بازگشت

ادلة مانعي التطبير والقائلين بحرمته


المعارضون للتطبير والقائلون بحرمته:

كلّ ما عندهم:

أولاً - التطبير بدعة.

ثانياً - فيه إضرار بالنفس.

ثالثاً - فيه توهين للمذهب.

وسأتناول هذه الأمور الثلاثة بما يناسب المقام:

أولاً: قولهم: بأنّ التطبير بدعة.

ماهي البدعة؟

الذي عليه أهل التحقيق والنظر أنّ البدعة:

أ ـ نفي أو إنكار أو جحود ما ثبت بالأدلة الصحيحة أنه من ديننا الذي يرتضيه الله ورسوله وآله الأطهار (صلوات الله عليه وعليهم) عقائدياً كان أو فقهياً أو سلوكاً أخلاقياً وأدبياً.

ب ـ الافتراء علي الله وعلي رسوله والأئمة المعصومين (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) إمّا بتفسير النصوص الشرعية وفقاً للآراء والأهواء وإمّا بإضافة أشياء جديدة إلي الدين ما هي من الدين أصلاً ولا فرعاً ولا مفهوماً ولا مصداقاً.

ولا يمكن لأحدٍ أن يجعل التطبير مصداقاً لأيّ من المعنيين المذكورين إذ أنّ القول بجواز التطبير وإباحته لا يستلزم نفي أو إنكار أو جحود أيّ شيء من دين الله سبحانه وتعالي وكذا فإنه لا يفسّر شيئاً ولا يضيف شيئاً إلي دين الله مما هو ليس منه، إذ غاية الأمر أنّ التطبير مظهر من مظاهر الحزن والجزع علي سيد الشهداء (صلوات الله عليه) الّذين أكّدت عليهما سنة المعصومين (عليهم السلام) وأوصت بهما. وليس خفياً فإنّ الحزن والجزع علي مراتب يختلف التعبير عنها من إنسان لآخر بحسب انفعاله وتأثره فقد يكون التعبير عن الحزن بالتحسر والتوجّع، أو بالإكثار من الاسترجاع والحوقلة، أو بالسكوت والانطواء، أو بترك الملذات والمسرات، أو بلبس ثياب الأحزان والظهور بمظهر أهل المصاب، أو بالبكاء والنحيب، أو بالصراخ والعويل، أو بلطم الوجه ولدم الصدر، أو بضرب الرأس أو الجسد باليد أو بالحجر أو غيره، أو بضرب نفسه بالأرض، أو بحثو التراب والرماد علي الرأس والوجه والبدن، أو بالانقطاع عن الطعام والشراب أو بهجر النوم والفراش، أو بأي فعل آخر يكون بحسب العرف أو بحسب ذوق أهل المصاب وبحسب ما يستشعره صاحب المصيبة بأنه قد فعل شيئاً يعبّر فيه عن عظم مصابه ورزيته (مصيبةً ما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض) [1] .

وما التطبير حزناً وجزعاً علي سيد الشهداء (عليه السلام) إلا مرتبة من تلكم المراتب التي يراها بعض المحبين أنها وسيلة للتعبير عن حزنهم وجزعهم لهذه المصيبة العظمي والرزية الكبري.

فأين وجه تسمية التطبير ووصفه بأنه بدعة إذن؟

أليس الأولي أن نصف حكم التحريم من دون دليلٍ من كتابٍ أو سنة بأنّه بدعة؟

إذ اتفقت كلمات فقهائنا من مضي منهم ومن حضر في أصول استنباط الفتاوي والأحكام علي أن نتمسّك بالأصل العملي حين عدم النص. وإننا وبنحو قطعي لا نملك نصاً أبداً لا من كتاب ولا من سنة يمنع التطبير حزناً وجزعاً علي الحسين (عليه السلام) [2] لذا وجب علينا والحال هذه أن نتمسّك بأصالة البراءة: (كل شيء هو لك حلال حتي تعلم الحرام بعينه) [3] .

أفليس الحقّ هذا؟!

أوليس طريقة الاستنباط والاجتهاد والإفتاء والفقاهة عند كلّ فقهاء الشيعة هي هذه؟!

أوليس الخروج عن هذه الطريقة في الاستنباط والإفتاء المعروفة هو الأولي بوصف البدعة والابتداع؟!

آه.... لو أنصف الحكم!

ومع كلّ ذلك فإنّا لا نريد أن نصف حكم المنع والتحريم بأنّه بدعة ولكننا نحمله علي أحسن المحامل فنقول: إنه اشتباه وتسرّع وتحكّم وعدم دقةٍ وتمحيص وإنّه قول بلا دليل شرعي صحيح.

ثانياً: إن التطبير موجب لإلحاق الضرر بالنفس:

أول سؤال يطرح نفسه: أين يكون الضرر الذي يلحقه التطبير بالنفس؟

أهو في الإدماء وخروج الدم فقط؟

أم هو في جرح الرأس المشتمل علي الإدماء؟

أمّا مجرّد خروج الدم من البدن أو إخراجه بلفظٍ أدق فلقد أوصي نبيّنا وأئمتنا (صلوات الله عليه وعليهم) بالحجامة والفصد [4] وقد فعلوه مراراً وتكراراً أمام أعين أصحابهم وذويهم وقد جاءتنا الأحاديث الشريفة عنهم (عليهم السلام) تخبرنا بالمنافع الصحية الجمّة لهذين الأمرين. وأمّا علم الطب الحديث فضلاً عن تأييده للحجامة والفصد فإنه يوصي بمسألة إخراج مقدارٍ من الدم بين المدة والأخري لأجل ضخّ دم جديد في بدن الإنسان وذلك أنّ الله سبحانه وتعالي أعطي بدن الإنسان قدرة علي توليد دمٍ جديدٍ يبعث النشاط في بدن الإنسان حين يفقد مقداراً من دمه. ولذا فإننا نري كثيراً من الناس يبادرون إلي المستشفيات العامة أو إلي بنوك الدم للتبرع بمقادير من دمائهم بحسب ما فيه الفائدة الصحية لهم ولهذه المؤسسات. ولطالما يتعرّض الإنسان في حياته لكثير من الحوادث التي قد يفقد فيها مقداراً كثيراً من دمه ولا يؤثّر ذلك عليه ولا علي قدراته إذ سرعان ما يرجع إلي حالته الأولي. ومن هنا فإنّ فقدان الجسم لمقدار من الدم لا يعدّ ضرراً بل قد يكون نفعاً وفائدة ولذا فلا يعدّ هذا الأمر بشيء خصوصاً فيما نحن فيه حيث أنّ المانعين والقائلين بحرمة التطبير حزناً وجزعاً علي الحسين (عليه السلام) يؤكّدون علي التبرع بالدم بدلاً من التطبير. وأما جرح الرأس الذي قد يذكره البعض عنواناً للضرر الذي يلحق الإنسان فأقول إنّ مثل هذا الضرر وأشدّ منه قد أجازه الفقهاء ما دام لا يؤدي إلي شلل في أحد أعضاء البدن ولا يكون سبباً لقطع تلكم الأعضاء أو فسادها ولا يفقد الإنسان قدرة من قدراته أو حاسة من حواسه ولا يصيبه بداء عضال أو مرضٍ مزمنٍ يقعده عن الحركة والعمل. إذ أجازوا ممارسة الرياضات العنيفة مثل المصارعة والملاكمة والجودو والكراتيه الكونكفو وغيرها مع ما تسببه من الآلام الشديدة والجراحات والرضوض والكسور غير البالغة بل أجازوا ما هو الأكثر من ذلك في التدريبات العسكرية لأجل تهيئة الجيوش وإعدادها للدفاع وقت الحاجة عن الدين أو الوطن أو النفس أو المصالح المهمة. ولا ننسي أيضاً المخاطر القويّة والأضرار الشديدة المحتملة لسباق الخيول والدّراجات البخارية والسيارات والزوارق السريعة والتزلّج في المناطق الخطرة مع القفز من الارتفاعات العالية إلي غير ذلك من فنون رياضات هذا العصر وجنونه.

وإننا لنستغرب أشدّ الاستغراب إذ أنّ القائلين بحرمة التطبير حزناً وجزعاً علي سيد الشهداء (عليه السلام) ومنعه يجيزون ما تقدّم من ضررٍ مذكور في الألعاب الرياضية وغيرها ويعتبرون أنفسهم في ذلك ممّن يواكبون العصر ويشجّعون الرياضة و و و... إلي غير ذلك. ولكن ما إن يصل الكلام إلي الشعائر الحسينية والتطبير علي ريحانة رسول الله (صلي الله عليه وآله) إلا كان وكان..

ومع كل هذا الكلام والتنظير فإنّ الواقع العملي يشهد بعدم ترتب أي ضررٍ علي المشتركين في مواكب التطبير الحسيني ولا أظنّ أنّ ذا وجدانٍ ينكر ذلك. ورحم الله شيخنا مرجع الطائفة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء إذ يقول في كتابه (الآيات البينات): (فلقد بلغنا من العمر ما يناهز الستين، وفي كلّ سنة تقام نصب أعيننا تلك المحاشد الدموية وما رأينا شخصاً مات بها أو تضرر ولا سمعنا به في الغابرين). وحتي لو سلّمنا رغم ما تقدّم من كلامٍ بوجود ضررٍ يلحق الإنسان نتيجة التطبير فلا يكون هذا دليلاً كافياً أو ملاكاً تاماً للتحريم والمنع، إذ متي حرّمت الشريعة كلّ عملٍ يسبّب الضرر للإنسان ابتداءاً من الخدشة الصغيرة وانتهاءاً بالموت أو القتل بأبشع صورةٍ وأوحشها وما يقع بين هذين من مراتب كثيرةٍ للضرر والإضرار بالنفس؟! فلا يخفي علي أهل الفقه والدين والعقل من أنّ الضرر بل الإضرار في الأمور الراجحة عموماً والواجبة خصوصاً في نظر الشرع أو العقل أو العرف الصحيح قد يكون واجباً بدرجةٍ لا تقبل الترك أما من جهة الشرع أو من جهة العقل، وقد يكون بدرجة ممدوحةٍ وحسنةٍ في نظر العقل والعرف الصحيح أو مستحبة ومندوبة في نظر الفقه والشريعة ولكن بشرط أن يكون مقدار الضرر مناسباً للقصد والهدف وأهميتهما ابتداءاً من الخدشة وانتهاءاً بالقتل الفظيع. بل إنّ الحقيقة أنّ الإنسان في اغلب حالاته الدينية والدنيوية أن لم يكن في جميعها في معرض إلحاق الضرر بالنفس علي اختلاف مراتبه أو ليس أفضل الأعمال أحمزها؟! أي أشدّها وأشقّها. وأنّ الثواب علي قدر المشقة. هكذا علّمنا نبينا وأئمتنا (صلي الله عليه وعليهم أجمعين).

ولذا تعلو درجات العباد بقدر ما يلقون من أذيً وعنت في سبيل الله ولعلّ الجهاد والمرابطة في سبيل الله من أوضح مصاديق إلحاق الضرر الشديد بالنفس فيكون واجباً في أحيان لا يجوز تركه ويكون مستحباً في أحيان أخري له الأولوية علي كل عملٍ آخر. وهكذا فإن السعي للوقوف بوجه الظالمين وطلب إصلاح المجتمع وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض درجاته ونشر دين الله كلّ ذلك وغيره يستلزم إلحاق الضرر الشديد بل الهلاك أي الموت في بعض المراتب والدرجات. ولا يقف الأمر عند هذا الحد فالذهاب إلي الحج والي زيارة المعصومين (عليهم السلام) مشياً علي الأقدام وتجشم المتاعب الصعبة والمعاناة الشديدة في تلكم الأسفار البعيدة ممّا حثّت وأكّدت عليه شريعة الله. ويضاف إلي ذلك ما يلقاه الإنسان من أذيً وما يلحقه من ضرر سواء في أسفار التجارة والكسب والمعاش أو في ما يلقاه من أذيً في مختلف أنواع المهن والحرف خصوصاً في زماننا هذا حيث نري أنّ الكثير من المؤسسات الصناعية والإنشائية تعطي للعاملين فيها مقداراً من المال زيادة علي أجورهم ورواتبهم بسبب ما يلقونه من ضررٍ يومي يؤثر علي أوضاعهم الصحية وقواهم البدنية بشكل مباشر إلي غير ذلك من:

أضرار استعمال الأدوية المختلفة لعلاج الأمراض،

وأضرار إجراء العمليات الجراحية،

وأضرار تلوث البيئة والعيش في المدن الملوّثة،

وأضرار كثرة المواد الكيمياوية التي أخذت تدخل في كل جزء من أجزاء طعامنا الحيواني والنباتي، وأضرار الأصوات والتلوث الصوتي علي المخ والقلب والجهاز العصبي، وأضرار التدخين واستعمال الأدوية المهدّئة، وأضرار كثرة الأكل والإكثار من الدهون والسكريات المصنوعة، وأضرار الأشعة والأمواج المختلفة الصادرة من كل أجهزة الاتصالات والطباعة والمعلومات المرئية منها وغير المرئية، وأضرار الألعاب الرياضية علي اختلاف أنواعها [5] ، وأضرار التجارب العلمية في المختبرات...... إلي غير ذلك من أنواع الأضرار التي تحيط بنا ونسعي إليها بأنفسنا ونبذل الأموال في أحيان كثيرة لاجل الوصول إليها.

وإني لأعجب أن يقول البعض بحرمة التطبير حزناً وجزعاً علي سيد الشهداء (عليه السلام) من جهة ضرره الصحي ويتمادي في ذلك ولم ينبسّ ببنت شفةٍ عن ضرر التدخين بل نجده من المدمنين علي التدخين الثقيل مع أننا وكل الناس يعلمون مدي ضرر التدخين علي الصحة وغيرها، إذ أنّ التدخين:

1- يعود بالضرر الكبير علي نفس المدخّن بما يسببه التدخين من أمراض خطيرة كما يشهد بذلك علم الطب أو ما يؤدي إلي استفحال أمراض موجودة وعدم التمكن من علاجها وقد ثبت ذلك علمياً وعملياً في حياتنا اليومية.

2- يسبب الأضرار والمشاكل الصحية لمن يجالسون المدخّن ويكونون علي مقربة منه.

3- يؤدي إلي تلوث البيئة والتي يعمّ ضررها علي الكل.

4- يكون سبباً لهدر الأموال الكثيرة وتحويلها إلي دخان وأوساخ.

5- يعود بالمنافع الكثيرة علي شركات التدخين وعلي شركات صناعة الخمور وذلك لاستعمال مصانع التدخين لكميات كبيرة جداً من الخمور في صناعة السجاير كما تشهد بذلك التقارير العلمية الصحيحة عن صناعة الدخان. علماً أنّ منافع هذه الشركات تصبّ في جيوب أعداء الإسلام.

6- حينما يشربه الكبار يقلّدهم الصغار والذي قد يفتح أمامهم أبواباً لخصال سيئة أخري.

7- قد يكون التدخين في بعض الأحيان سبباً ومقدّمة للاعتياد علي المخدّرات القاتلة للإنسانية بكل معناها والمدمّرة للشعوب والمجتمعات. ومع كل ذلك نري أنّ المانعين للتطبير حزناً وجزعاً علي سيد الشهداء (عليه السلام) لضرره الصحي إما أن يكونوا هم أنفسهم من المدّخنين بل من المتأنّقين في اختيار أفضل أنواع السجاير وتبوغ الغليون (pipe) المعطّرة والمنقوعة في الكحول، أو من القائلين بإباحته وجوازه. فأين الإنصاف يا تري؟

التدخين بكلّ ضرره القطعي هذا لا يعارضه أحد وحتي لو عارضوه فإنّ تلك المعارضة لا تشكّل نسبة 1% مما أبدوه ويبدونه في معارضتهم للتطبير حزناً وجزعاً علي الحسين المظلوم (عليه السلام)!

ولكن ماذا نقول؟



ومن عجب الدنيا حكيم مصفر

وأعمـــش كحّال وأعمي منجّم



ومخلص القول فإنّ الضرر الممنوع والمحرّم في الشريعة الإسلامية هو:

أولاً ـ الضرر الذي ليس له من قصدٍ ولا هدف ولا غايةٍ سوي الإضرار بالنفس فحسب كالقاصد للانتحار أو لقطع عضو من أعضائه من دون منفعة أو دفع مفسدة إلي غير ذلك.

ثانياً ـ الضرر الذي لا هدف له وإنما يكون اعتباطاً وسرفاً وبطراً.

ثالثاً ـ الضرر الزائد علي النسبة المطلوبة من الضرر في بعض الأمور الراجحة التي تستلزم مقداراً من الضرر فيسبّب الإنسان لنفسه أكثر من الضرر الذي لابدّ منه مع قصد العمد في زيادة الضرر أو مع عدم الاحتياط والتحرز بعد أن كان الإنسان عالماً بحصول الضرر الزائد أو باحتمال حصوله [6] .

والتطبير حزناً وجزعاً علي أبي عبد الله (عليه السلام) مع أنّه لا ضرر فيه يعتدّ به وهذا ثابت بشكل عمليّ وقطعي يعرفه كل الشيعة وأرباب المواكب والعزاء الحسيني. ومع ذلك فحتي لو افترضنا وجود الضرر فيه فإنّه لا يندرج بأي وجه من الوجوه تحت أي واحدٍ من هذه الأنواع الثلاثة المحرّمة. ولا يوجد نوع رابع من الإضرار أو الضرر المحرّم.

ولا أواصل الحديث أكثر من هذا إلا أنني أذكر دعاء الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يناجي ربّه سبحانه وتعالي في سجوده حيث يدعو لتلك الوجوه التي تضررت بحرارة الشمس لأجل حسين العقيدة والمبادئ (صلوات الله عليه) يقول:

(فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس) [7] .

ثالثاً: إنّ التطبير حزناً وجزعاً علي سيد الشهداء (عليه سلام) يكون سبباً لتوهين المذهب!!!.

وقد عللّ المانعون والقائلون بحرمة التطبير حزناً وجزعاً علي الحسين (عليه السلام) أنّ السبب الرئيس في التحريم هو ما يسبّبه التطبير الحسينيّ من توهين للمذهب وذلك:

1- أنّ التطبير خرافة.

2- أنّه ظاهرة متخلّفة وهمجية تكون سبباً لأن يستهزئ بنا الآخرون.

أما كون التطبير خرافة:

فما هو معني الخرافة؟ [8] .

كلّ ما هو غير حقيقي يمكننا أن نصفه بالخرافة فلو اعتقدنا بوجود شيءٍ لا وجود له حقيقة فهو اعتقاد خرافي ولو تحدّثنا عن شيء لا وجود له حقيقة وأخبرنا عنه أنواعاً من الأخبار ووصفناه بشتي الأوصاف فذلك حديث خرافي. أمّا أين يقع التطبير حزناً وجزعاً علي الحسين (عليه السلام) من ذلك؟ فالقضية التي بين أيدينا مركّبة من ثلاثة أشياء:

مصاب الحسين (عليه السلام)، والحزن والجزع عليه بحسب ما أمرت وأوصت به النصوص الشريفة، والتطبير الذي هو مظهر أو تعبير عمليّ عن ذلك الحزن والجزع المقدّسين. والثلاثة هذه كلها حقيقة موجودة في الواقع الخارجي فأين الخرافة التي لا وجود لها بيننا؟!

اللهم إلاّ أن يقول القائل بأنّ الخرافة هي أن نعتقد بأنّ التطبير جزء من الدين ولاقائل بذلك أبداً إنما التطبير كما يعرفه الخاص والعام وسيلة تعبيرية عن الحزن والجزع اللذين أمرت بهما شريعة الله ودينه علي لسان أوليائه وحججه صلوات الله عليهم أجمعين.

فما معني وصف التطبير حزناً وجزعاً علي الحسين (عليه السلام) بالخرافة إذن؟!

أليس الأولي أن نصف مثل هذه الكلام بالخرافة؟

لأنه تحدّث عن معنيً وحكم عليه بشيء لا وجود له أصلاً وليس فيه أبداً. والحقيقة أنّ هذا الكلام هو الخرافة بعينها.

ومع ذلك أعود فأقول: إنّ أحسن المحامل هو أن نصف هذه الأقوال بالتسرّع وعدم الدقة والتمحيص.

هذا بالنسبة للخرافة. أمّا كون التطبير الحسيني ظاهرة تخلّف وهمجيةٍ تكون سبباً للاستهزاء والسخرية بنا وبمذهبنا من قبل الآخرين فهذا ما سيكون الكلام عنه الآن.

أمّا أوّلاً - ما هي الهمجية أو التخلف الذي يفعله أهل مواكب التطبير؟

هل يعتدون علي أحدٍ من الناس بشتمٍ أو ضربٍ أو جرح؟

هل قتلوا أحداً من الجماهير التي تجتمع لمشاركتهم العزاء أو أرعبوا أحداً وأخافوه واستلبوا أمنه؟

هل عذّبوا أحداً بصنوف العذاب كما يفعل من يفعل مع ادّعاءات عريضة كبيرة؟ هل أخربوا داراً أو صادروا مالاً أو غصبوا حقاً؟

هل فعلوا فساداً أو فاحشةً حينما يلبسون أكفانهم البيضاء وترتفع أصواتهم: ياحسين.. ياحسين؟

هل خرجوا إلي الشوارع يثيرون الشهوات والمفاسد والمنكرات؟

وهل.. وهل.. وهل..

فأين هي الهمجية ياتري؟

أناس يعبّرون عن حزنهم علي إمامهم المظلوم ويناجونه من كل قلوبهم مخاطبين له:

(حتي نكّسوك عن جوادك، فهويت إلي الأرض جريحاً، تطؤك الخيول بحوافرها، وتعلوك الطغاة ببواترها، قد رشح للموت جبينك، اختلفت بالانقباض والانبساط شمالك ويمينك، تدير طرفاً خفياً إلي رحلك وبيتك، وقد شغلت بنفسك عن ولدك وأهاليك، وأسرع فرسك شارداً إلي خيامك قاصداً محمحماً باكياً) [9] .

وأمّا ثانياً ـ فمن هم الذين يستهزؤن بنا؟ وما قدرهم؟ وما قيمة استهزائهم؟ ثم ما هو الجديد في الأمر؟ إذ أنّ أعداء الله مذ كانوا فهم يسخرون من ديننا، وعقيدتنا، وفقهنا، وأحكامنا، وعباداتنا، ومناسكنا، وآدابنا، وأعرافنا، وتأريخنا، ولا يقّرون بأي جميلٍ لنا. وهذا قرآننا يصدع في أسماعنا بأنّ كلّ الرسل والأنبياء السابقين (عليه السلام) كانوا معرض استهزاء وسخريةٍ من قبل أعدائهم وأقوامهم فما كان منهم إلاّ الثبات والإصرار وما كانوا يعبئون بكل ذلك ما داموا علي الحقّ والهدي وكذاك نبيّنا الأعظم وأئمتنا الأطهار صلوات الله عليه وعليهم لقوا ما لقوا في هذا السبيل مّما هو أشدّ وأعظم من الذي لقيه الأنبياء والأوصياء السابقون (عليهم السلام) أو ليس المصطفي (صلي الله عليه وآله) هو الذي يقول: (ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت) ولذا فإني لا أردّ بشيءٍ علي المتحججين باستهزاء وسخرية الآخرين وانّما أستنير بكتاب الله في ردّهم ومناقشتهم:

1- (زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا، والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة).[سورة البقرة: الآية 212].

2- (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين. وإذا ناديتم إلي الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).[سورة المائدة: الآيتان 57 و 58].

3- (فقد كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون).[سورة الإنعام: الآية 5].

4- (ولقد استهزئ برسلٍ من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون).[سورة الإنعام: الآية 10].

5- (ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلي أمّة معدودة ليقولنّ ما يحبسه، ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون).[سورة هود: الآية 8].

6- (ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه، قال إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون).[سورة هود: الآية 38].

7- (ولقد استهزئ برسلٍ من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب).[سورة الرعد: الآية 32].

8- (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسولٍ إلاّ كانوا به يستهزءون).[سورة الحجر: الآيتان10 و 11].

9- (فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون).[سورة النحل: الآية 34].

10- (وما نرسل المرسلين إلاّ مبشّرين ومنذرين، ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحقّ، واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا).[سورة الكهف: الآية 56].

11- (ذلك جزاؤهم جهنّم بما كفروا واتّخذوا آياتي ورسلي هزوا).[سورة الكهف: الآية 106].

12- (وإذا رآك الذين كفروا إن يتّخذونك إلاّ هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون).[سورة الأنبياء: الآية 36].

13- (ولقد استهزئ برسلٍ من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون).[سورة الأنبياء: الآية 41].

14- (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا آمنّا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين. فاتّخذتموهم سخريّاً حتي أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون. إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا أنّهم هم الفائزون).[سورة المؤمنون: الآيات 109 و 110 و 111].

15- (وإذا رأوك إن يتّخذونك إلاّ هزواً أهذا الذي بعث الله رسولا).[سورة الفرقان: الآية 41].

16- (وما يأتيهم من ذكرٍ من الرحمن محدث إلاّ كانوا عنه معرضين. فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون).[سورة الشعراء: الآيتان 5 و6].

17- (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوأي أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون).[سورة الروم: الآية 10].

18- (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، أولئك لهم عذاب مهين).[سورة لقمان: الآية 6].

19- (يا حسرةً علي العباد ما يأتيهم من رسولٍ إلاّ كانوا به يستهزءون).[سورة يس: الآية 30].

20- (بل عجبت ويسخرون. وإذا ذكّروا لا يذكرون. وإذا رأوا آية يستسخرون).[سورة الصّافّات: الآيات 12 و 13 و 14].

21- (وقالوا مالنا لانري رجالاً كنّا نعدّهم من الأشرار. أتّخذناهم سخريّاً أم زاغت عنهم الأبصار).[سورة ص: الآيتان 62 و 63].

22- (وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون).[سورة الزمر:الآية 48].

23- (واتّبعوا أحسن ما انزل إليكم من ربّكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وانتم لا تشعرون. أن تقول نفس يا حسرتي علي ما فرّطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين).[سورة الزمر:الآيتان 55 و 56].

24- (فلمّا جاءتهم رسلهم بالبيّنات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون).[سورة غافر: الآية 83].

25- (وكم أرسلنا من نبيّ في الأوّلين. وما يأتيهم من نبيّ إلاّ كانوا به يستهزءون).[سورة الزخرف: الآيتان 6 و 7].

26- (ولقد أرسلنا موسي بآياتنا إلي فرعون وملإه فقال إني رسول ربّ العالمين. فلمّا جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون).[سورة الزخرف: الآيتان 46 و 47].

27- (وإذا علم من آياتنا شيئاً اتّخذها هزواً، أولئك لهم عذاب مهين).[سورة الجاثية: الآية 9].

28- (وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون).[سورة الجاثية: الآية 33].

29- (ذلكم بأنّكم اتّخذتم آيات الله هزواً وغرّتكم الحياة الدنيا، فاليوم لا يخرجون منها ولاهم يستعتبون).[سورة الجاثية: الآية 35].

30- (إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون).[سورة الأحقاف: الآية 26].

31- (أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون).[سورة النجم: الآيتان 59 و 60].

32- وختام ما نذكره من كلام الله سبحانه وتعالي هو آيتان من سورة المطفّفين:

أُولاهما: (إنّ الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون).[سورة المطففين: الآية 29].

وأُخرهما فيها حديث العاقبة حين تقوم الساعة:

(فاليوم الذين آمنوا من الكفّار يضحكون).[سورة المطففين: الآية 34].

وبعد ذكر هذا الحشد المتظافر المبارك من الآيات القرآنية الكريمة، وقبل كلّ شيء لابدّ أن أنّبه إلي أنني لا أريد الاستدلال بهذه الآيات المباركة بخصوص مسألة التطبير بنحو خاص وإنّما كان الغرض من ذكرها:

أولاً - تذكرةً وتنبيهاً إلي أنّ الاستهزاء والسخرية من الأمور التي واجهت كلّ أنبياء الله ورسله وأوصيائهم (عليهم السلام) وكذلك أتباعهم فيما مضي من الزمان وفيما حضر وفيما يأتي.

ثانيا- نلاحظ أنّ القرآن الكريم قد حدّثنا وأخبرنا في آياته السابقة الذكر بأنّ الاستهزاء والسخرية قد طال خاتم الأنبياء (صلي الله عليه وآله) ومن سبقه من الرسل (عليهم السلام) وكان موجّهاً ومصبوباً علي الذين آمنوا وعلي دينهم وعلي صلاتهم وعلي قرآنهم وعلي آيات الله وأمر الله وجنب الله وعلي كلّ ما يمتّ للدين والعقيدة والعبادة والأحكام الشرعية بصلة من قريب أو من بعيد.

ثالثاً- بيّن لنا كتاب الله العزيز ما هو الموقف الشرعي الذي يريده الله سبحانه وتعالي منّا إزاء هذه السخرية وهذا الاستهزاء؟ وذلك في مواضع من الكتاب الكريم:

1- (وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتي يخوضوا في حديثٍ غيره، إنّكم إذاً مثلهم، إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً).[سورة النساء: الآية 140].

2- (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين).[سورة المائدة: الآية 57].

3- (ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذيً كثيراً، وان تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور).[سورة آل عمران: الآية 186].

4- (وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).[سورة الفرقان: الآية 63].

5- (ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه، قال إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون).[سورة هود: الآية 38].

فنري أنّ قراننا العزيز ينهانا عن الحضور في مجالس المستهزئين ويأمرنا بألاّ نتخذهم أولياء ونلقي إليهم بالمودة ويوصينا بالصبر والثبات في مواجهة أذاهم وسخريتهم واستهزائهم. بل يحدثنا عن حالة من السمو النفسي في وصفه لعباد الرحمن بأنهم لا يعبئون بهم علي أية حال ولا يرون لهم ولا لاستهزائهم من قيمة أبداً: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). وفي آية أخري يرسم لنا كتابنا العزيز أسوة حسنة في قصة نوح (عليه السلام): (قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون).

فهذا كتاب الله وهذه آياته التي لا نجد فيها موضعاً يعطي للإنسان المؤمن عذراً أو مجالاً أن يلغي بسبب الاستهزاء والسخرية من قبل الآخرين ما هو شيء صحيح في نفسه وان يحرّم ما هو جائز بل راجح في الشريعة المقدّسة. ولإشباع المبحث وتوضيح الصورة فإني سأورد بعضاً من الأحاديث الشريفة التي تتحدث عن القضية الحسينية بنحوٍ خاص وتتناول مسألة الاستهزاء والسخرية، وما يجب أن يكون عليه الشيعي في مواجهة ذلك:

1- عن النبي (صلي الله عليه وآله) مخاطباً أمير المؤمنين علياً عليه أفضل الصلاة والسلام: (فابشر وبشّر أولياءك ومحبيك من النعيم وقرة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم بزيارتكم كما تعير الزانية بزناها، أولئك شرار أمتي لا أنالهم الله بشفاعتي ولا يردون حوضي) [10] .

2- (عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما ألقي من قومي ومن بنيّ إذا أنا أخبرتهم بما في إتيان قبر الحسين (عليه السلام) من الخير إنّهم يكذّبوني ويقولون: إنّك تكذب علي جعفر بن محمد! قال: ياذريح دع الناس يذهبون حيث شاؤوا، والله إنّ الله ليباهي بزائر الحسين بن علي، والوافد يفده الملائكة المقرّبين وحملة عرشه......) [11] .

3_ من دعاء الإمام الصادق (عليه السلام) في سجوده لزوار جدّه الحسين صلوات الله عليه: (اللهم يا من خصّنا بالكرامة.... اغفر لي ولأخواني وزوار قبر أبي الحسين الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم رغبةً في برّنا، ورجاء لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه علي نبيك، وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه علي عدوّنا، أرادوا بذلك رضاك.... اللهم إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم علي من خالفنا....) [12] .

4- عن الإمام الصادق (عليه السلام): (الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهذؤنهم ويقبّحون ما يصنعون) [13] .

يهذؤنهم: يؤذونهم ويسمعونهم ما يكرهون.

5- من حديث قدامة بن زائدة، عن أبيه قال: (قال علي بن الحسين (عليهما السلام): بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أحياناً؟ فقلت: إنّ ذلك لكما بلغك، فقال لي: فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً علي محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب علي هذه الأمة من حقنا؟ فقلت: والله ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله، ولا أحفل [14] بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه، فقال: والله إنّ ذلك لكذلك؟ فقلت: والله إنّ ذلك لكذلك، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً فقال: أبشر ثم أبشر ثم أبشر....) [15] .

أما وقد ذكرنا هذه الكلمات القدسية الشريفة فلا بدّ أن أقول: إنّ اللسان المطابقي بوجهٍ إجمالي لهذه الروايات والأحاديث التي ذكرت هو زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) وما يلقاه أولياء أهل البيت (عليهم السلام) من استهزاء وسخرية بسببها؛ لذلك فإني لا أريد الاستدلال بها أو الاستفادة منها في الذي نحن فيه من حاقّ هذه الجهة بما هي وإنما يكون تقرير الكلام وتقرير الاستدلال ووجه الاستفادة هكذا:

أولاً- إنّ الناظر في كلّ الروايات والأحاديث التي وردت بخصوص القضية الحسينية ومن جميع الجهات يقطع قطعاً حقيقياً تاماً من أنّ النبي الأعظم والزهراء البتول والأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم جميعا)ً لا يرومون إلاّ إحياء الأمر الحسيني والفكر الحسيني والموقف الحسيني وبعبارة أشمل القضية الحسينية بكلّ أبعادها والزيارة أحد أهم مصاديق إحياء القضية الحسينية وابقاء شعلتها متوهجة في النفوس والأرواح والعقول والقلوب لذا فإنّ الموقف الشرعي من سخرية الآخرين واستهزائهم بسببها هو عينه الموقف الشرعي من السخرية والاستهزاء بأي مصداق آخر من مصاديق إحياء الذكر الحسيني والقضية الحسينية. والتطبير حزناً وجزعاً علي سيد الشهداء (عليه السلام) هو أحد هذه المصاديق التي تذكّرنا بالواقعة الدموية بما فيها من طهارة التضحية والإباء ونجاسة الخبث والحقارة ولؤم النفاق والكفر وعلي هذا فلا بدّ أن يكون الموقف الشرعي من الاستهزاء والسخرية من التطبير حزناً وجزعاً علي الحسين (عليه السلام) هو نفس الموقف الذي ذكرته هذه الروايات الشريفة وهو واضح لا غبار عليه ولا يخفي علي ذي عينين.

ثانياً- لابدّ من الالتفات إلي أن الأحاديث المذكورة وإن ركّزت بشكل واضح علي الزيارة الحسينية ألاّ أنها لم تغفل ذكر إحياء الأمر الحسيني والقضية الحسينية بنحو عام أي بكلّ مصاديق إحيائها. وإنّ في الرواية الخامسة التي تقدّم ذكر بعضها في المتن وذكر تمامها في الحاشية ما يشهد علي ذلك حيث يحدّث إمامنا السجاد (عليه السلام) صاحبه زائدة عن قول عمته العقلية سلام الله عليها: (فو الله إنّ ذلك لعهد من رسول الله (صلي الله عليه وآله) إلي جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناسٍ من هذه الأمّة.... ينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه علي كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره إلاّ علوّا) [16] .

زُبدة القول:

إنّ ما استند إليه المانعون والقائلون بالتحريم للتطبير حزناً وجزعاً علي الحسين (عليه السلام) في كلّ ما قالوه وأفتوا به هو هذه الأمور الثلاثة: (كون التطبير بدعة، وأنه يلحق الضرر بالإنسان، ويكون سببا لتوهين المذهب)، ولا رابع لها. وقد رأيت أيها المنصف أنّها لا تثبت للمناقشة، لوهنها وضعفها ومخالفتها لقول الحقّ لذا فهي لا يمكن أن تكون أساساً أو مستنداً أو ملاكاً تامّاً لصدور فتوي شرعيةٍ صحيحة بأي وجهٍ من الوجوه وعلي هذا فإنّ ما توهّموه دليلاً ما هو إلاّ جُزاف من القول لا قيمة له في سوق العلم والتحقيق! (قل كلّ يعمل علي شاكلته، فربّكم أعلم بمن هو أهدي سبيلا) [17] .


پاورقي

[1] مصباح الزائر للسيد ابن طاووس (ره) ص 270 من زيارة عاشوراء المروية عن الإمام الباقر (عليه السلام).

[2] بل ستري فيما سيأتي في مطاوي هذا البحث نصوصاً من الکتاب والسنة تدل علي رجحان التطبير حزناً وجزعاً علي سيد الشهداء (عليه السلام).

[3] الأصول الأصلية والقواعد الشرعية للسيد عبد الله شبر (ره) ص 215 نقلاً عن کتاب الکافي والرواية منقولة عن الإمام الصادق (عليه السلام).

[4] ومن موارد الإدماء الأخري التي أوصت بها الشريعة السمحاء: الاختتان فهو مستحب لغير البالغ، وواجب علي من بلغ، وکذلک ثقب إذن الصبي فهو مستحب وممدوح في کلمات المعصومين عليهم السلام، وجواز ثقب منخر الأنف للمرأة لأجل تعليق الخزامة، وغير ذلک من المورد الأخري.

[5] أعني الأضرار التي قد يصاب بها اللاعبون أثناء التدريبات وکذلک أثناء اللعب والمسابقات مضافاً إلي ذلک أضرار العنف التي تقع بين جمهور المشاهدين ولعل مونديال باريس 1998 من أوضح شواهد العنف بين جمهور المشاهدين والمتابعين عن بعدٍ أيضاً.

[6] قد يعرّض الإنسان نفسه لضررٍ أکثر من الضرر اللازم لعمل ما ولا إشکال في ذلک بل قد يکون عمله هذا في أعلي الدرجات وأفضلها بسبب شرف قصده وعلوّ غايته وهدفه حيث نسمع ونقرأ في تاريخ مقتل سيد الشهداء (عليه السلام) وصحبه الأبرار الأطهار حين خرج من معسکر ابن زياد لعنة الله عليه يسار مولي زياد وسالم مولي عبيد الله بن زياد لعنة الله عليهم جميعاً فطلبا البراز فخرج إليهما عبد الله بن عمير الکلبي رضوان الله تعالي عليه فشدّ علي يسار بسيفه يضربه (وبينا هو مشتغل به إذ شدّ عليه سالم فصاح أصحابه: قد رهقک العبد فلم يعبأ به فضربه سالم بالسيف فاتّقاها عبد الله بيده اليسري فأطار أصابعه ومال عليه عبد الله فقتله)، مقتل الحسين (عليه السلام) أو حديث کربلاء للسيد عبد الرزاق المقرم (ره) ص 238. وکذاک موقف عابس بن شبيب الشاکري رضوان الله تعالي عليه الذي أجنّه حب الحسين (عليه السلام) فهو أشهر من نارٍ علي علم.

[7] کامل الزيارات ص 126 ب 40 ح 2 طبعة طهران، مکتبة الصدوق.

[8] خرافة في أصلها اسم رجل استهوته الجن فکان يحدّث بما رأي فکذّبوه فقالوا: (حديث خرافةٍ يا أمّ عمرو) مجمع البحرين ج 5 ص 43 و 44 مادة خرف. وفي فرائد الأدب من المنجد في اللغة ص 979: خرافة رجل زعموا أن الجن استهوته مدة. ثم لما رجع إلي قومه أخبرهم بما رأي فکذّبوه حتي صاروا يقولون لما لا يمکن وقوعه: (حديث خرافة). ونفس هذا المعني جاء مذکوراً في کل کتب اللغة وقواميسها وکتب الأمثال والأخبار.

[9] بحار الأنوار ج 101 ب 24 ص 322 ح 8 زيارة الناحية المقدّسة.

[10] الوسائل ج1 ص 298 ب 26 ح 1، وجواهر الکلام ج 7 ص 289 من کتاب الحج طبعة بيروت (القطع الکبير)، مؤسسة المرتضي العالمية ودار المؤرّخ العربي، والتهذيب ج 2 ص 7.

وإليک الحديث بتمامه مثلما جاء في کتاب وسائل الشيعة:

(عن أبي عامر واعظ أهل الحجاز قال: أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت له: ما لمن زار قبره يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمّر تربته؟ فقال: يا أبا عمّار حدّثني أبي عن أبيه، عن جدّه الحسين بن علي (عليه السلام) إنّ النّبي (صلي الله عليه وآله) قال له: والله لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها، قلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ قال لي: يا أبا الحسن إن الله قد جعل قبرک وقبر ولدک بقاعاً من بقاع الجنّة وعرصةً من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليکم، وتحتمل الأذي والمذلّة فيکم فيعمرون قبورکم، ويکثرون زيارتها تقرّباً منهم إلي الله، ومودّة منهم لرسوله، أولئک يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنّة، يا علي من عمّر قبورکم وتعاهدها فکأنّما أعان سليمان بن داود علي بناء بيت المقدّس، ومن زار قبورکم عدل ذلک له ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتّي يرجع من زيارتکم کيوم ولدته أمه فابشر وبشر أولياءک ومحبّيک من النعيم وقرة العين بما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر، ولکن حثالة من الناس يعيّرون زوار قبورکم بزيارتکم کما تعيّر الزانية بزناها أولئک شرار أمّتي لا أنالهم الله بشفاعتي ولا يردون حوضي).

[11] کامل الزيارات ب 56 ص 155 ح 5، وبحار الأنوار ج 101 ب 10 ص 75 ح 26. واليک الحديث بتمامه کما ذکره ابن قولويه (ره) في کامل الزيارات:

عن ذريح المحاربيّ (قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما ألقي من قومي ومن بني إذا أنا أخبرتهم بما في إتيان قبر الحسين (عليه السلام) من الخير إنهم يکذّبوني ويقولون: إنک تکذب علي جعفر بن محمّد! قال: يا ذريح دع الناس يذهبون حيث شاؤوا، والله إنّ الله ليباهي بزائر الحسين بن عليّ، والوافد يفده الملائکة المقرّبين وحملة عرشه حتي أنه ليقول لهم: أما ترون زوّار قبر الحسين أتوه شوقاً إليه والي فاطمة بنت رسول الله محمّد، أما وعزّتي وجلالي وعظمتي لأوجبنّ لهم کرامتي، ولأدخلنّهم جنّتي الّتي أعددتها لأوليائي ولأنبيائي ورسلي، يا ملائکتي! هؤلاء زوار قبر الحسين حبيب محمّد رسولي، ومحمّد حبيبي، ومن أحبّني أحبّ حبيبي، ومن أحبّ حبيبي أحبّ من يحبّه، ومن أبغض حبيبي أبغضني ومن أبغضني کان حقّاً عليّ أن أعذّبه بأشدّ عذابي وأحرقه بحرّ ناري، وأجعل جهنّم مسکنه ومأواه، وأعذّبه عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين).

[12] کامل الزيارات ب 40 ص 125 ح 1، ووسائل الشيعة ج 10 ب 37 ص 320 ح 7، وبحار الأنوار ج 101 ب 1 ص 8 ح 30، ورواه الشيخ الکليني (ره) في الکافي کتاب المزار، والصدوق (ره) في ثواب الأعمال، وغيرهم. وإليک الحديث بتمامه وکماله مثلما جاء في وسائل الشيعة لشيخنا الحر العاملي (ره): (عن معاوية بن وهب، قال: استأذنت علي أبي عبد الله (عليه السلام) فقيل لي: ادخل فدخلت فوجدته في مصلاه، فجلست حتّي قضي صلاته فسمعته وهو يناجي ربّه وهو يقول: (يا من خصّنا بالکرامة، وخصّنا بالوصيّة ووعدنا الشفاعة، وأعطانا علم ما مضي وما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولأخواني ولزوّار قبر أبي الحسين صلوات الله عليه الذين انفقوا أموالهم، واشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا ورجاء لما عندک في صلتنا، وسروراً ادخلوه علي نبيّک صلواتک عليه وآله، وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه علي عدوّنا أرادوا بذلک رضاک، فکافهم عنّا بالرضوان واکلأهم باللّيل والنهار، وأخلف علي أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واکفهم شرّ کلّ جبّار عنيد، وکلّ ضعيف من خلقک أو شديد، وشرّ شياطين الجنّ والإنس، وأعطهم أفضل ما أمّلوا منک في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به علي أبنائهم (وأبدانهم) وأهاليهم وقراباتهم، اللهمّ إنّ أعدائنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلک عن الشخوص إلينا، وخلافاً منهم علي من خلافنا، فارحم تلک الوجوه التي قد غيّرتها الشمس، وارحم تلک الخدود التي تقلّبت علي حفرة أبي عبد الله (عليه السلام)، وارحم تلک الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلک القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي کانت لنا، اللهمّ إني أستودعک تلک الأنفس، وتلک الأبدان حتّي توافيهم علي الحوض يوم العطش.

فما زال وهو ساجد يدعو الله بهذا الدعاء فلمّا انصرف قلت: جعلت فداک لو أنّ هذا الذي سمعت منک کان لمن لا يعرف الله لظننت أنّ النار لا تطعم منه شيئاً، والله لقد تمنيّت أني کنت زرته ولم أحجّ، فقال لي: ما أقربک منه، فما الذي يمنعک من زيارته، ثمّ قال: يا معاوية لم تدع ذلک، قلت: لم أدر أنّ الأمر يبلغ هذا کلّه قال: يا معاوية من يدعو لزواره في السّماء أکثر ممن يدعو لهم في الأرض يا معاوية لا تدعه، فمن ترکه رأي من الحسرة ما يتمّني أن قبره کان عنده، أما تحبّ أن يري الله شخصک وسوادک فيمن يدعو له رسول الله رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعليّ وفاطمة والأئمة (عليهم السلام)، أما تحبّ أن تکون غداً ممّن ينقلب بالمغفرة لما مضي ويغفر له ذنوب سبعين سنة، أما تحبّ أن تکون غداً ممن تصافحه الملائکة، أما تحبّ أن تکون غداً فيمن يخرج وليس له ذنب فيتبع به، أما تحبّ أن تکون غداً ممّن يصافح رسول الله (صلي الله عليه وآله).

[13] کامل الزيارات ب 108 ص 339 ح 1، وبحار الأنوار ج 101 ب 10 ص 73 ح 21. والذي في البحار بدلاً من (يهذؤنهم) يهدرونهم أي يستبيحون دماءهم وفي بعض النسخ يهذون بهم أي يسخرون بهم ويؤذونهم بالرديّ من القول. واليک الحديث بتمامه وکماله کما جاء مروياً في کامل الزيارات: (عن عبد الله بن حمّاد البصريّ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: إنّ عندکم أو قال: في قربکم لفضيلة ما اُتي أحد مثلها، وما أحسبکم تعرفونها کنه معرفتها، ولا تحافظون عليها ولا علي القيام بها، وإنّ لها لأهلاً خاصّة قد سّموا لها، وأُعطوها بلا حول منهم ولا قوة إلاّ ما کان من صنع الله لهم وسعادة حباهم الله بها و رحمة ورأفة وتقدّم.

قلت: جعلت فداک وما هذا الّذي وصفت لنا ولم تُسمه؟ قال زيارة جدّي الحسين بن عليّ (عليهما السلام) فإنّه غريب بأرض غربة، يبکيه من زاره، ويحزن له من لم يزره، ويحرق له من لم يشهده، ويرحمه من نظر إلي قبر ابنه عند رجله في أرض فلاة، لا حميم قربه ولا قريب، ثمّ منع الحقّ وتوازر عليه أهل الرّدة حتي قتلوه وضيّعوه وعرضوه للسباع، ومنعوه شرب ماء الفرات الّذي يشربه الکلاب، وضيّعوا حقّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) ووصيّته به وبأهل بيته، فأمسي مجفوّاً في حفرته، صريعاً بين قرابته، وشيعته بين أطباق التراب، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه، والمنزل الّذي لا يأتيه إلا من امتحن الله قلبه للإيمان وعرّفه حقّنا.

فقلت له: جعلت فداک قد کنت آتيه حتّي بليت بالسلطان وفي حفظ أموالهم وأنا عندهم مشهور فترکت للتقية إتيانه وأنا أعرف ما في إتيانه من الخير، فقال: هل تدري ما فضل من أتاه وما له من جزيل الخير؟ فقلت: لا فقال: أمّا الفضل فيباهيه ملائکة السماء، وأمّا ما له عندنا فالتّرحم عليه کل صباح ومساء.

ولقد حدّثني أبي أنه لم يخل مکانه منذ قتل من مصلّ يصلّي عليه من الملائکة، أو من الجنّ أو الإنس، أو من الوحوش، وما من شيء إلاّ وهو يغبط زائره ويتمسّح به ويرجوه في النّظر إليه الخير لنظره إلي قبره (عليه السلام)، ثمّ قال: بلغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الکوفة وأُناساً من غيرهم ونساء يندبنه، وذلک في النصف من شعبان، فمن بين قارئٍ يقرء، وقاصّ يقصّ ونادب يندب، وقائل يقول المراثي.

فقلت: نعم جعلت فداک قد شهدت بعض ما تصف، فقال: الحمد لله الّذي جعل في النّاس من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهذؤنهم ويقبّحون ما يصنعون).

[14] لا أحفل: لا أهتمّ ولا أعبأ مطلقاً.

[15] کامل الزيارات ب 88 ص 273. والحديث مفصّل وفي غاية الأهمية فدونکه مثلما جاء في مصدره المذکور:

(عن نوح بن درّاج قال: حدّثني قدامة بن زائدة، عن أبيه: (قال عليّ بن الحسين (عليهما السلام): بلغني يازائدة أنّک تزور قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أحياناً؟ فقلت: إنّ ذلک لکما بلغک، فقال لي: فلماذا تفعل ذلک ولک مکان عند سلطانک الّذي لا يحتمل أحداً علي محبّتنا وتفضيلنا وذکر فضائلنا والواجب علي هذه الأمة من حقّنا؟ فقلت: والله ما أريد بذلک إلاّ الله ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يکبر في صدري مکروه يناليني بسببه، فقال: والله إنّ ذلک لکذلک؟ فقلت: والله إنّ ذلک لکذلک؟ فقلت: والله إنّ ذلک لکذلک، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً، فقال: أبشر ثمّ أبشر ثمّ أبشر فلأخبرنک بخبر کان عندي في النخب المخزونة، فإنّه لمّا أصابنا بالطّفّ ما أصابنا وقتل أبي (عليه السلام) وقتل من کان معه من ولده وأخوته وسائر أهله وحملت حرمه ونساؤه علي الأقتاب يراد بنا الکوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعي ولم يواروا فعظم ذلک في صدري وأشتدّ لما أري منهم قلقي، فکادت نفسي تخرج وتبيّنت ذلک منّي عمّتي زينب الکبري بنت علي (عليهما السلام) فقالت: ما لي أراک تجود بنفسک يا بقيّة جدّي وأبي وأخوتي؟!! فقلت: وکيف لا أجزع وأهلع وقد أري سيّدي وأخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرعين بدمائهم، مرمّلين بالعري، مسلّبين، لا يکفّنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشرّ، کأنهم أهل بيت من الدّيلم والخزر؟!! فقالت: لا يجز عنّک ما تري، فو الله إن ذلک لعهد من رسول الله (صلي الله عليه وآله) إلي جدّک وأبيک وعمّک، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمّة وهم معروفون في أهل السّماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطّف علماً لقبر أبيک سيّد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه علي کرور الليالي والأيّام، وليجتهدّن أئمة الکفر وأشياع الضّلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلاّ علوّاً، فقلت: وما هذا العهد وما هذا الخبر؟! فقالت: نعم، حدّثني أمّ أيمن أنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) زار منزل فاطمة (عليها السلام) في يوم من الأيّام فعملت له حريرة، وأتاه عليّ (عليه السلام) بطبق فيه تمر، ثمّ قالت أمّ أيمن: فأتيتهم بعسّ فيه لبن وزبد، فأکل رسول الله (صلي الله عليه وآله) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) من تلک الحريرة، وشرب رسول الله (صلي الله عليه وآله) وشربوا من ذلک اللبن، ثم أکل وأکلوا من ذلک التّمر والزبد، ثم غسل رسول الله (صلي الله عليه وآله) يده وعليّ يصبّ عليه الماء، فلمّا فرغ من غسل يده مسح وجهه، ثم نظر إلي عليّ وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه ثمّ رمق بطرفه نحو السّماء مليّا،ً ثم أنه وجّه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلي الأرض ودموعه تقطر کأنّها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعليّ والحسن والحسين (عليهم السلام) وحزنت معهم لما رأينا من رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهبناه أن نسأله حتي إذا طال ذلک قال له عليّ، وقالت له فاطمة: ما يبکيک يا رسول الله لا أبکي الله عينيک فقد أقرح قلوبنا ما نري من حالک؟! فقال: يا أخي سررت بکم.. وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هاهنا: فقال: يا حبيبي إنّي سررت بکم سروراً ما سررت مثله قط وإني لأنظر إليکم وأحمد الله علي نعمته عليّ فيکم إذ هبط عليّ جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمّد إنّ الله تبارک وتعالي اطّلع علي ما في نفسک وعرف سرورک بأخيک وابنتک وسبطيک فأکمل لک النعمة وهنّأک العطيّة بأن جعلهم وذريّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معک في الجنّة لا يفرّق بينک وبينهم يحبون کما تحبي ويعطون کما تعطي حتي ترضي وفوق الرّضا علي بلوي کثيرة تنالهم في الدّنيا ومکاره تصيبهم بأيدي اُناس ينتحلون ملّتک ويزعمون أنّهم من أمّتک براء من الله ومنک خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً، شتي مصارعهم، نائية قبورهم، خيرة من الله لهم ولک فيهم، فاحمد الله عز وجل علي خيرته وارض بقضائه. فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لکم، ثمّ قال لي جبرائيل: يا محمد إنّ أخاک مضطهد بعدک مغلوب علي أمّتک مغلوب من أعدائک، ثم مقتول بعدک يقتله أشرّ الخلق والخليقة، وأشقي البريّة، يکون نظير عاقر النّاقة ببلد تکون إليه هجرته وهو مغرس شيعة ولده، وفيه علي کلّ حال يکثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإنّ سبطک هذا وأومأ بيده إلي الحسين (عليه السلام) مقتول في عصابة من ذرّيتک وأهل بيتک وأخيار من أمتک بضفة الفرات بأرض يقال لها: کربلاء، من أجلها يکثر الکرب والبلاء علي أعدائک وأعداء ذرّيتک في اليوم الّذي لا ينقضي کربه، ولا تفني حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض، وأعظمها حرمةً، يقتل فيها سبطک وأهله وأنّها من بطحاء الجنّة فإذا کان ذلک اليوم الّذي يقتل فيه سبطک، وأهله، وأحاطت به کتائب أهل الکفر واللعنة، تزعزعت الأرض من أقطارها ومادت الجبال وکثر اضطرابها واصطفقت البحار بأمواجها، وماجت السّماوات بأهلها غضباً لک يا محمّد ولذرّيّتک، واستعظاماً لما ينتهک من حرمتک، ولشرّ ما تکافي به في ذريّتک وعترتک، ولا يبقي شيء من ذلک إلاّ استأذن الله عزّ وجلّ في نصرة أهلک المستضعفين المظلومين الّذين هم حجّة الله علي خلقه بعدک فيوحي الله إلي السماوات والأرض والجبال والبحار ومن فيهنّ: أني أنا الله؛ الملک القادر الّذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع وأنا أقدر فيه علي الانتصار والانتقام، وعزّتي وجلالي لأعذّبنّ من وتر رسولي وصفيّي، وانتهک حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين، فعند ذلک يضج کل شيء في السّماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتک واستحل حرمتک، فإذا برزت تلک العصابة إلي مضاجعها تولّي الله عزّ وجلّ قبض أرواحها بيده وهبط إلي الأرض ملائکة من السّماء السّابعة معهم آنية من الياقوت والزّمرّد مملوءة من ماء الحياة وحلل من حلل الجنّة وطيب من طيب الجنّة، فغسّلوا جثثهم بذلک الماء وألبسوها الحلل وحنّطوها بذلک الطّيب، وصلّت الملائکة صفاً صفاً عليهم، ثمّ يبعث الله قوما من أمتک لا يعرفهم الکفّار لم يشرکوا في تلک الدّماء بقول ولا فعلٍ ولا فعلٍ ولانيّة، فيوارون أجسامهم ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلک البطحاء يکون علماً لأهل الحقّ، وسبباً للمؤمنين إلي الفوز وتحفّه ملائکة من کلّ سماء مائة ألف ملک في کلّ يوم وليلة، ويصلّون عليه ويطوفون عليه و يسبّحون الله عنده ويستغفرون الله لمن زاره ويکتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمّتک متقرّباً إلي الله تعالي وإليک بذلک، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش الله: هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء فإذا کان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلک الميسم نور تغشي منه الأبصار يدلّ عليهم ويعرفون به، وکأنّي بک يا محمّد بيني وبين ميکائيل، وعليّ أمامنا ومعنا من ملائکة الله ما لا يحصي عددهم، ونحن نلتقط من ذلک الميسم في وجهه من بين الخلائق حتّي ينجيهم الله من هول ذلک اليوم وشدائده، وذلک حکم الله وعطاؤه لمن زار قبرک يا محمّد أو قبر أخيک أو قبر سبطيک لا يريد به غير الله عزّ وجلّ، وسيجتهد اناس ممّن حقّت عليهم اللعنة من الله والسّخط أن يعفوا رسم ذلک القبر ويمحوا أثره فلا يجعل الله تبارک وتعالي لهم إلي ذلک سبيلاً. ثمّ قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): فهذا أبکاني وأحزنني، قالت زينب: فلمّا ضرب ابن ملجم (لعنه الله) أبي (عليه السلام) ورأيت عليه أثر الموت منه قلت له: يا أبه حدّثتني أمّ أيمن بکذا وکذا، وقد أجبت أن أسمعه منک، فقال: يا بنيّة الحديث کما حدّثتک أمّ أيمن، وکأني بک وببنات أهلک سبايا بهذا البلد أذلاّء خاشعين تخافون أن يتخطّفکم النّاس، فصبراً صبراً، فو الّذي فلق الحبّة وبرء النّسمة ما لله علي ظهر الأرض يومئذٍ وليّ غيرکم وغير محبيکم وشيعتکم، ولقد قال لنا رسول الله (صلي الله عليه وآله) حين أخبرنا بهذا الخبر: إنّ إبليس (لعنه الله) في ذلک اليوم يطير فرحاً فيجول الأرض کلّها بشياطينه وعفاريته فيقول: يا معاشر الشياطين قد أدرکنا من ذرّية آدم الطّلبة وبلغنا في هلاکهم الغاية وأورثناهم النّار إلاّ من اعتصم بهذه العصابة، فاجعلوا شغلکم بتشکيک النّاس فيهم وحملهم علي عداوتهم، وإغرائهم بهم وأوليائهم حتّي تستحکموا ضلالة الخلق وکفرهم، ولا ينجو منهم ناج، ولقد صدق عليهم إبليس وهو کذوب، أنّه لا ينفع مع عداوتکم عمل صالح ولا يضرّ مع محبّتکم وموالاتکم ذنب غير الکبائر. قال زائدة: ثمّ قال عليّ بن الحسين (عليهما السلام) بعد أن حدّثني بهذا الحديث: خذه إليک، أما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولا لکان قليلاً).

[16] لابدّ من إمعان النظر في هذه العبارة: (فلا يزداد أثره الاّ ظهوراً وأمره الاّ علوّا)، وبنحو أخص: (وأمره إلاّ علوّا).

[17] سورة الإسراء: الآية 84.