بازگشت

الاستهانة بالموت


قال ابن ابي الحديد في شرح النهج [1] :

«قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحك، أقتلتم ذرية رسول الله (ص)؟! فقال: عضضت بالجندل [2] انك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلناه، ثارت علينا عصابة ايديها في مقابض سيوفها، كالاسود الضارية، تحطم الفرسان يمينا و شمالا، و تلقي نفسها علي الموت، لا تقبل الامان، و لا ترغب في المال، و لا يحول حائل بينها و بين الورود علي حياض المنية، او الاستيلاء علي الملك، فلو كففنا عنها رويدا لاتت علي نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنا فاعلين لا ام لك؟!».

و من اجل ذلك صاح عمر بن الحجاج برفاقه المارقين:

يا حمقي اتدرون من تقاتلون؟! انكم تقاتلون فرسان المصر و قوما مستميتين. لا يبرز اليهم منكم احد. و من اجل ذلك ايضا نهي ابن سعد أصحابه ان يبرزوا لاصحاب الحسين رجلا رجلا.

و ليس هذا بعجيب و لا بغريب علي من لا يبتغي شيئا في هذه الحياة


الا وجه الله و الدار الآخرة، ليس هذا غريبا علي الحق اذا نازل الباطل، و علي من سمع بعقله و قلبه صوت الله يناديه اقدم، و لك احسن الجزاء. لقد عبر كل شهيد في الطف بافعاله قبل اقواله عما قاله سيدالشهداء: «اما و الله لا اجيبهم الي شي ء مما يريدون، حتي القي الله تعالي، و انا مخضب بدمي».

لم يكن المال و الامان من اهداف ابطال الطف، لم يكن لهم الا هدف واحد، يفتدونه بكل ما غلا و عز، و يستعذبون في سبيله كل شي ء حتي الموت، ليس لاصحاب الحسين الا هدف واحد لا غير هو التقرب الي الله بنصرة العترة الطاهرة، و لا وسيلة الي نصرتهم في هذا الموقف الا بذل النفوس، و الالتجاء الي السيوف، فراحوا يحطمون الفرسان بسيوفهم يمينا و شمالا و يلقون بانفسهم علي الموت، لا يحول بينهم و بين المنية حائل، و ما زادهم الحصار و الجوع و العطش الا بسالة و مضاء.

و لم تكن لاصحاب الحسين هذه الشجاعة و الاستهانة بالموت، و لا هذه العاطفة السامية و المعاني النبيلة لولا ايمانهم بالله و بالحسين. ان الاخلاص للحق يبعث في النفوس البطولة و التضحية، و العزم و الصراحة. و هذا ما يجعلنا نشكك بالذين يظهرون الايمان، و لا يجرأون علي التفوه بكلمة الحق طمعا في حطام زائل، او خوفا علي منصب لا يدوم، و من اجله يؤثرون اهواء أهل الدنيا علي ارادة الله و الرسول. قال اميرالمؤمنين (ع): اشجع الناس من غلب هواه. و قال: علامة الايمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك علي الكذب حيث ينفعك. لا يؤنسنك الا الحق، و لا يوحشنك الا الباطل.

و ما نقله ابن ابي الحديد عن الرجل الذي شهد يوم الطف بدل دلالة صريحة واضحة علي صدق ما روي عن شجاعة ابطال الطف، و ان الواحد


منهم كان يقتل جمعا كثيرا من اصحاب ابن سعد قبل ان يقتل، و انهم كانوا علي قلتهم لا يحملون علي جانب من جيش الكوفة الا كشفوه، فلقد ارسل عروة بن قيس الي ابن سعد، و كان قائدة علي الخيل، ارسل اليه يقول: الا تري ما تلقي خيلي منذ اليوم من هذه القلة اليسيرة؟! فامده بخمسمئة من الرماة، فأقبلوا حتي دنوا من اصحاب الحسين، و رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا حتي عقروا خيولهم، و صاروا رجالة كلهم، و كان الباقون من اصحاب الحسين اثنين و ثلاثين رجلا، فاجتمع عليهم عسكر ابن سعد، و هم الوف، و اشتبكوا معهم في اشد قتال، حتي انتصف النهار، و قد قتل اصحاب الحسين من اهل الكوفة المئات.

فقد رماهم ابوالشعثاء الكندي، و هو جاث بين يدي الحسين بمئة سعهم لم يكد يخيب منها خمسة اسهم. و كان نافع البجلي يكتب اسمه علي نبله، و يرسلها، فيقتل بها، و يجرح، و قلما تخطي ء، فأحاطوا به من كل جانب، و ضربوه علي ذراعيه حتي كسرتا، ثم اسروه و الدم يسيل علي وجهه و ذراعيه، فلعنهم و اسمعهم ما يكرهون، و قال لهم: قتلت منكم اثني عشر رجلا سوي من جرحت، ولو بقيت لي عضد لزدت.

و قتل حبيب بن مظاهر اثنين و ستين رجلا، كان يصول و يجول علي شيخوخته و كبر سنه، و يستقبل الرماح بصدره، و السيوف بوجهه، و قد عرضوا عليه الامان و الاموال، فأبي و قال: لا والله لا عذر لنا عند رسول الله (ص) ان قتل الحسين، و فينا عن تطرف. فاجتمعوا عليه، و قتلوه. و كان حبيب صحابيا ادرك النبي (ص)، و شهد مع اميرالمؤمنين حرب الجمل و صفين و النهروان، و كان من خاصته و حملة علومه، و كان عابدا زاهدا يختم القرآن في ليلة واحدة.

و بعد ما انتهت المعركة رجع ابن سعد الي الكوفة، و معه سبايا


الحسين، فخرج النساء و الاطفال ينظرون الي السبايا، و كان مع من خرج القاسم بن حبيب بن مظاهر، و هو يومئذ غلام قد راهق الحلم، فرأي رأس ابيه معلقا في عنق فرس [3] فاقبل الغلام مع الفارس لا يفارقه، فاذا دخل القصر دخل معه، و اذا خرج منه خرج معه، فارتاب به الرجل، و قال له: ما لك يا بني تتبعني؟ فقال الغلام: ان هذا الرأس رأس ابي، اعطني اياه حتي ادفنه. قال: ان الامير لا يرضي ان يدفن، و اريد ان يثيبني علي قتله. فقال له الغلام: ولكن الله لا يثبيك، و بكي.

ثم ذهب الغلام، و لم يكن له من هم الا ان يقتل قاتل ابيه، و لم تمض الايام حتي خرج مصعب بن الزبير، و كان القاتل مع جيش مصعب، فراقبه الغلام يلتمس الفرصة السانحة، و في ذات يوم دخل عسكر مصعب، فوجد القاتل نائما في فسطاطه، فضربه بسيفه حتي برد.



پاورقي

[1] المجلد الاول عند کلامه في الاباء و الشجاعة.

[2] الجندل: الصخر العظيم.

[3] کان اميرالمؤمنين قد اخبر حبيبا بما يحدث له، و اخبر ميثم الثمار بانه يصلب و تبقر بطنه، و بعد وفاة الامام علي (ع) التقي ميثم بحبيب، و کان کل منهما يرکب فرسا، فقال حبيب يطالب ميثما: کأني بشيخ اصلع قد صلب في حب اهل البيت، و تبقر بطنه فقال ميثم: اني لا عرف رجلا احمر يخرج لنصرة ابن بنت نبيه، فيقتل، و يجال برأسه في الکوفة. ثم افترقا، فقال قوم کانوا جالسين يسمعون کلامهما: ما رأينا احدا اکذب من هذين. و قبل ان يفترق اهل المجلس اقبل رشيد الهجري، فسأل اهل المجلس عنهما، فقالوا: مرا من هنا، و قالا کذا و کذا. فقال رشيد، نسي ميثم ان يقول: انه يزاد في عطاء من يأتي برأس حبيب مئة درهم. ثم ادبر، فقال أهل المجلس: هذا و الله اکذبهم. ولکن لم تمض الايام حتي شاهد هؤلاء ميثما مصلوبا، و رأس حبيب يطاف به، و تحقق کل ما سمعوه.