بازگشت

المصائب و الاحزان


شاءت الاقدار ان تلقي بالسيدة الحوراء في احضان المصائب و الاحزان منذ الطفولة الي آخر يوم في حياتها.. فمن يقف علي سيرتها يجد سلسلة من حلقات متصلة من الآلام منذ البداية، حتي النهاية.

و أي انسان خلت او تخلو حياته من الهموم و الاكدار، حتي اصحاب السلطان و الجاه و الثراء لا منجاة لهم من ضربات الزمان، و طواري ء الحدثان.. و قديما قيل: اذا انصفك الدهر فيومان: يوم لك و يوم عليك. و من الذي حقق جميع رغباته، و لم يفقد قريبا من اقربائه، و عزيزا من اعزائه.

ولكن من غير المألوف و المعروف ان يعيش «انسان» في خضم من المحن و الارزاء كما عاشت السيدة زينب التي انهالت عليها الشدائد من كل جانب الواحدة تلو الاخري، حتي سميت ام المصائب، و اصبحت هذه الكنية علما خاصا بها.

فقد شاهدت وفاة جدها رسول الله، و تأثيرها علي المسلمين بعامة، و علي امها و ابيها، و اهل بيتها بخاصة، قال اميرالمؤمنين: «نزل بي من وفاة رسول الله (ص) ما لم اكن اظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به.. و رأيت الناس من اهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه، و لا


يضبط نفسه، و لا يقوي علي حمل فادح نزل به، قد اذهب الجزع صبره، و اذهل عقله، و حال بينه و بين الفهم و الافهام و القول و الاسماع».

و طبيعي ان يصيب اهل البيت هذا، و اكثر منه، فان تأثير المصاب بالفقيد، اي فقيد يقاس بقدره و قيمته..

و كفي الرسول عظمة ان يقترن اسمه باسم الله، و لا يقبل الايمان و الاعتراف بالله الواحد الاحد الا مع الأعتراف و الأيمان برسول الله محمد...

هذا، الي ان النبي (ص) كان قد حدث اهل بيته بكل ما يجري عليهم من بعده، و كرره اكثر من مرة علي مسامعهم تصريحا و تلويحا، حتي ساعة الوفاة كان ينظر الي وجوههم و يبكي، و لما سئل قال: ابكي لذريتي، و ما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي.

شاهدت زينب وفاة جدها الرسول، و ما تركه من آثار، و شاهدت محنة امها الزهراء، و ندبها لأبيها في بيت الأحزان، و دخول من دخل الي خدرها، و انتهاك حرمتها، و اغتصاب حقها، و منع ارثها، و كسر جنبها، و اسقاط جنينها، و سمعتها، و هي تنادي فلا تجاب، و تستغيث فلا تغاث.. و كلنا يعلم علاقة البنت بالأم، و تطلعها اليها، و تأثرها بها تلقائيا و بدون شعور.

و شاهدت قتل ابيها اميرالمؤمنين، و اثر الضربة في رأسه، و سريان السم في جسده الشريف، و دموعه الطاهرة الزكية تفيض علي خديه، و هو يقلب طرفه بالنظر اليها، و الي اخويها الحسنين.

و شاهدت اخاها الحسن اصفر اللون يجود بنفسه، و يلفظ كبده قطعا من اثر السم [1] و رأت عائشة تمنع من دفنه مع جده، و تركب بغلة،


و تصيح، و الله لا يدفن الحسن هنا ابدا.

اما ما شاهدته في كربلاء، و حين مسراها الي الكوفة و الشام مع العليل و النساء و الاطفال فيفوق الوصف، و قد وضعت فيه كتب مستقلة.

هكذا كانت حياة لسيدة، و بيئتها من يومها الاول الي آخر يوم، حياة مشبعة بالاحزان، متخمة بالآلام لا تجد منها مفرا، و لا لها مخرجا.

و بعد هذه الاشارة نقف قليلا لنري كيف قابلت السيدة هذه الصدمة و الاحداث الجسام: هل اصابها ما يصيب النساء في مثل هذه الحال من الاضطراب و اختلال الاعصاب؟.. هل هيمنت عليها العاطفة العمياء التي لا يبقي معها اثر لعقل و لا دين؟.. و بالتالي، هل خرجت عن حدود الاتزان و الاحتشام؟.. حاشا بنت النبي و فاطمة و علي. و اخت الحسنين، و حفيدة ابي طالب ان تنهزم اما النكبات، و تستسلم للضربات.. حاشا النفس الكبيرة ان تتمكن منها العواطف، او تزعزعها العواصف.. فلقد تحولت تلك المحن و المصائب بكاملها الي عقل و صبر و ثقة بالله، و كشفت كل نازلة نزلت بها عن معني من اسمي معاني الكمال و الجلال، و عن سر من اسرار الايمان النبوي المحمدي، ان اعتصامها بالله، و ايمانها به تماما كايمان جدها رسول الله.

و ليس في قولي هذا اية شائبة من المغالاة مادمت اقصد الايمان الصحيح الكامل الذي لا ينحرف بصاحبه عن طاعة الله و مرضاته مهما تكن الدوافع و الملابسات.. و أي شي ء ادل علي هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله للصلاة ليلة الحادي عشر من المحرم، و رجالها بلا رءوس علي وجه الارض تسفي عليهم الرياح، و من حولها النساء و الاطفال في صياح و بكاء، و دهشة و ذهول، و جيش العدو يحيط بها من كل جانب.. ان صلاتها في مثل هذه الساعة تماما كصلاة جدها رسول الله في المسجد


الحرام، و المشركون من حوله يرشقونه بالحجارة، و يطرحون عليه رحم شاة، و هو ساجد لله عز و علا، و كصلاة ابيها اميرالمؤمنين في قلب المعركة بصفين، و صلاة اخيها سيدالشهداء يوم العاشر، و السهام تنهال عليه كالسيل.

و لا تأخذك الدهشة - ايها القاري ء - اذا قلت: ان صلاة السيدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم كانت شكرا لله علي ما انعم، و انها كانت تنظر الي تلك الاحداث علي انها نعمة خص الله بها اهل بيت النبوة من دون الناس اجمعين، و انه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل و المراتب عند الله و الناس... و لا يشك مؤمن عارف بان اهل البيت لو سألوا الله سبحانه دفع الظلم عنهم، و ألحوا عليه في هلاك الظالمين لاجابهم الي ما سألوا، كما لا يشك مسلم بان رسول الله لو دعا علي مشركي قريش لاستجاب دعاءه [2] .ولكنهم لو دعوا و استجاب لم تكن لهم هذه الكرامة التي نالوها بالرضا و الجهاد، و القتل و الاستشهاد، و في هذا نجد تفسير قول الحسين «رضا الله رضانا اهل البيت، نصبر علي بلائه، و يوفينا اجور الصابرين، و قول ابيه اميرالمؤمنين، و هو يجيب عن هذا السؤال: كيف صبرك اذا خضبت هذه من هذه؟. فقال: «ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشري و الشكر».

و زينب هي بنت اميرالمؤمنين لا تعدوه في ايمانها، و لا في نظرها


الي طريق الخلود و الكرامة.. و لذا لم تترك الصلاة شكرا لله، حتي ليلة الحادي عشر من المحرم، و حين مسيرها مسبية الي الكوفة و الشام، و حمدت الله، و هي اسيرة في مجلس يزيد علي ان ختم الله للأول من اهل البيت بالسعادة، و للآخر بالشهادة و الرحمة.

و من الخير ان ننقل كلمة لابيها اميرالمؤمنين تنصل بالموضوع و تلقي عليه ضوءا من انوار الحكمة كالهداية، قال:

«ان اشد الناس بلاء النبيون، ثم الوصيون، ثم الامثل فالامثل، و انما يبتلي المؤمن علي قدر اعماله الحسنة، فمن صح دينه، و حسن عمله اشتد بلاؤه، ذلك ان الله لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن، و لا عقوبة لكافر، و من سخف دينه ضعف عمله، و قبل بلاؤه، و ان البلاء اسرع الي المؤمن التقي من المطر الي قرار الارض».

و بعد، فان الأحداث التي مرت بالسيدة زينب لفتت اليها الأنظار، فتحدث عنها المؤرخون و اصحاب السير في موسوعاتهم و منهم من وضع في سيرتها كتبا مستقلة، و اشاد الخطباء بفضلها و عظمتها من علي المنابر، و نظم الشعراء القصائد في احزانها و اشجانها، و صبرها و ثباتها، و نذكر هنا - علي سبيل المثال - هذه القطعة الدامية لهاشم الكعبي:



و ثواكل في النوح تسعد مثلها

ارأيت ذا ثكل يكون سعيدا



ناحت فلم تر مثلهن نوائحا

اذ ليس مثل فقيدهن فقيدا



لا العيس تحكيها اذا حنت ولا

الورقاء تحسن عندها ترديدا



أن تنع أعطت كل قلب حسرة

او تدع صدعت الجبال الميدا



عبراتها تحيي الثري لو لم تكن

زفراتها تدع الرياض همودا



و غدت اسيرة خدرها ابنة فاطم

لم تلق غير اسيرها مصفودا



تدعو بلهفة ثاكل لعب الاسي

بفؤاده حتي انطوي مفؤودا






تخفي الشجا جلدا فان غلب الاسي

ضعفت فابدت شجوها المكمودا



نادت فقطعت القلوب بشجوها

لكنما انتظم البيان فريدا



ماذا نسمي هذه النغمات الحزينة؟.. أنسميها شعرا، و الشعر يحتاج الي اعمال الفكر، و تخير المعاني و الالفاظ، و الكعبي الم يفعل شيئا من ذلك، و انما انعكست في نفسه آلام آل الرسول، ثم فاضت بها من حيث لا يشعر، تماما كما فاضت عيون الثاكلات بالعبرات.. و كل شيعي صادق الولاء لآل نبيه يعبر عن ولائه بالبكاء، و اقامة العزاء لما اصابهم و حل بهم. او بشد الرحال لزيارة قبورهم و مشاهدهم المقدسة. او بالاحتجاج لحقهم. و منافحة خصومهم، او بثورة شعرية، كما فعل السيد حيدر الحلي [3] .

اما ان تكون نفس المحب بالذات هي الاداة المعبرة عن حبه و ولائه. فهذا ما لا نعرفه الا من افراد قائل جدا، منهم هاشم الكعبي، و الشريف الرضي... ان هذه القطعة ليست و صفا لندب الثواكل و حنينها الي سيدها و كفيلها، و لا تصويرا لاحزانها و اشجانها، و كفي، و لا اخبار بالذي اصاب آل محمد، كما قال بعض الشعراء:



سبيت نساء محمد و بناته

من بعد ما قتلت هناك رجاله



و انما هي قلب مضطرم قد استحال الي كلمات تلهب القلوب و المشاعر.. فلقد هيمن الولاء علي الكعبي، و انتقل به من عالمه و دنياه الي عالم الثواكل في كربلاء، فشعر بشعورهن، و احس باحساسهن، حتي اصبح مثلهن ثاكلا يندب و ينوح بعبرات تحيي الثري، و زفرات تدع الرياض همودا.



پاورقي

[1] روي انه لما وضع الطشت بين يدي الحسن، و هو يقذف کبده سمع ان اخته زينب تريد الدخول عليه امر برفع الطشت اشفاقا عليها.

[2] حين لقي المسلمون من المشرکين شدة شديدة قالوا لرسول الله: الا تدعو الله: الا تدعو الله لنا؟. قال: ان من کان قبلکم ليمشط احدهم بامشاط الحديد ما دون عظمه من لحم او عصب ما يصرفه ذلک عن دينه، و يوضع المنشار علي مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلک عن دينه و ليتمن الله هذا الامر، حتي ليسير الراکب، من صنعاء الي حضرموت لا يخاف الا الله، و هکذا تم أمر اهل البيت لا يخاف مواليهم الا الله، و الحمدلله.

[3] شاعر مکثر و مجيد في رثاء الحسين، و شعره کله اوجله ثورة و حماسة و استنهاض.