بازگشت

ان شاء الله


وهي النقطة العاشرة في هذا الخطاب الحسيني .

في هذه الجملة نلمس إرادتين تندك إحداهما في الاخري . و لا يكتسب العمل قيمته الحقيقية إلاّ بحضور هاتين الإرادتين معاً، واندكاك احداهما في الاخري .

الإرادة الاولي هي إرادة العبد، والإرادة الثانية هي إرادة الله تعالي ،و تذوب الاولي في الثانية .

إن الإنسان (خليفة ) الله، ينفّذ مشيئة الله و إرادته علي وجه الارض في عمارة الارض ، وإصلاح الإنسان من خلال إرادته و اختياره ، من دون ان يفقده ذلك حرية الاختيار والقرار.

وهذا هو الفارق بين (الآلة ) و (الخليفة ) كل منهما يحقّق إرادة الطرف الآخر، ولكن الآلة تحقق إرادة الطرف الآخر دون اختيار و إرادة ،و (الخليفة ) يحقق إرادة الطرف الآخر من خلال إرادته واختياره .

و الجماد و النبات و الحيوان أدوات مسخرات لتحقيق إرادة الله تعالي ومشيئته ، وفق قوانين إلهية ثابتة في الطبيعة ، ولكن من دون إرادة واختيار.

و أمّا الإنسان فهو خليفة الله تعالي ، خلقه الله تعالي و اكرمه بخلافته علي وجه الارض : (قال ... إني جاعل في الارض خليفة ) ليقوم بتنفيذ مشيئة الله و إرادته علي وجه الارض ، ولكن من خلال إرادة الانسان نفسه ومشيئته ، لا من دون إرادة و اختيار.

وفي هذه الفقرة من خطاب الحسين (ع) نلمس نحن هذه الحقيقة بشكل واضح .

فهو يقول اولاً:

«فإنّي راحل مصبحاً».

في هذه الجملة تبرز (الانا) و (الإرادة الإنسانية ) بصورة واضحة .«إني ـ راحل ».

ولكن الجملة الثانية :

ـ «إن شاء الله»

تاتي مباشرة بعد الجملة الاولي ، لتكفكف من بروز (الانا) في الجملة الاولي و لتوجّه (الانا) و (الإرادة ) للاندكاك في إرادة الله تعالي ، ولتوظّف الانا وإرادته في تنفيذ إرادة الله و مشيئته .

إن الحسين (ع) هنا، يعبّر في الجملة الاولي : (فإني راحل ) عن عزم و إرادة لاحدّ لهما في التضحية والفداء. وهذه التضحية تنم ّ وتنبع عن (إرادة قوية و صارمة ).

وهذه الإرادة تُبرز بصورة قهرية (الانا)، وتركّزه في رحلة الحسين (ع) الي الله تعالي ، و لاشك ان (الانا) تبرز هنا في ساحة طاعة اللهتعالي ، وليس في ساحة الشيطان ، و ليس تركيز الانا وبروزه في ساحة طاعة الله، كتركيز الانا و بروزه في ساحة الشيطان .

إلاّ ان الحسين (ع) ماض ٍ في هذه الرحلة الي الله تعالي ، و يريد ان يتجرّد عن (الانا) حتي في ساحة طاعة الله، و لا يريد أن يأخذ معه ُ (الانا)الي الله تعالي ، فإذا عزم علي الرحيل الي الله يقول :

(إن شاء الله)، ويربط مشيئته بمشيئة الله، و يصهر إرادته و اختياره في إرادة الله، و يوظّفها لتنفيذ مشيئة الله تعالي و إرادته .

و نحن نمر بهذه الجملة من الخطاب الحسيني و نشعر بالرحيل ،و نشعر بمشيئة الله، ولكن لا نجد بينهما (الانا).

و ما اشبه موقف الحسين (ع) في هذه الجملة بموقف ابيه إسماعيل (الذبيح الاول ) عندما عرض عليه ابوه إبراهيم خليل الله أن يذبحه ، كماأراه الله تعالي ذلك في المنام !

(فلما بلغ معه السعي قال : يابني إني أري في المنام أني أذبحك فانظر ماذا تري ).

(قال : يا ابت افعل ما تؤمر، ستجدني ان شاء الله من الصابرين ).

إن في جملة : (يا ابت افعل ما تؤمر) التي نطق بها إسماعيل (ع) في سن المراهقة من التضحية ، و الفداء، و العطاء، و البذل ، و اليقين ، و الشجاعة ،و الحزم ، و القوة ، و الصبر، و مقاومة الهوي ، و التنكر للذات ، والترفع عن الدنيا، و الإقبال علي الله، و الإعراض عن الدنيا، و الإخلاص لله، و العزوف عن غير الله، و ما لست ادري من القيم الانسانية ، ما لا حدّ له .

ولكن في هذه التضحية والعطاء تبرز (الإرادة )، و من خلال الارادة يبرز (الانا).

وهو ما لا يريد ذبيح الله إسماعيل (ع) ان ياخذه معه في رحلته الي الله.

صحيح أن (الانا) يبرز هنا في ساحة طاعة الله، وليس في ساحة الطغيان و الهوي و الشح والبخل و الضعف و الجبن وحب الدنيا.

ولكن هذه الساحة وما فيها يجب ان يكون كله لله تعالي ، و ليس لإسماعيل (ع) فيها شي ء، و إسماعيل (ع) لا يريد ان يدخل هذه الساحة الربانية محمّلاً بـ (الانا) و مثقلاً بـ(الانا). بل يريد ان يتخفف عن ثقل الانا، ويندك ّ و تندك ّ إرادته وفعله وتضحيته في مشيئة الله تعالي و إرادته ،وكانه (وليس كانه بل تحقيقاً) ليس له دور ولا أثر ولا فعل ولا فضل في هذه التضحية النادرة ، وإنما كل ذلك لله تعالي و بمشيئة الله و إرادته ،و بفضله و رحمته و هو كذلك ، فيقول :

(ستجدني إن شاء الله من الصابرين ).

فتشعر بالتضحية والعطاء العظيم ، وتشعر بمشيئة الله تعالي و فضله و رحمته علي إسماعيل بهذه التضحية ، و يختفي إسماعيل (ع) ويختفي ظلاله تحت كلمة (إن شاء الله) حتي لا تكاد تشعر به ، رغم ضخامة التضحية و عظمة الفداء.

صلّي الله عليك يا ابن إبراهيم خليل الرحمن تضاءلت أمام عظمة الله،فعظّمك في محكم كتابه ، وذبت في مشيئة الله فأبرزك الله تعالي في قرآن عظيم يتلوه الناس ليلاً و نهاراً عبر القرون : (واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد و كان رسولاً نبياً وكان يامر اهله بالصلاة ، و الزكاة ، وكان عند ربّه مرضياً).

و لقد كان مشهد هذه التضحية الفريدة في التاريخ صغيراً في الارض عظيماً في السماء. ولقد اجتمع الملائكة يومئذٍ عند هذا المشهد العظيم ،ليروا أن ابا الانبياء إبراهيم (ع) قد اضجع فلذة كبده إسماعيل علي الارض ،و تلّه للجبين ، و اهوي بالسكين علي نحره ليذبحه ، و إسماعيل مستسلم لامر الله لا يضطرب و لا يتحرك ، ولم يشهد يومئذٍ هذا المشهد العظيم علي الارض من الناس أحدٌ؛ فضجّت الملائكة الي الله تعالي يدعون الله الرحمن الرحيم أن يفدي إسماعيل بذبح عظيم .

ولقد كانت الدنيا يومئذٍ غارقة في ظلمات الكفر و الجهل . ومن بين هذه الظلمات كان يرتفع عمود من النور من وادي مِني الي السماء،يجتمع حوله ملائكة الله ليروا مشهد هذه التضحية العظيمة ، تضحية الابن و تضحية الاب .

ولست أدري أيهما كان اعظم عند الملائكة يومئذٍ، و هم يشهدون هذا المشهد العظيم : تضحية الاب بابنه ، ام تضحية الابن بنفسه علي يدابيه ؟

ثم أيهما كان أعظم لدي الملائكة ، هذه التضحية النادرة و العجيبة من ذلك الشاب اليافع المراهق إسماعيل (ع)، ام تعليق ذلك كله علي مشيئة الله:(ستجدني إن شاء الله من الصابرين )؟

ولكن مهلاً يا ملائكة ربّي لا تسجّلوا المثل الاعلي لهذا الوالد و ما ولد (ع) وتريّثوا حتي ياتي الله من ذرية هذا الاب وابنه في كربلاء، بابي الشهداء يحمل رضيعه علي يده وهو يتلظي عطشاً، ويطلب له الماء فيرميه الخبيث حرملة بن كاهل الاسدي بسهم فيذبحه من الوريد الي الوريد علي يده أبيه !

فيضع الحسين كفّه تحت نحر الطفل ، ويرمي بدمه الي السماء لئلاينزل غضب الله علي الارض .

ثم لا يستعظم شيئاً من فعله ، ولا يكبر شيئاً من تضحيته و عطائه ، و لايدخله العجب بشي ء من هذا البذل العظيم في سبيل الله، ويري أن كل ذلك من الله، و بمشيئة الله تعالي ، وبفضله ، ورحمته ، وليس له في ذلك دور أوشان ، و إنما الشان كل الشان لله تعالي وحده ، وهو منفّذ لامر الله تعالي فقط فيقول : «إني راحل مصبحاً إن شاء الله». ويقول يوم عاشوراء، في ساحة التضحية والفداء: «اللهم إن كان هذا يرضيك ، فخذ حتّي ترضي ».