بازگشت

الامام والعصر والخلفاء


عاش الإمام الحسين (عليه السلام) سبعا وخمسين سنة قضاها في طاعة الله وعبادته (لم يعص لله طرفة عين) - لأنه الإمام المعصوم والمفترض الطاعة بعد أخيه الإمام الحسن الزكي (عليه السلام) - وطاعة جده العظيم المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله)، وأبيه المرتضي الإمام علي (عليه السلام)..

وعاصر الإمام الحسين (عليه السلام) مختلف أنواع الحكام في الدولة الإسلامية وخلفائها.. من أعظم وأعدل خلق الله وأطيبهم، إلي أظلم واخبث الناس أبدا.. وما بين ذلك عاصر مختلف التيارات التي عصفت في الدولة الإسلامية وتقاذفتها يميناً وشمالاً.. من (فلتة) إلي (تعيين) ومن (شوري محددة) إلي فتن متلاحقة حتي انتهت إلي ملك عضوض وراح يعض وينهش في جسد الأمة وأجساد الأفراد فيها علي أيدي أموية خبيثة ليس لها من الدين شيء لا اسم ولا رسم حتي...

فعاش الإمام الحسين (عليه السلام) ستة سنوات في ظلال وارفة لجده المصطفي محمد (صلي الله عليه وآله) خير خلق الله وأعدل البشر قاطبة وهو القائد الأعلي والحاكم العام للدولة الإسلامية التي كانت عاصمتها المدينة المنورة وهي في أوج عهدها وأعظم تألق لنجمها وأكبر انتشار لنورها وذلك بسبب الوجود المبارك للرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله).

والإمام الحسين (عليه السلام) في تلك الفترة الحساسة من عمره الشريف (السنوات الأولي) أحاطته الرعاية من كل جانب حتي بان فضله وتألق نجمه في سماء المدينة المنورة.. فرعاية الله تحفظه، وملائكة من أعظم ملائكة الرحمن ترعاه، كيفما توجه (عليه السلام) وأينما تحرك..

وتعززها رعاية و محبة الرسول (صلي الله عليه وآله) حتي أنه في اللحظات الأولي لولادته المباركة ألقمه لسانه الشريف يمتص منه لبنا سائغا وعسلا مصفي يغتذي به.. فنبت لحم الإمام الحسين (عليه السلام) ونما جسده واشتد عظمه من الرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) وهذا من معاني قوله (صلي الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حينا) [1] وفلسفة هذا الحديث عميقة ومعانيه واسعة.. وليس هنا مجال البحث المعمق فيه..

فأول حاكم عاصره الإمام الحسين (عليه السلام) لدولة الإسلام الحنيف هو الحاكم الأول والأعدل في دنيا الإنسانية كلها جده المعظم الذي كان مؤسس وموجه وقائد تلك الدولة الفتية في ربوع المدينة المنورة..

وعاش في بدايات عمره الشريف ألم فراق الأم الحنونة والجد العطوف وذلك خلال أشهر قليلة.. وما أعظمها من مصيبة علي قلب ذاك الفتي النوراني الذي فتح عينيه في صباح ذاك اليوم ليري المدينة كلها تضج وتعج.. والناس بين باك وصارخ ومعول.. ويدخل إلي جده الذي اعتاد علي الاصطباح بوجهه الشريف وقبلاته الحارة يراه مسجي ولا حراك فيه، وأمه وأبوه والهاشميون بأشد البكاء والنحيب علي فراق الحبيب المصطفي (صلي الله عليه وآله).

ليعيش بعدها بليلة واحدة ويوم واحد في دولة جديدة وحاكم جديد وذلك بعد الانقلاب الذي أحد ثوه علي أبيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وما يزال الرسول (صلي الله عليه وآله) علي فراشه لم يدفن بعد..

وحمل مع أخيه الزكي (عليهما السلام) من قبل أبيه وأمه (عليهما السلام) وداروا علي المهاجرين والأنصار في محاولة لإحقاق الحق وتصحيح العمل الذي اقترفوه بإبعاد أهل البيت الكرام (عليهم السلام) عن قيادة الأمة الإسلامية وتولي غيرهم الأمور وهم أحق أهل الأرض بذلك المقام الذي خصصه الله ورسوله لهم وليس لأحد غيرهم أبدا..

ويري الهجوم الكاسح الذي قادوه علي دارهم.. ويسمع التهديدات بإحراق المنزل وهم فيه.. ومحاججة أمه الطيبة للقوم.. ويشاهد بأم عينيه عملية الاقتحام الغيبة والعنيفة للمنزل والتي أدت بحياة أمه الزهراء (عليها السلام) وجنينها الذي اسماه جده (صلي الله عليه وآله) بـ (المحسن).. وكيف أخذ أبوه المرتضي حامي الحمي مكرها إلي المسجد الجامع لكي يبايع!!

ولذلك نري الإمام الحسين (عليه السلام) وفي تلك السن المبكرة وعند ما رأي الحاكم علي منبر جده المصطفي (صلي الله عليه وآله) ركض إليه وحاول إنزاله عنه علي مرأي ومسمع كل من حضر المسجد قائلا: انزل هذا مكان جدي وأبي (عليهما السلام)..

وهكذا فقد الإمام الحسين (عليه السلام) أمه في ريعان شبابها وقمة عطائها وهو أحوج ما يكون لها وما في الوجود من يعوض عن الزهراء (عليها السلام) في كل شيء علي الإطلاق. إلا أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ناب عن الزهراء (عليها السلام) وعن أبي الزهراء (صلي الله عليه وآله) في تربية الحسنين (عليهما السلام) تربية إلهية خالصة..

... وبد انقضاء حكومة أبي بكر وعمر وعثمان جاء المسلمون الي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يبايعونه بالخلافة بعد أن كان جليس الدار طيلة 25 سنة..

فلما حكم الإمام علي (عليه السلام) بالعدل وعلي أساس كتاب الله وسنة رسوله الأعظم (صلي الله عليه وآله) راح البعض يتطلب القطائع والبلاد للحكم والأموال.. وعندما رفض الإمام طلباتهم أعلنوا عليه الحرب..

فنكث طلحة والزبير وحاربهم في معركة الجمل الشهيرة..

وقسط معاوية وأعلن خروجه ومناجزته لإمامه وحاربه في صفين وانتهت الأمور في مهزلة التحكيم..

ومرق الخوارج فحاربهم في النهروان فأبيد معظمهم..

فهذه الحروب لم تنته حتي زادت في تفتت الأمة وتشتتها، وقضي أمير المؤمنين (عليه السلام) شهيدا في محراب العبادة لمسجد الكوفة وذلك بعد أن رسم للعالم بأجمعه أسلوب الحكومة الإسلامية الصحيحة والعدالة الإنسانية الكاملة..

وفي كل هذه الحروب كان الإمام الحسين (عليه السلام) في طليعة من يشارك والده العظيم بحروبه الثلاثة: الجمل والصفين والنهروان، وكان مع صنوه الإمام الحسن (عليه السلام) يمثلان الظل الظليل للأمير علي (عليه السلام) ومحمد بن الحنفية ساعده وصاحب لوائه..

فاكتسب الإمام الحسين (عليه السلام) خبرة واسعة في الحرب والعمليات العسكرية بالإضافة إلي العلم الغزير الذي أغدقه عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كل جوانب الحياة واتجاهاتها.. وهو الإمام المعصوم بعد أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) والمفترض الطاعة علي العالمين.. وعلمه من علم الله لدنيا وتسديده من حكيم عليم في كل ما يقول ويفعل..

أما موقفه من الأمويين عامة، وحاكمهم معاوية بن أبي سفيان وولده يزيد خاصة فهو معروف ولا يمكن أن ينكره أحد من ذاك الزمن وإلي اليوم إلا معاند أو جاهل بالتاريخ والسيرة، فالرفض لحكومة الأول والثورة علي حكم الثاني كان عمل الإمام الحسين (عليه السلام) المميز عبر القرون والأجيال..

أما سكوته عن معاوية رغم أنه (عليه السلام) كان يري ضرورة مجاهدته.. فهو لاستمرار الظروف الاجتماعية والسياسية الضاغطة التي ألجأت صنوه الإمام الحسن السبط (عليه السلام) للصلح والمهادنة هذا من جهة.. ولشخصية الحاكم معاوية بن أبي سفيان نفسه المميزة بالدهاء والشيطنة وشقوته التي ما زالت مضربا للأمثال.. وغيرها من الجوانب التي ألجأت الإمام الحسين (عليه السلام) لعدم الخروج عليه ومجاهدته..

وجرت مراسلات كثيرة بين الإمام الحسين (عليه السلام) ومعاوية توضح موقف الإمام (عليه السلام) من معاوية وحكمه الظالم وتفضح يزيد قبل أن يتولي منصب الحكم وذلك حين حاول معاوية أخذ البيعة له وهو ما زال علي قيد الحياة..

وفي نهاية عام الستين للهجرة الشريفة مات معاوية حاملا معه أوزاره ولا حقه به آثام ولده يزيد الذي ولاه علي رقاب وأموال وأعراض هذه الأمة فعاث فيها فسادا وإفسادا..

وما أن تولي يزيد مقاليد الأمور حتي بعث إلي ولاة الأمصار بأخذ البيعة له ولو بالاكراه.. وأرسل إلي والي المدينة يأمره بأخذ البيعة من أهلها عامة وألحق برسالته رسالة صغيرة مكتوب فيها: أما بعد فخذ الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا عنيفا ليس فيه رخصة، ومن أبي عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه والسلام..

فتناول الوليد بن عتبة والي المدينة الرسالة بالحوقلة والاسترجاع، لمعرفته بهؤلاء النفر ومعاندتهم لبيعة يزيد وخاصة الإمام الحسين (عليه السلام) فله مكانته الاجتماعية المرموقة - سياسيا واقتصاديا وروحيا ومعنويا - فهو من لا يخفي فضله، ولا يخبو نوره، فهو ابن بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله) وابن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام) وسيد شباب أهل الجنة.

وهو بالتالي صاحب الحق بالولاية الدينية والدنيوية وحتي حسب نص معاهدة الصلح التي تمت بين معاوية والإمام الحسن (عليه السلام) فهو أحق بالبيعة له من يزيد أو غير يزيد من هذه الأمة.. فاحتار الوالي وبعث إلي مروان بن الحكم (الوزغ بن الوزغ) كي يستشيره في الأمر.. فأشار إليه بدعوة أولئك النفر المذكورين فورا وأخذ البيعة منهم قبل الصباح.. وأرسلوا الخادم إلي المسجد وكان الوقت متأخرا من الليل، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) وبعض المسلمين يؤدون الصلاة إلي الله، فاقترب الخادم من الإمام الحسين (عليه السلام) ودعاه إلي عند الأمير - الوالي الوليد بن عتبة - فعرف الإمام الحسين (عليه السلام) المقصد والمطلب فالتفت إلي عبد الله بن الزبير قائلا: أظن أن معاوية قد مات.. ويدعوننا الآن للبيعة ليزيد..

وهذا الذي كان بالفعل.. ورفض الإمام الحسين (عليه السلام) البيعة ليزيد..

والتاريخ يقول: جاء الإمام الحسين (عليه السلام) ودخل إلي الوليد وبعد السلام قال له الوليد: آجرك الله في معاوية، لقد ذاق الموت، وهذا كتاب الأمير يزيد..

فقال الإمام (عليه السلام): إنا لله وإنا إليه راجعون.. لماذا دعوتني؟

فقال الوليد: دعوتك للبيعة التي قد اجتمع الناس عليها..

فقال الإمام (عليه السلام): إن مثلي لا يعطي بيعته سرا، وإنما يجب أن تكون البيعة علانية وبحضرة الجماعة.. فإذا دعوت الناس غدا إلي البيعة دعوتنا معهم..

فقال الوليد: أبا عبد الله.. والله لقد قلت فأحسنت القول.. وأجبت بجواب مثلك، وهكذا كان ظني بك، فانصرف راشدا تأتينا غدا مع الناس..

فتدخل مروان الوزغ قائلا آثما: أيها الأمير إن فارقك الساعة ولم يبايع فإنك لم تقدر منه علي مثلها أبدا، حتي تكثر القتلي بينك وبينه، فاحبسه عندك ولا تدعه يخرج أو يبايع وإلا فاضرب عنقه..

فالتفت الإمام الحسين (عليه السلام) إليه قائلا: ويلي عليك يابن الزرقاء، أتأمر بضرب عنقي؟ كذبت والله ولؤمت وأثمت، والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك.. فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقا..

ثم التفت (عليه السلام) إلي الوليد بن عتبة قائلا: إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم.. ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل للنفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع لمثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة..

وخرج الإمام الحسين (عليه السلام) بعد المشادة الكلامية التي جرت بينهم.. فقال مروان الوزغ للوليد: عصيتني ولم ترقب قولي فوالله لا يمكنك علي مثلها أبدا..

فقال الوليد: ويحك يا مروان اخترت لي ما فيه هلاك ديني، أأقتل حسينا إن قال لا أبايع..؟ والله لا أظن امرء يحاسب بدم الحسين (عليه السلام) إلا خفيف الميزان يوم القيامة، ولا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم..

وهكذا استيقظت المدينة في اليوم التالي علي أمرين عظيمين: هلاك معاوية بن أبي سفيان ورفض الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد الله بن الزبير وبعض الوجهاء البيعة ليزيد، وكان ذلك في غرة رجب من سنة ستين للهجرة النبوية الشريفة.

وبعد ان عرف الإمام الحسين (عليه السلام) ان القوم أرادوا قتله خرج من المدينة المنورة في 28 رجب تاركا وصية إلي أخيه محمد بن الحنفية وقد أوضح فيها سبب خروجه علي يزيد وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أوصي به الحسين بن علي بن أبي طالب إلي أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية..

إن الحسين بن علي (عليه السلام) يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله جاء بالحق من عند الحق.. وأن الجنة والنار حق.. وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور..

إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما.. وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صلي الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد (صلي الله عليه وآله) وسيرة أبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولي بالحق، ومن رد علي هذا صبرت حتي يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين..

هذه وصيتي إليك يا أخي.. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب..

والسلام عليك وعلي من اتبع الهدي ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

فخرج الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة في 28 رجب ووصل إلي مكة المكرمة في 3 شعبان وراح يستقبل الوفود القادمة إليه من كل حدب وصوب، وأرسل رسائل إلي قادة القبائل والعشائر خاصة في البصرة، والكوفة، وعندما كثرت عليه رسائل الكوفيين أرسل إليهم سفيره وثقته مسلم بن عقيل لاستطلاع أحوالهم..

ونسج الأمويون مؤامرة لاغتيال الإمام الحسين (عليه السلام) في موسم الحج ولو كان متعلقا بأستار الكعبة، فاقتصر الإمام الحسين (عليه السلام) حجه وأحاله إلي عمرة.. وخرج مسرعا من مكة المكرمة في يوم التروية الثامن من ذي الحجة عام ستين للهجرة متجها إلي الكوفة متبعا الطريق العام للقوافل وهو يعلم بأن مصيره الشهادة في سبيل الله..


پاورقي

[1] بحار الأنوار: ج 43 ص 270 ب 12 ح 35.