يوم الفتح
قال الامام الصادق: ان الحسين لما فصل متوجها الي العراق أمر بقرطاس، و كتب بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الي بني هاشم، اما بعد فانه من لحق بي استشهد، و من تخلف لم يبلغ الفتح، و السلام.
و لم يرد الامام بالفتح فتح البلاد و الممالك، و انما أراد ظهور أمر الله، و انتصار كلمة الاسلام، و قد كان الامام علي يقين من هذا الانتصار، و لذا قال: و من تخلف لم يدرك الفتح، اي لم ينل شرف الجهاد في سبيل الدين. حاربت امية صاحب الدعوة، و هي علي الشرك ظاهرا و باطنا. و لما جاء نصر الله و الفتح استسلمت، و اظهرت الاسلام، و ابطنت الكفر، و لما انتقل النبي الي ربه عادت الي محاربته الاسلام، ولكن عن طريق الكيد و التآمر، كما تدل حكاية ابي سفيان مع الامام حين بويع ابوبكر بالخلافة، حيث قال ابوسفيان لعلي: «ما بال هذا الامر في اذل قبيلة من قريش، و لو شئت لأملأنها عيله خيلا و رجالا» فرده الامام و افهمه انه منافق يغش الاسلام، و يكيد للمسلمين.
ظن ابوسفيان ان الفرصة قد سنحت لبلوغ مآ ربه بموت الرسول، و النزاع علي الخلافة، و ما دري ان عليا حامي حمي الاسلام له بالمرصاد، كما كان له في بدر واحد و الاحزاب؛ و تمضي الايام، و يصبح ابن ابي سفيان ملكا علي المسلمين، فحاول ان يؤسس للكفر و الالحاد، و يجعل
المالك في نسل الشراك الي آخر يوم، ولكن الحسين له بالمرصاد كما كان علي لابيه من قبل.
رأينا الاستعمار اذا ثارت عليه الشعوب المستضعفة، و أرادت التحرر من نيره و استغلاله يختار من أهل البلاد خائنا كيزيد، و ينصبه حاكما علي الشعب، و يمنحه اسم الاستقلال، فيكون للخائن الاسم، و للاستعمار الحكم، و تبقي الاوضاع كما كانت، او اسوأ حيث صبغت بالصبغة الشرعية، كما فعلت فرنسا بسورية و لبنان، و الانكليز في مصر أيام فاروق، و في العراق أيام بور سعيد، يقول الشاعر العراقي مخاطبا حاكم العراق عهد الانكليز:
فانت للحكم اسم
و الانكليز المسمي
و هذا ما أراد معاوية تطبيقه بالذات من خلافة ولده يزيد، و استمرار الملك في نسل ابي سفيان، أراد ان يكون الاسم للاسلام في الظاهر، و الحكم للشرك و الالحاد في الواقع. و سلك كل سبيل لتحقيق هذه الغاية، فمن دس السم بالعسل، الي القتل بالسيف، و من دفن الاحياء، الي سب الاموات، الي ما لا نهاية لجرائمه و موبقاته.
و ما كانت لتخفي هذه الحقيقة علي الحسين، و ما كان ابن علي ليبخل بدمه علي دني جده، كيف و هو القائل: «لا اري الموت الا سعادة، و الحياة مع الظالمين الا ندما» رأي الحسين ان الامويين يخدعون الناس باسم الاسلام، كما يخدع عميل الاستعمار الشعب باسم الاستقلال، فأراد الأمام ان يفضحهم، و يثبت للملأ انهم اعدي اعداء الاسلام، فنهض باسم الدين، و حقوق المسلمين، يمثل شعور كل مسلم لا يستطيع الجهر بما ينوي و يضمر، نهض و هو اعزل الا من الحق، وجابه الباطل صاحب
العدة و العدد، و دعا الي كتاب الله، و سنة الرسول، فقتله، الامويون، و ذبحوا اطفال الرسول و سبوا نساءه، لا لشي ء الا لأنهم دعاة للدين و الحق، فعرف الناس بعد وقعة الطف ان الامويين ما زالوا مشركين، كما كانوا يوم بدر واحد و الاحزاب، و انهم لم يؤمنوا بالله و رسوله طرفة عين، و انهم يضمرون للاسلام كل شر و عناد، و قد صور الشاعر هذه الحقيقة بقوله يصف يزيد بن معاوية:
لئن جرئت لفظة التوحيد في فمه
فسيفه بسوي التوحيد ما فتكا
قد اصبح الدين منه يشتكي سقما
و ما الي احد غير الحسين شكا
فما رأي السبط للدين الحنيف شفا
الا اذا دمه في كربلا سفكا
يا ويح دهر جني بالطف بين بني
محمد و بني سفيان معتركا
حاشا بني فاطم ما القوم كفؤهم
شجاعة لا ولا جودا و لا نسكا
ما ينقم الناس منهم غير انهم
ينهون ان تعبد الاوثان و الشركا
و كان لفاجعة كربلاء دوي هائل اهتزت له الدنيا بكاملها، حتي كأن النبي نفسه هو المقتول. و قامت الثورات في كل مكان يتلو بعضها بعضا، حتي زالت دولة الامويين من الوجود، و تمت كلمة الله بالقضاء علي الشرك المستتر باسم الاسلام، و هذا ما عناه الحسين بقوله لبني هاشم: «و من تخلف لم يدرك الفتح».
و اذا أردت مثلا يوضح هذه الحقيقة فانظر الي المظاهرات التي تقوم بها الشعوب ضد الحاكم الخائن، فان المتظاهرين يعلمون علم اليقين انه
سيطلق عليهم النار، و ان القتلي ستقع منهم بالعشرات، و مع ذلك يقدمون و لا يكترثون بالموت، لان غايتهم ان يفتضح هذا الخائن و ان يعرف العالم مقاصده و نواياه، فينهار حكمه و يبيد سلطانه، و تكون الدماء البريئة ثمنا لتحرر البلاد من العبودية و الاستغلال.
و من هنا كان لاصحابها هذا التقديس و التعظيم، تقام لهم التماثيل في كل مكان، و تسمي باسمائهم فرق الجيش و الشوارع، و تشاد الاندية و المعاهد، و يرتفع شأن اسرهم الي اعلي مكان، و من قبل لم يكونوا شيئا مذكورا.
و دماء كربلاء لم تكن ثمنا لحرية فرد او شعب او جيل، بل ثمنا للدين الحنيف، و الانسانية جمعاء، ثمنا لكتاب الله و سنة الرسول و من هنا كان لها ما للقرآن و الاسلام من التقديس و الاجلال، كما ان لدماء الاحرار ما لاوطانهم من التكريم و التعظيم، و كان لبني هاشم اسرة الحسين ما كان لاسر الشهداء الاحرار. و هذا ما عناه الحسين بقوله يوم الطف مخاطبا أهله و ارحامه: صبرا يا بني عمومتي صبرا يا أهل بيتي، لا رأيتم هوانا بعد اليوم.
و سئل الامام زين العابدين: من كان الغالب يوم كربلاء؟ فقال اسمع المؤذن تعرف الجواب. اشهد ان لا اله الا الله، و أن محمدا رسول اله، و أن عليا اميرالمؤمنين بالحق ولي الله.
اوصي الحسين أهل بيته بالصبر بعدما استشهد جميع اصحابه، و لم يبق معه الا ولده و ولد علي و ولد جعفر و ولد عقيل و ولد الحسن، و قد اجتمعوا يودع بعضهم بعضا، و هم كالزهر في مقتبل العمر.
كرام بارض الغاضرية عرسوا
فاطبت بهم ارجاء تلك المنازل
اقاموا بها كالمزن فاخضر عودها
و اعشب من اكنافها كل ما حل
زهت ارضها من بشر كل شمر دل
طويل تجاد السيف حلو الشمائل
كأن لعزرائيل قد قال سيفه
لك السلم موفورا و يوم الكفاح لي
حموا بالظبي دين النبي و طاعنوا
ثباتا و خاضت جردهم بالجحافل
و لما دنت آجالهم رحبوا بها
كأن لم بالموت بلغة آمل
عطاشي بجنب النهر و الماء حولهم
يباح الي الوراد عذب المناهل
عطاشي بجنب النهر و الماء حولهم
يباح الي الوارد عذب المناهل
فلم تفجع الايام من قبل يومهم
باكرم مقتول لا لأم قاتل