بازگشت

فليرحل


هذه الرحلة تختلف عن كثير من الرحلات الاخري . فلها ظاهر و باطن .

ظاهر هذه الرحلة من الحجاز الي العراق لنصرة الحسين (ع)، وباطن هذه الرحلة ، الرحلة من الانا الي الله، ومن الدنيا الي الآخرة ، ومن الاستئثارالي الإيثار، ومن الخمول وإيثار العافية الي التضحية والجهاد. والرحلة الاولي علي وجه الارض في ساحة الصراع السياسي ، والرحلة الثانية في داخل النفس . وما لم يجتمع هذان البعدان ـ معاً ـ في هذه الرحلة فلا تنفع هذه الرحلة و لا تبلغ غايتها.

والبعد الباطني لهذه الرحلة قبل البعد الظاهري ، و هو الذي يقوّم البعد الظاهري .

والذين لم يستجيبوا لدعوة الحسين (ع) في هذه الرحلة ، و الذين تراجعوا عنها عندما جدّ الجد كانوا من الذين لم يرحلو الرحلة الثانية داخل نفوسهم .

لقد تجسدت هذه الرحلة بصورة واضحة فيمن تجسّدت فيه من اصحاب الحسين (ع)، زهير بن القين . فقد كان اموي الهوي ، فاصبح حسينياً. وكان يؤثر العافية في حياته ، فآثر الخوض في صراع عنيف مع الجيش الاموي علي العافية ، وكان من ابناء هذه الدنيا، فانقلب الي الآخرة ،و امر بفسطاطه وثقله الي جهة الحسين ، وطلّق زوجته الشجاعة الصالحة التي علّمته كيف ياخذ القرار الصعب في الازمات الصعبة ، كل ّ ذلك خلال دقائق معدودة . و لسنا نعلم الي اليوم ما الذي حدّثه الحسين (ع) عندما خلي به (ع)؟ و ما الذي جري بينه و بين الحسين (ع)؟ ولكنّا نعلم ان هذا اللقاء كان حدّاً فاصلاً بين مرحلتين من حياة زهير؛، وان زهيراً؛ تعرّض بعد هذا اللقاء مرة واحدة لانقلاب عميق في شخصيته و حالته ؛ فامر بفسطاطه وثقله الي جهة الحسين .

ولنقرأ القصّة برواية الطبري عن أبي مخنف :

يروي ابو مخنف عن السدي عن رجل من بني فزارة ، كان مختبئاً معه في دار الحرث بن ابي ربيعة في (التمارين ) أيام الحجّاج بن يوسف الثقفي ، وكان هذا الرجل الفزاري مع زهير بن القين ؛.

فسالته عن خبرهم مع الحسين (ع).

فقال الفزاري : (كنّا مع زهير بن القين البجلي ، حين اقبلنا من مكة نساير الحسين (ع). فلم يكن شي ء ابغض الينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين (ع) تخلّف زهير بن القين ، واذا نزل الحسين تقدم زهير؛حتي نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بداً من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين (ع) في جانب ، ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغذي من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (ع) حتي سلّم ، ثم دخل ، فقال : يا زهير بن القين ، إن أباعبدالله الحسين بن علي (ع) بعثني اليك لتاتيه . قال : فطرح كل إنسان منا مافي يده حتي كأننا علي رؤوسنا الطير).

قال ابو مخنف فحدثتني دلهم بنت عمرو امراة زهير بن القين قالت :قلت : أيبعث اليك ابن رسول الله ثم لا تاتيه ؟ سبحان الله! لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت . قال : فاتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد اسفر وجهه ، قالت : فأمر بفسطاطه و ثقله ومتاعه فقدم وحمل الي الحسين .

ثم قال لامراته : (أنت طالق ، إلحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك سوء بسببي الاخير). وهذا هو البعد الظاهري من الرحلة .

و كان زهير؛ ضمن اُسرة سياسية و اجتماعية وعائلية ، مرتبطاً بمجموعة من العلائق المادية والسياسية والاجتماعية ، ومحاطاً بسياج من العوائق المادية و السياسية و الاجتماعية ، فحل ّ نفسه بحركة سريعة و قوية من هذه (العلائق ) جميعاً، و تحرر منها، وأزاح هذه العوائق جميعاً من امامه ، و التحق بالحسين (ع)؛ فأصبحت علائقه حسينية ، ولكل ّ أسرة علائقها وعوائقها، و ولاؤها و براءتها. ولا تخلو أسرة حضارية من هاتين الخصلتين في الجاهلية و الإسلام ، و الحق و الباطل .

و قد كان هوي زهير للاسرة الاموية فتحول الي الاسرة العلوية ،و انقلب ولاؤه وبراءته وعلائقه وعوائقه من الاموية الي العلوية .

و هذا هو البعد الباطني لهذه الرحلة ، و هو جوهر هذه الرحلة ، والذين تخلّفوا عن الحسين (ع) في هذه الرحلة ، كانوا متخلفين في الرحلة الاخري داخل نفوسهم ، و ما لم تتم للإنسان هذه الرحلة الشاقة في داخل نفسه لايتوفق الي الرحلة المماثلة لها في ساحة الصراع .

وتلك الرحلة هي الهجرة الكبري ، امّا الرحلة في ساحة الصراع ، وعلي وجه الارض فهي الهجرة الصغري في حياة الإنسان .

و الهجرة الكبري هي الاساس للهجرة الصغري ، وإن الجهاد الاكبر هو أساس النجاح في الجهاد الاصغر.

و لا يزال الخطاب الحسيني (: فليرحل معنا) يدوّي في التاريخ ، في آذان الخائفين و المستضعفين ، يدعوهم الحسين (ع) أن يرحلو من دنياهم الي دنياه ، من دنيا الخنوع و التهافت علي حطام الدنيا، و حب الدنيا الي دنيا العزّ و الترفع عن حطام الدنيا والزهد في الدنيا.

و لا تزال قافلة الحسين (ع) تتحرك وتقطع اشواطاً في طريق ذات الشوكة ، يلتحق بها ناس آثروا الآخرة علي الدنيا ورضوان الله علي حطام الدنيا، ويتخلف عنها ناس طال املهم في الدنيا فاثّاقلوا الي الارض .