسار، و لا تنجح الي يمين أو يسار.

و عند ذلك يمكن أن تكون (معالم) علي الطريق، يهتدي الناس بمواقعهم و مواقفهم قبل أن يهتدوا بكلامهم و توجيهاتهم.

فمن الناس من يكون موقفه و موقعه حجة علي الآخرين، فيهتدي الناس بمواقفه و مواقعه و أعماله كما يهتدون بكلامه و رأيه و توجيهه، و هؤلاء هم (القدوات) في حياة الناس و (معالم الطريق) علي الطريق.

و هؤلاء سكوتهم و كلامهم و حركتهم و سكونهم و غضبهم و ثورتهم و قيامهم و قعودهم قدوة للآخرين و حجة عليهم.

و هؤلاء هم الشهداء لأنهم مقاييس للآخرين و معالم علي الطريق، و معايير للحكم و للحق، كما يكون (الشاهد) معيارا للقاضي في معرفة الحق من الباطل، و تمييز الصحيح من السقيم، و فرز الردي ء عن الجيد.


پاورقي

[1] البقرة / 143.