بازگشت

التوجه الاجتماعي الشامل لرسالات الانبياء


ان الذي يقرأ القرآن الحكيم بتدبر، يفهم ان رسالة الانبياء (ع) لم تكن دائماً موجهة ضد الكفار والمشركين بالمعني الضيق للكلمتين، أي لم تكن موجهة ضد أولئك الذين يكفرون أساساً برسالة الله، أو يجحدون وجود الله بصورة علنية وواضحة، وانما اكثر رسالات السماء كانت موجهة أيضاً ضد أولئك الذين حرفوا رسالات السماء ونافقوا وفسقوا.. نعم ان نمرود كان ينكر وجود الله من الاساس وحينما قال له ابراهيم (ع) اعبد الله تراه، يقول: من هو الله، فلما قال له:

«رب السماوات والأرض الذي يحيي ويميت».

قال انا أحيي وأميت: قال: ابراهيم (ع):

«فان الله ياتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر» (258) البقرة.

وفرعون كذلك، قد يكون ممن ينكر الله انكاراً تاماً فحينما جاءه موسي وهارون لكي ينذراه قال لهما: من ربكما يا موسي؟

قال موسي:

«ربنا الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدي» (50) طه.

ان الرجل كان يزعم بأنه كان هو الرب الاعلي لمصر ولشعب مصر.

«أنا ربكم الأعلي» (24) النازعات.

ولكن ليست كل المجتمعات التي أرسل اليها الانبياء عليهم الصلاة والسلام كانت من هذا النوع، إنما الكثير منهم كانوا من الذين بدلوا حقائق الحياة، وحرفوا رسالات السماء وفسقوا وأجرموا، وقد استخدمت كلمة الشرك والكفر وكلمات من هذا القبيل في القرآن الحكيم مرة في النوع الاول، ومرة في النوع الثاني، لانه حسب البصيرة القرآنية لا فرق بين النوعين فكلاهما شرك وكفر عند الله.

لا فرق بين أن تدعي انك تؤمن بالله ثم تكفر به عملياً، أو تدعي ذلك رأساً، ولا فرق بين أن تعتقد بأنك تؤمن بالله ثم تشرك به عن طريق خضوعك وسجودك لصنم وبين أن تشرك بالله عن طريق خصوعك لطاغوت، فان ذلك صنم وهذا هو الآخر صنم، أحدهما صنم حجري، والآخر صنم بشري ولا فرق بينهما.

ولذلك التبست الامور علي طائفةً من الناس ففسروا القرآن وزعموا ان كلمة الشرك والكفر والفسق، إنما هي مخصوصة باولئك الذين كانوا يعلنون الشرك ويجحدون بالله بصورة واضحة.

أسباب وأهداف وتوجيهات بعثة الأنبياء.

لنعد الي القرآن ونتدبر في آياته لنري من الذي أرسل اليهم الانبياء، وبالتالي لنعرف لماذا كان قيام الانبياء (ع)، وماذا كان هدف الانبياء (ع) من ثورتهم، ومن حركتهم التصحيحية في مسيرة الكون.

القرآن الكريم يقول:

«كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون-اني لكم رسول أمين-فاتقوا الله وأطيعون-وما أسئلكم عليه من أجر ان أجري إلا علي رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون» (105/110 الشعراء)

في هذه الآيات نري بصورة واضحة ان النبي نوح (ع) وهوشيخ المرسلين كان يأمر قومه بالتقوي وبالطاعة مما يدل علي ان مشكلتهم كانت الفسق، ومعصية الرسول، فلننظر ماذا أجابه قومه قالوا:

«أنؤمن لك واتبعك إلا الارذلون» 111/الشعراء

هذا هو الجواب الذي يدل علي نوعية المشكلة، فما هي مشاكل مجتمع النبي نوح عليه الصلاة والسلام؟.

المشاكل الاجتماعية في عهد نوح (ع) آنذاك كانت الطبقية، والنبي نوح (ع) إنما جاء لحل هذه الاشكالات من مجتمعه، فقالوا أنؤمن لك، واتبعك الارذلون.

وناتي علي طائفة أخري من الاقوام البشرية وهم عاد وجاء في القرآن الحكيم:

«كذبت عاد المرسلين - إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون - اني لكم رسول أمين - فاتقوا الله وأطيعون - وما أسئلكم عليه من أجر ان أجري إلا علي رب العالمين - أتبنون بكل ريع آية تعبثون - وتتخذون مصانع لعلّكم تخلدون - واذا بطشتم بطشتم جبارين - فاتقوا الله واطيعون - واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون - أمدّكم بأنعام وبنين - وجنات وعيون - اني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم - قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين - ان هذا إلا خلق الاولين - وما نحن بمعذبين - فكذبوه فأهلكناهم ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» (123/139/الشعراء).

في هذا الموقف نتسائل ونقول: ماذا كانت دعوة هود لقوم عاد، والي ماذا دعاهم؟

الجواب:

دعاهم الي التقوي والطاعة، ودعاهم الي ترك السلبيات التي تورطوا فيها، سلبية الغرور والبطش والاعتماد علي الامور المادية. فماذا كان رد عاد، وماذا قالوا له؟

قالوا: لا، نحن لا نؤمن بالرجعية، ولا نؤمن بالافكار المتخلفة التي يدعوها نبي الله هود-عليه الصلاة والسلام-.

إذاً فالمشكلة بين هود وقومه عاد لم تكن مشكلة في أصل الايمان، وإنما المشكلة الاساسية فيما يترتب علي الايمان من السلوك الحسن، ومن التواضع، ومن التسليم لأمر الله، ومن التقوي والطاعة.

يقول القرآن الحكيم:

«كذبت ثمود المرسلين - إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون - اني لكم رسول أمين - فاتقوا الله وأطيعون - وما أسئلكم عليه من أجر ان أجري إلا علي رب العالمين - أتتركون في ما ها هنا آمنين - في جنات وعيون - وزرع ونخل طلعها هضيم - وتنحتون في الجبال بيوتاً فارهين فاتقوا الله وأطيعون - ولا تطيعوا أمر المسرفين - الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون - قالوا إنما أنت من المسحرين - ما أنت إلا بشر مثلنا فات بآية ان كنت من الصادقين - قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم - ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم - فعقروها فأصبحوا نادمين - فأخذهم العذاب أنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» (141/158/الشعراء).

وهكذا كانت ثمود حيث جاء شعيب الي قومه اصحاب الايكة ودعاهم بنفس الفكرة وذات النغمة:

«فاتقوا الله وأطيعون».

إذن فكل ذلك يدل علي فكرة واحدة هي ان الانبياء عليهم الصلاة والسلام، لم يكونوا مرسلين الي قوم يجحدون بالله جحداً تاماً إلا في بعض الفترات اما في الاغلب فكانت رسالتهم موجهة ضد أولئك الذين جحدوا بالله عملياً وسلوكياً، ونقرأ في سورة أخري وهي سورة العنكبوت آيات توضح لنا هذه الفكرة أكثر فالقرآن الحكيم يقول:

«وعاداً وثمود قد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين - وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسي بالبيانات فاستكبروا في الارض وما كانوا سابقين - فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» (37/40).

أنظروا.. ماذا تقول هذه الآيات الكريمة، تقول ان هؤلاء استكبروا في الارض فزين لهم الشيطان أعمالهم وصدهم عن السبيل، وكانوا أصحاب بصيرة وكان طريقهم قويماً، وبعد أن كانوا مهتدين بهدي الحق، ولكن ضلوا عن هذا الطريق بسبب أعمالهم التي زينها الشيطان لهم.

فالمشكلة اذا كانت مشكلة سلوكية قبل أن تكون مشكلة عقائدية بالمفهوم الضيق لكلمة العقيدة، ان الانبياء بعثوا في الاغلب الي أولئك الذين أنكروا الرسالات بأعمالهم ففسروها تفسيراً خاطئاً، وفسقوا ولم يأتمروا بأوامرها، ولم يلتزموا بالتزاماتها كقوم صالح (ع) أو انهم لم يطيعوا القيادات الرسالية التي بعثت اليهم. هذه كانت خلاصة الانحراف، الذي جاء الانبياء من أجل اصلاحه في المجتمعات الانسانية.