بازگشت

بكاء ابن سعد


حين وقف الحسين وحيدا في وسط المعركة، و في ساعته الاخيرة، و الالوف تحيط به من كل جانب صاح بأعلي صوته:

هل من ذاب عن جرم رسول الله؟ [1] .

هل من موحد يخاف الله؟.

هل من مغيث يرجو الله؟.

فأغاثوه برمي السهام، و طعن الرماح، و ضرب السيوف، فثبت و صبر، حتي قال من رآه: ما رأيت مكثورا قط قتل ولده اهل بيته و صحبه اربط جأشا منه، و لا امضي جنانا، و لا اجرأ مقداما.. و كان يردد في موقفه هذا كلمات، منها:

لا حول و لا قوة الا بالله.

اللهم انك تري ما انا فيه.


الهي ان كنت حبست عنا النصر، فاجعله لما هو خير منه.

اللهم اجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل.

لا و الله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل، و لا افر فرار العبيد.

اني ارجو ان يكرمني الله بالشهادة.

صبرا علي قضائك يا رب، لا اله سواك، يا غياث المستغيثين.

و لما نزف الدم من جسده الشريف، ضعف و هوي علي الارض، فدنا عمر بن سعد في جماعة من اصحابه، فرآه يجود بنفسه، فبكي و سالت دموعه علي لحيته، ثم صاح، و هو يبكي: انزلوا اليه و اريحوه!..

بكي ابن سعد علي الحسين، و في نفس الوقت امر بذبحه..

و تدلنا هذه الظاهرة علي ان الانسان قد يتأثر و ينفعل في موقف من المواقف من غير قصد و شعور، تماما كما يتنفس، و بهذا نستطيع ان نفسر بكاء المجرمين القساة، و هم يستمعون الي حديث كربلاء و فاجعتها.

و عن السيدة زينب انها قالت: حين استشهد اخي الحسين هجم العدو علي خيامنا للسلب و النهب، و دخل الي خيمتي رجل ازرق العينين، فأخذ ما في الخيمة، و نظر الي زين العابدين، و هو علي نطع، و كان مريضا، فجذبه من تحته و رماه الي الارض، و التفت الي و اخذ القناع من رأسي، و قرطين كانا في اذني، و جعل يعالجهما، و يبكي، حتي انتزعهما.. فقلت له: تسلبني، و انت تبكي؟!.. فقال: ابكي لمصابكم اهل البيت..

و ما يدرينا ان بعض من يبكي لمصاب اهل البيت يحمل روح هذا المجرم؟... و انه لو تسني له ان يسلب الحوراء خمارها لفعل.. و اي فرق بين ازرق العينين هذا، و بين من لا يفعل و لا يترك الا علي اساس منفعته


و مصلحته الخاصة، غير مكترث بدين و لا بضمير؟..

و اني اقدم هذه الصورة، صورة بكاء ازرق العينين، و سيده ابن سعد للذين يحسبون ان مجرد البكاء و «التباكي» يدخلهم الجنة، ولو راءوا و نافقوا، و دسوا و تآمروا، و تجسسوا و قبضوا..

و اقدمها للذين يصعدون علي منبر سيدالشهداء، يشيدون ببطولته و ابائه، و عظمته و مبادئه و اعظين و مرشدين الي سبيله و هدايته، حتي اذا نزلوا عنه طأطأوا رؤوسهم للوجهاء، و مدوا ايديهم للاغنياء.. و اني رأيت اكثر من مرة علي منبر الحسين من يسبح بحمد الظالمين، و يكيل لهم المديح و الثناء ناسيا ان هذا المنبر قد نصب لمحاربة الظلم و مكافحة الاجرام..

و ايضا اقدمها للذين يقضون حياتهم في معاقرة الخمرة، و اللعب في القمار، و في حوانيت الدعارة، و لا ينطقون الا بالكفر و الفسق، و سب الاديان و المذاهب، و لا يتعرفون علي صوم و لا صلاة، حتي اذا جاء يوم العاشر من المحرم لبسوا الاكفان، و ضربوا الجباه بالسيوف، و الاكتاف بالسلاسل، و اظهروا الشيعة و التشيع بابشع الصور و المظاهر، و وسموا الذكري المقدسة باقبح السمات، و افسحوا المجال للمفترين و المتقولين باننا لا نصلح للحياة، و ان عقيدتنا بدعة و ضلالة، و سلحوا العدو باقوي سلاح و امضاه، و قبعوا في بيوتهم لا يفكرون الا في انفسهم، و تركوا غيرهم في وسط المعركة يكافح و يناضل بكل سلاح.

ان ذكري الحسين مازالت و لن تزال حية في القلوب، فعلينا ان نستغلها لمرضاة الله و رسوله، لصالح الاسلام و المسلمين، و بث العلم و الوعي، و جمع الكلمة، لا لاشاعة الجهل و التفريق، و الاتجار بالدين و العواطف.



پاورقي

[1] ذکرنا، فيما تقدم، السر الذي من اجله خرج الحسين بحرم جده رسول الله، و استغاثته هذا تعزز ما قلناه.