بازگشت

اسلام ابيطالب


و لابد من كلمة في اسلام ابي طالب، و نحن تنحدث عن نسب حفيدته السيدة زينب. و قد اشتهر بين السنة انه مات علي غير الاسلام، و اجمعت كلمة الشيعة علي انه مات مسلما، ولكني نعرف الحق مع اي جانب من الطائفتين ينبغي التمهيد بما يلي:

1- اذا اتفقت كلمة المسلمين جميعا السنة و الشيعة علي شي ء. كان اتفاقهم دليلا بنفسه لا يحتاج معه الي البحث و النظر، و كان لكل مسلم ان يجزم و يعتقد بما اتفقوا عليه دون قيد او شرط، و بدون ترو و تريث، فلو قال قائل: ان اباجهل مات علي غير الاسلام، فلا يحق لاحد ان يعترض عليه، و يطلب منه التثبت قبل الحكم بكفره، لان المفروض اتفاق الجميع علي ذلك، و عدم وجود قولين، ليجب النظر و التدقيق في أي القولين أصح؟ و اي الدليلين اقوي؟.

اما اذا اختلف المسلمون فيما بينهم، و ذهبت كل طائفة اي رأي فيجب حينئذ البحث و النظر، و من جزم و حكم بدون تثبت، و لمجرد الاعتماد علي الشهرة عند احد الفريقين فهو مقلد جاهل، اذ ليس كل ما هو موجود واقعا يجب ان يشتهر، و لا كل مشهور يجب ان يكون موجودا في الواقع، ولذا قيل: «رب مشهور لا اصل له» ولو سلمنا جدلا، لا اعتقادا ان الشهرة حق و صدق فانما تكون حقا اذا لم يقم الدليل المحسوس الملموس لعي ضدها و كذبها... و قد جاء في الحديث: «ليس المخبر كالمعاين». علي ان الاخذ بما اشتهر عند السنة دون الاخذ بما اشتهر عند الشيعة تحكم، و ترجيح بلا مرجح. و عليه يتحتم طرح القولين معا، و ترك التعصب لاحدهما، و التجرد للبحث النزيه.. فلقد دلت التجارب منذ القديم علي ان الذين يلجأون الي نزوات العاطفة لا يهتدون الي خير،


و محال ان يهتدوا مادامت الميول هي المسيطرة، و التقاليد هي المتحكمة.

2- ان عقيدة الانسان، اي انسان لا تعرف علي حقيقتها الا في ضوء واقعه و حياته الخاصة، و ما يحيط بها من الظروف و الملابسات، فهي التي توجهه في سلوكه و آرائه و معتقداته، و محال ان نعرف شيئا من ميوله و رغباته بمعزل عن واقعه و عالمه الخاص.

3- انه كما اشتهر بين السنة ان اباطالب مات علي غير الاسلام، فقد اجمعت الشيعة ان اباسفيان مات علي النفاق، و اختلفت السنة في حسن اسلامه، اي في نفاقه و عدمه، قال صاحب «الاستيعاب في اسماء الاصحاب» ج 4 ص 86 المطبوع مع كتاب «الاصابة» سنة 1939: «اختلف في حسن اسلام ابي سفيان، فطائفة تروي انه لما اسلم حسن اسلامه.. و طائفة تروي ان كان كهفا للمنافقين منذ اسلم... و كان في الجاهلية ينسب الي الزندقة».

و يحتم علينا المنطق في مثل هذه الحال ان لا نجزم باسلام ابي طالب، و لا بحسن اسلام ابي سفيان الا بعد البحث و النظر، و ان لا نعتمد علي قول اية فئة من الفئات.. بل علينا ان ننظر - اولا و قبل كل شي ء - الي حياة كل من ابي طالب و ابي سفيان و ظروفه الخاصة: هلي تتجه به الي الاسلام، و الايمان برسالة محمد،او الي الشرك، و محاربة محمد و رسالته؟..

و ان واقع ابي سفيان، و كل ما يتصل بتاريخه و حياته من قريب او بعيد يتجه الي التعلق بالاوثان، و الدفاع عنها، و التضحية من اجلها بكل غال و عزيز، حتي ولو كان في واقعه، و بينه و بين نفسه لا يعتقد بها و لا بشي ء ابدا.. لان الاوصان تمنحه الامتياز و السيادة علي الضعفاء و المساكين، و محمد يجرده من كل ذلك، و يدعو الي الاخاء و المساواة،


و الاوثان تبيح له السلب و النهب و الفسق و الفجور، و ما اليه من الرذائل، و محمد يأمر بالفضائل و مكارم الاخلاق، فمحمد - اذن - خطر علي الاستقراطيين بعامة، و علي ابي سفيان بخاصة.

هذا، الي العداء الموروث المتأصل بين هاشم و امية، فكيف يستسلم ابوسفيان و ينقاد الي الد اعدائه، و قد ظهر ذلك في الحروب و المكائد التي نصبها للرسول الاعظم (ص).. و هل بعد هذه الارقام المحسوسة المستمدة من واقع ابي سفيان من شك و ريب في انه اظهر الاسلام عن خوف لا عن ايمان، و حقنا لدمه لا بدافع من ضميره و وجدانه؟.. و هل نأخذ بالشهرة و غير الشهرة بعد ان انكشف الواقع كشفا حسيا تبددت معه الشكوك و الاوهام؟.. ان اباسفيان لا يرجع في سلوكه الي عقل و لا دين و لا ضمير، و انما المعيار و الدافع و المثل الاعلي عنده هي المنفعة الخاصة لا غيرها.. شأن جميع الاقوياء الذين لا يربطهم أي شي ء بهذا العالم غير المصالح الشخصية. [1] .


اما واقع ابي طالب فعلي الضد تماما من واقع ابي سفيان، فلا يلتقيان في جهة، و لا يشتابهان في شي ء، فابوسفيان تأكل الضغائن قلبه علي محمد، و ابوطالب يحنو عليه حنو المرضع علي فطيمها، فعن طبقات ابن سعد انه كان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده، و كان لا ينام الا و هو الي جنبه، و اذا خرج اخرجه معه، و ابوسفيان يخشي من انتصار محمد علي مجد «امية»، و يعتقد ابوطالب ان في انتصار اخيه المجد الدائم و الشرف الخالد، و اي شرف اعظم من ان يعهد الله سبحانه الي ربيب ابي طالب بامانته، و يختاره علي جميع خلقه؟.

هذا اذا قسنا اباطالب بمقياس النعفيين و الانتهازيين تماما كما نقيس اباسفيان، و قلنا: ان كلا منهما يعمل بدافع من منافعه الخاصة، لا بوحي من عقله و ضميره.. فان النتيجة الحتمية المنطقية هي ايمان ابي طالب بمحمد و رسالته، و جحود ابي سفيان بكل ما يمت الي النبي بسبب.

و لو نزهنا اباطالب عن الغايات و الاهواء، و نظرنا اليه كطالب للحق من مصدره و ادلته لجاءت النتيجة ايضا ايمانه بالله و الرسول، فلقد شاهد من آيات ابن اخيه منذ طفولته الي ما بعد النبوة ما لم يتسن لاحد سواه.. مات ابوالنبي قبل ان يري ولده العظيم، فكفله جده عبدالمطلب، ثم توفي الجد، و للنبي من العمر ثماني سنوات، و كان قد عهد به الي ابي طالب، و قال له فيما قال: «استمسك به و انصره بلسانك و يدك و مالك.. فان له شأنا.. و ارجو ان يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله و لا بعده».

و كان ابوطالب يحدث عن النبي بعد ان ضمه اليه، و يقول:

«كنت كثيرا ما اسمع منه اذا ذهب الليل كلاما يعجبني، و كنا لا نسمي علي الطعام، و لا الشراب، حتي سمعته يقول: بسم الله الاحد، ثم يأكل، فاذا فرغ قاتل: الحمدلله كثيرا، و كنت آتيه علي غفلة فأري من


لدن رأسه نورا ممدودا قد بلغ السماء.. و لم ارمنه كذبة قط، و لا جاهلية قط، و لا رايته يضحك في غير موضع الضحك، و لا وقف مع الصبيان في لعب، و لا التفت اليهم، و كانت الوحدة و التواضع احب اليه».

و نقل ابن عساكر ان قحطا اصاب قريشا، فاستسقي ابوطالب بمحمد، و ما ان مد باصبعه، حتي اقبل السحاب من هاهنا و هنا، و اغدق الوادي، و اخصب النادي، و في ذلك يقول ابوطالب:



و ابيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامي عصمة للارامل



و كانت فاطمة بنت اسد زوجة عمه ابي طالب تحدث عنه. و تقول:

«كان في صحن داري شجرة قد يبست، فاتي محمد يوما الي الشجرة، فمسها بكفه، فصارت من وقتها و ساعتها خضراء و حملت الرطب». و في طبقات ابن سعد 120 ج 1 طبعة دار بيروت سنة 1957 ان ابناء ابي طالب اذا اكلوا جميعا او فرادي لم يشبعوا، و اذا كان معهم النبي شبعوا.

و بعد ان رأي ابوطالب هذا الآيات بعينيه، و تكررت عليه مرات و مرات، و بعد ان سمع من ابيه و غير ابيه التنبؤات، يقال: انه مات علي غير الاسلام، و هو ذو العقل الكبير، و النظر البعيد؟. و هل عرب البادية و غيرهم من المهاجرين و الانصار ارجح عقلا من ابي طالب.. او رأوا و شاهدوا من آيات محمد اكثر مما رأي و شاهد... او كانوا الصق به و اقرب اليه من عمه؟.. و بعد، فبأي منطق اخذ الباحث، و باي مقياس قاس اباطالب، فالنتيجة ان عدم اسلامه مستحيل او شبه مستحيل.

ان من شك باسلام ابي طالب فقد شك بنبوة محمد، من حيث لا يدري و لا يشعر.. اذ لا يمكن بحال ان نجمع بين القول بان النبي اتي


بالبرهان القاطع علي نبوته، و بين القول بان اباطالب غير مسلم، مع العلم و التسليم بصحة ادراكه، و رجحان عقله، و خبرته التامة بحقيقة ابن اخيه، و شدة حبه و اخلاصه له. فكل من قال بان محمد اتي بالدليل الكافي الوافي يلزمه القول باسلام ابي طالب، و كل من قال بعدم اسلامه يلزمه القول بان النبي لم يقم الدليل المقنع بذاته علي نبوته، و التفكيك جهل و تحكم.. و بكلمة ان عدم اسلام ابي طالب - لو فرض - يدل علي ان في الواقع سرا يستدعي عدم الايمان بمحمد.. حاشا لله و لرسوله، و لكافله و حاميه و الذاب عنه و عن رسالته.

و رب من يسأل و يقول: ما هو السبب للتشكيك باسلام ابي طالب مادام بهذه المنزلة و الوضوح؟

الجواب:

ان القول بنفي الاسلام عن ابي طالب جاء جوابا للقول بنفاق ابي سفيان.. اليس ابوطالب والد علي اميرالمؤمنين، و ابوسفيان والد معاوية؟!.. و لابد من الموازنة و ترجيح هذا علي ذاك، او المساواة بينهما علي الاقل..

سؤال ثان: لماذا لم يجاهر ابوطالب باسلامه منذ اليوم الاول لدعوة الرسول الاعظم (ص) كما فعل ولده علي؟..

الجواب:

اولا: انه جاهر بذلك فيما قاله من الشعر الذي ذكر في كتب السير و التاريخ، و منه قوله:




و لقد علمت بان دين محمد

من خير اديان البرية دينا



ثانيا: ان الاسلام كان ضعيفا في بدء الامر، و قد تألبت عليه قوي الشرك من كل جانب، فكان من صواب الرأي، و الخير الاسلام و نبيه ان يكتم ابوطالب ايمانه احكاما لخطة الدفاع، و هذا كثيرا ما يحدث بين اصحاب المبادي ء، فلقد كتم مؤمن من آل فرعون ايمانه ليمكنه الدفاع عن موسي (ع): «و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه اتقتلون رجلا يقول ربي الله - 28 غافر» و امر رسول الله نعيم بن مسعود الاجشعي ان يكتم ايمانه في وقعة الاحزاب، ليخذل بين اليهود و قريش، بل اذن له ان يقول فيه ما يشتهون.

و قال السيد محسن الامين في الاعيان ج 3 ص 5 طبعة 1960

«لو جاهر ابوطالب باسلامه لم يمكنه ما امكنه من نصرة رسول الله».

و قال صاحب السيرة الحلبية ج 1 ص 467 «باب وفاة ابي طالب و زوجته»: «و كان من حكمة احكم الحاكمين بقاء ابي طالب علي دين قومه، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها».

و يأبي الله سبحانه الا ان يقيم الشواهد علي الحق، و لو علي لسان الجاحدين و المعاندين.. ان هذا القائل ينكر ايمان ابي طالب، و يعترف في الوقت نفسه ان مصلحة الاسلام تستدعي ذلك، و ذهل عن بديهة لا تقبل الشك، و هي ان الكفر بالله قبيح في ذاته، و انه لم و لن تكون فيه مصلحة و لا حكمة مهما تكن الظروف و البواعث و الاهداف.. و ايضا ذهل ان الغرض المطلوب يتحقق في كتم الايمان، كما فعل نعيم بن مسعود و مؤمن آل فرعون، و لو شاء الله عدم اسلام ابي طالب لمصلحة النبي لكان


كفره افضل من ايمانه.. بل وجب ان يؤاخذ و يعاقب علي الاسلام و الايمان بالله و رسوله.. و لا قائل بهذا الهجر و الهذيان احد.. فتعين - اذن - القول بان كتم ايمانه، جمعا بين مصلحة الاسلام، و قبح الكفر.

و قد وضعت كتب خاصة في اسلام ابي طالب و مناقبه، فليرجع اليها من اراد التفصيل، و تسهيلا علي القاري ء نزوده بهذين الرقمين: الاول جاء في السيرة النبوية لابن هشام ص 247 من القسم الاول طبعة 1955 ان اباطالب قال لولده علي: «ان محمدا لم يدعك الا الي خير، فالزمه». و لا معني للاسلام الا الاعتراف بان دعوة محمد خير يجب اتباعه و الالتزام به.

الثاني: جاء في طبقات ابن سعد ج 1 ص 123 طبعة 1957، و في السيرة الحلبية ج 1 ص 467 «باب وفاة ابي طالب» ان عليا حين اخبر النبي بموت ابيه ابي طالب بكي، و قال: اذهب، فاغسله و كفنه، و واره، غفر الله له و رحمه».

و ما كان النبي ليأمر بتجهيز من اشرك و ألحد، و يطلب له من الله الرحمة و الرضوان.. و غريب حقا ان يحتاج اسلام ابي طالب الي دليل، و ان يكون محلا للتساؤل، و هو الذي كفل رسول الله صغيرا، و نصره كبيرا، و لاقي من اجله اشد البلاء و العناء، حتي ان احدا لم يطمع برسول الله، و ان الله لم يأمره بالهجرة الا بعد وفاة عمه ابي طالب.. غريب ان يكون اسلام ابي طالب محلا للتساؤل، و قد اتفقت الكلمة علي انه لولا ابوطالب لقضي علي دعوة محمد، و هي في المهد، و لم يكن للاسلام عن و لا اثر.



پاورقي

[1] قال صاحب الاستيعاب، ج 4 ص 88. «لابي‏سفيان اخبار رديئة ذکرها اهل الاخبار» و نحن نشير هنا الي بعضها، منها ذکره صاحب الاستيعاب ص 87 ان اباسفيان دخل علي عثمان حين صارت اليه الخلافة، و قال له: ادرها کالکرة.. انما هو الملک، و لا ادري ما جنة و ما نار. و منها ما ذکره صاحب «الاصابة» ج 2 ص 172 طبعة 1939 ان اباسفيان قال في نفسه: ما ادري بم غلبنا محمد؟ فضرب النبي علي ظهره، و قال: بالله غلبک. و منها ما جاء في العقد الفريد ج 5 ص 10 طبعة 1953 انه حين بويع ابوبکر قال ابوسفيان: اني اري غبرة لا يطفئها الا الدم، و جعل يطوف في ازقة المدينة و يقول:



بني‏هاشم لا تطمع الناس فيکم

و لا سيما تيم بن مرة او عدي



فما الامر الا فيکم و اليکم

و ليس لها الا ابوحسن علي



فقال عمر لابي‏بکر: ان هذا فاعل شرا، و کان يتألفه علي الاسلام، فدغ ما بيده من الصدقة، ففعل، فرضي ابوسفيان و بايعه.