بازگشت

الانحراف يبدا في لحظة اللاوعي


ان عمر بن سعد لم يصبح عمر بن سعد مرة واحدة ولا شمر أصبح هكذا.. في البدء يبدأ الانسان بانحرافات بسيطة، السارق لا يبدأ سرقته منذ البدء بسرقة الاشياء الكبيرة ولا باحتراف هذه المهنة الخبيثة، وإنما يبدأ بسرقة شيء بسيط، وتلك تكون البداية التي قد لا يحببها لنفسه، وإنما يبدأ مثلاً بأن يقترض من أحد مالاً ثم ينسي دائنه ذلك المال، فيتناسي هو الآخر ولا يدفع له المال.

يبخس الناس في المكيال والميزان، ويغشهم، وهكذا شيئاً فشيئاً تراه يصبح ساراقاً محترفاً، وغشاشاً مرناً، ويتطور ليصبح نهاباً كالسارق الذي يسرق بقوة مثل الانظمة الفاسدة، وكذلك الغشاش.. وهكذا يتطور الانسان السارق بهذه المراحل.

يقال ان سارقاً حكم عليه بالاعدام بعد عمليات الاستيلاء المستمرة في الزمان القديم وفي اللقاء الأخير بينه وبين أمه قال لها لا تبكي فانك أنت التي تقتلينني، قالت، كيف؟

أنا أبكي عليك.. أنا أشفق عليك. قال: نعم ولكن تذكرين في طفولتي انني سرقت البيض من بيت الجيران فشجعتيني علي ذلك ان ذلك دفعني لان أسرق المزيد حتي أقوم بعمليات الاستيلاء علي بيوت الناس، وكذلك أقوم بالارهاب، ويحكم عليّ بالاعدام.. فأنت التي تقتلينني وليست السلطة.

ان هذا طبيعة الانسان. وان عمرو بن العاص حينما جاءته رسالة من معاوية تدعوه الي الالتحاق به في البدء رفض الالتحاق، واستشار ابنيه في ذلك أحدهما قال: يا أبتاه لا تلتحق.. يكفينا ما بنا، والآخر شجعه علي الالتحاق طمعاً في الدنيا وفي ملك مصر فقبل نصيحة الثاني فقال له عمر بكل وضوح.. أنت تريدني للدنيا وأخوك يريدني للآخرة.. لكن، لماذا قبل نصيحة الابن الثاني؟

لان خلفيات القبول كانت موجودة عنده ولان الانحرافات كانت قد بدأت صغيرة في فكره ثم تنامت حتي أصبح صاحبها في أسفل الاسفلين.

وهكذا الانحراف في الامة.. لا يبدأ مرة واحدة. أعمال يزيد في كربلاء.. إعمال يزيد في المدينة.. وفي مكة، وارهاب بني أمية وقتلهم للابرياء لم يكن من أعمال يزيد إنما كان بسبب انحرافات معاوية، معاوية هو الذي مهد الطريق ليزيد.. هو الذي استخلف يزيداً.. وهو الذي سلط هذا الشاب المغرور، الفاجر، علي رقاب المسلمين.

و معاوية بدوره لم يكن انحرافه في ذاته.. انحرافاً أولياً، بقدر ما كان هذا الانحراف بادئاً من تسلط الأمويين علي رقاب المسلمين في أيام عثمان.

الحزب الاموي الذي كان يخطط للسيطرة علي البلاد الاسلامية منذ البدء تحت إمرة (أبو سفيان) الذي جاء الي الامام علي (ع) بعد وفاة النبي (ص) وقال له: لأملأنها لك خيلاً ورجلاً.

لماذا تجلس في البيت؟.. أخرج وأنا معك.

الامام قال: اني أرفض أخرج من بيتي، لانه علم مقاصده وعرف ما يريده، وهكذا كان الحزب يعمل لاستلام السلطة، فلم يكن كلام النبي (ص) مجرد تنبأ -بالرغم من إعتقادنا بأن النبي (ص) عن طريق الله سبحانه وتعالي- حينما قال: (اذا رأيتم معاوية هذا علي منبر فأقتلوه وما أظنكم تفعلون ذلك) لم يكن مجرد تنبأ، وإنما كانت كل المؤشرات تدل علي ذلك.

المؤامرات كانت محبوكة.. حين جمع الحزب الاموي نفسه ولملم خيوطه وربط قياداته بقواعده منذ أيام النبي (ص) فالانحراف في الامة الاسلامية لم يبدأ في وادي كربلاء ولا حتي بالانقلاب العسكري الذي قاده ابن زياد ضد مسلم بن عقيل في الكوفة.

وهكذا في كل أمة، الانحرافت الاقتصادية، والانحرافات الثقافية، والانحرافات الخلقية، وغيرها من الانحرافات لا تبدأ مرة واحدة وبصورة مفاجئة. بل انها تبدأ تدريجياً، والمشكلة هي ان الناس دائماً ينظرون الي نهاية الانحراف. فحينما يموت المريض يلمسون بانه كان مريضاً، وكأنه فجأة بدأت عوارض المرض علي جسمه وفي نفس ذلك اليوم ما ت المريض، والناس لا تشعر مثل ذلك الطبيب حينما ينظر الي شخص مصاب بسرطان الدم-والعياذ بالله-والشخص في أتم الصحة خارجياً انه يمشي..

ويذهب.. ويأكل، وهو لايشعر بأن جسمه يحمل مرضاً يؤدي به الي الهلاك، ولكنه صدفة يذهب ليحلل دمه، والمحلل يعطيه تقريراً مغلقاً الي الطبيب المختص، ويقول له راجع ذلك الطبيب. ومن ثم يقوم الطبيب بدوره بفتح التقرير وهو يقول: نعم خلايا سرطانية في الدم، واذا الطبيب وجه الكلام الي هذا الانسان الذي يحمل المرض السرطاني:انك سوف تموت بعد سنة،طبيعياً انه لا يقبل بل يكذّب تقرير الطبيب، لانه لا يشعر بأن جسمه يحمل مرض السرطان في الدم ومادام يحس في نفسه الاندفاع والحيوية، ويستطيع أن يقوم بأعماله ببساطة.

فلماذا يموت؟

كذلك الامة، حينما تبدأ الخلايا السرطانية بالانتشار فيها فذلك اليوم هو يوم موت هذه الامة، ولكن الامة لا تعشر بذلك، والمصلحون وحدهم هم الذين يشعرون ويعرفون ان الانحراف قد بدأ مع فارق بين الفرد المصاب بالخلايا السرطانية والامة وهوان الانحرافات في الفرد لا ينفعها العلاج.

ولكن الامة اذا وعيت واستوعبت نصيحة الناصيحين، استطاعت عندئذ أن تقضي علي الانحراف، وكما نري ان الانسان الذي يسير نحو النوم لا يفهم انه بدأ ينام، أو الانسان الذي يضرب أبرة التخدير فانه ينحدر الي حضيض التخدير بلا حس.

كذلك الامة حينما يبدأ سيرها في الانحراف، يقل وعيها، وتقل قدرتها علي معرفة الانحراف.

ان الانسان الذي لم يذنب شيئاً، يعرف ان الذنب خطير، فيتهيب من الذنب لانه يعرف مدي قذارته، ولكن اذا أذنب مرة.. مرتين.. ثلاث، فان روحيته تتبدل ويفقد ضميره الذي لابد أن يحاسبه علي الذنب.

وفي مثل هذا الوضع.. ماذا تحتاج الامة؟

الامة التي يبدأ الانحراف فيها تحتاج الي صيحة، تحتاج الي تفجير في ضميرها.. وهذا ما فعله الامام الحسين (ع) في كربلاء، قام بعملية تفجير هائلة القوي لا يمكن قياسها حتي بالقنابل النووية لضخامتها واتساع أمواجها وامتدادها عبر الزمان والمكان، فقد قام بهز ضمير الامة.. لكي يهدم البناء الانحرافي داخل المجتمع وداخل النفس البشرية آنئذ في كل وقت.