بازگشت

باذلا


و الكلمة الثانية (باذلاً) وهذه قضية ثانية ، القضية الاولي ان الحسين يطلب من الناس التضحية بمهجهم ، و القضية الثانية أن الحسين (ع) يريدمن الناس ان يبذلوا له مهجهم ودماءهم ، بذلاً عن وعي و اختيار من غيرقسر ولا إجبار، بل بطوع إرادتهم و اختيارهم ، فلا يريد ان يغتصب الناس مهجهم ، ولا هو من الذين يخدعون الناس عن مهجهم و دمائهم .

و هذه قضية اصر عليها الحسين (ع) بشكل غريب ، منذ ان خرج من الحجاز الي ان صرع مع اهل بيته و اصحابه في كربلاء.

اكثر من مرة اذن لاصحابه ولاهل بيته بالانصراف ، و جعلهم في حل ّمن بيعته .

وآخر مرة عرض عليهم الانصراف ، و الحل من بيعته ليلة العاشر من محرم إذ جمعهم عنده ، وقال لهم بنفس الصراحة والوضوح الذي عهدوه منه من قبل «الا وإني قد اذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حل ّ، ليس عليكم مني ذمام ،هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثم لياخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي ،ثم تفرقوا في سوادكم و مدائنكم حتي يفرّج الله، فإن القوم إنما يطلبوني . ولو قداصابوني لهوا عن طلب غيري ».

و لم يكن الحسين (ع)، يومئذ، وهو يعلن لاصحابه واهل بيته أنهم في حل من بيعته ، وياذن لهم في الانصراف الي سوادهم ومدائنهم ، ليلة مصرعه ، في كربلاء، لم يكن الحسين (ع) يزهد في نصرة اصحابه ، وإنماكان في امس ِّ الحاجة الي الانصار، و كان لا يُفرّط في فرصة تمر عليه يستطيع ان يدعو فيها الناس علي العموم ، او بالخصوص الي نصرته إلاّ و يعلن فيها الاستنصار و الدعوة ، فلماذا هذا التاكيد المكرر لاصحابه وللذين التحقوا به ان ينصرفوا الي بلادهم و اهلهم ؟ ولماذا يصرّالحسين (ع) الي جنب ذلك ، علي إعلان الاستنصار؟

و كيف يجتمع هذا الإصرار علي الاستنصار مع هذا التاكيد علي الإذن لاصحابه وأنصاره بالانصراف في نفس الوقت ، والتحلل من بيعته ؟

إن الامر عند الحسين (ع) واضح ، فهو يريد من الناس ان يبذلوا له مهجهم (بذلاً) عن وعي وبصيرة وبمحض إرادتهم ، من دون قهر او حرج اوحياء، و لماذا؟

لان الطريق الذي يريد الحسين (ع) ان يقطعه لا يمكن ان يقطعه الناس إلاّ إذا مضوا معه بوعي وبصيرة وإرادة وعزم ، أما اذا قطعوا هذا الطريق عنوة أو من غير وعي و طواعية ، فلا يبلغون ما يريده الحسين (ع).

إن ّ الحسين (ع) يريد ان يستصفي من هذه الاُمّة انقاها جوهراً،واصفاها قصداً ونيّة و إخلاصاً ليصطحبهم معه الي لقاء الله في كربلاء، ولوكان يشوب نفوسهم شي ء من الحرج أو الحياء في خروجهم مع الحسين (ع) الي مصارعهم في كربلاء ولو بنسبة قليلة ؛ لفقدوا في نفوسهم و قصدهم هذا الصفاء والخلوص الذي يطلبه الحسين (ع) من اصحابه في خروجهم الي لقاء الله.

إن هذه الرحلة رحلة الي لقاء الله، و هي تختلف عن أية رحلة أخري ،ومثل هذه الرحلة تتطلب من الصفاء والنقاء في القصد و النية مالا تتطلبه رحلة أخري ، ولذلك كان الحسين (ع) يحرص حرصاً بليغاً أن يكون خروج اصحابه معه عن (بصيرة ) و (اختيار).

هذا من ناحية (ربّانية الحركة ) التي كان الحسين (ع) يحرص علي تحقيقها في حركته .

و امّا من الناحية (السياسية ) ـ وهو الهدف الآخر للحسين ـ فإنّه (ع) يريد ان يهزّ ضمائر المسلمين و قلوبهم بمصرعه و مصرع من معه من المؤمنين و ان يعيدهم الي انفسهم بعد ان سلخهم بنو امية عن انفسهم . ولن يتم للحسين (ع) مثل هذا الانقلاب العميق في نفوس الناس ، و هذه العودة الي الذات إلاّ إذا كانت العناصر التي تشارك في صنع هذه الملحمة الخالدة تتصف بالبصيرة والعزم .

و بعكس ذلك لو كانت هذه العناصر من العناصر الضعيفة و الرجراجة التي تقدّم خطوة و تؤخر اخري فإن مردود عملها و مشاركتها يكون بالاتجاه السلبي .

و من هنا كان الحسين (ع) يريد بإصرار من الناس ان يبذلوا له انفسهم و مهجهم بذلاً، عن إرادة و اختيار و بصيرة .