بازگشت

مجال الرثاء والتعزية


سوف نستفيد في هذا العنوان بشكل أساسي من الكتاب القيم الذي أنصح قارئي بقراءته، للشيخ الوائلي: تجاربي مع المنبر.

كانت بدايات المآتم الحسينية وما يذكر فيها من أمور مأساوية جرت في كربلاء، تحقق أمرين: تفريغ زخم اللوعة والألم الموجود في نفوس أهل البيت وشيعتهم، ونشر الظلامة الحسينية وشحن النفوس علي أثرها بالنقمة علي أعداء الحسين. وهنا تحول إلي دور رسالي رائد، ولهذا أصر أهل البيت عليهم السلام عل عقد المجالس بما يستطاع. فإنه من جهة كانت تصنع الفرد الرسالي وتربيه وكانت أيضا تهدف هدم صروح الظلم بالوسيلة المتيسرة.

ومع أن هناك من ينتقد التعاطي مع الرثاء و جانب المصيبة في المجلس إلا أنه لا بد من التعادل في الأمر فلا يصح التخلي عنه من جهة كما أنه لا ينبغي الإغراق فيه من جهة أخري.وإنما نمسك العصي من وسطها فنقف بين المصرّين عليها وعلي توسعتها وبين المطالبين بحذفها والإستغناء عنها.

ويقترح أن يتم التركيز علي الشعر القريض والمنتقي والذي يتميز بأداء حار ومستوي مرتفع، بل حتي في الشعر الدارج والعامي يوجد ما هو عالي المضامين، وجيد السبك، وفيه ما هو هابط. فلينتخب ما هو في مستوي إعلاء شأن صاحب النهضة وأصحابه ونسائه.

انظر إلي الفرق بين شعر الشريف الرضي [1] ، والسيد حيدر الحلي [2] ، والكعبي، والكواز، والقسام، والهندي [3] ، ونظرائهم وفي المقابل استمع إلي بعض ما يقرأ في المجالس حيث لا تجد غير ركة المعاني، واصطناع الألفاظ..

ثم تأمل في الصور التي يظهرها هذا الشاعر أو ذاك ويجليها في أفضل نحو.. كما نجد في ملحمة الدمستاني (أحرم الحجاج..) فقد جمع (كل الصيد في جوف الفرا) و مثلما صنع الجمري [4] في تصويره شجاعة الحسين (صوّل أبو سكنه..) والتي أبدع فيه رسم صور البطولة بقدر ما أجاد في التقاط معاني الثورة، وغيرهم ولا نريد الآن التعرض إلي كل من أجاد وأحسن. وفي المقابل مثلا الصورة التي نجدها عن الإمام زين العابدين عليه السلام وكأنه لا يدري عن شيء مما يجري حوله في المعركة، فلا هو يعلم عن الأنصار وشهادتهم ولا يعرف شيئا عن بني هاشم وقتالهم، بل كان نائما [5] ويحتاج إلي زينب أن توقظه وتخبره!! أو أنه في طريق السبي يصيح واذلاه!! أين عشيرتي؟.

ومع أن الخطيب يبحث عادة عن القصيدة شديدة الوقع علي المستمع، حتي يبكي ويحظي الخطيب والمستمع بثواب (من بكي وأبكي)، إلا أن من القصائد ما هو عالي المضمون وجيد السبك وشديد التأثير في نفس الوقت.

لا ننسي أن نشير هنا ونحن في هذه العجالة إلي أن ارتفاع المستوي الثقافي للمستمعين والذي يلاحظه الخطيب بادني تأمل، يحتاج أيضا إلي الارتفاع في مستوي الصور ـ حتي الرثائية منها ـ والتي تلقي علي أسماعهم.

كما أنه ينبغي اختيار القصائد التي تنسجم في مضامينها مع القضايا التاريخية الثابتة في السيرة، وذلك أن الشعر هو أيضا من منافذ الثقافة العامة التي تتسرب للمستمع، فأنت تجد من يعتقد بقضية والدليل عليها هو أنها قد وردت في شعر دارج قد سمعه من خطيب.. كما حدث أن سأل أحدهم عن عدد الجيش الأموي فلما قيل له أنهم حوالي ثلاثين ألفا، لم يقبل ذلك لأن العباس عليه السلام قد قتل في كل حملة عشرة آلاف كما في بعض الأشعار التي سمعها!!

وسؤال البعض عن قدوم الامام علي عليه السلام ليلة الحادي عشر من المحرم، وفي بعض الأشعار أنه كان بصورة أسد، أو وجود ابن العقيلية في الشام.. وهكذا.. وهذه كلها قضايا تحتاج إلي تحقيق.. لكنها تحولت بعدما صارت شعرا إلي جزء من السيرة الثابتة.


پاورقي

[1] محمد بن الحسين بن موسي توفي عام 406 هـ في بغداد، فقيه عالم وأشعر الطالبيين انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده، له ديوان شعر، وعدة کتب منها المجازات النبوية، وحقائق التأويل في متشابه التنزيل، و (رسائل الصابي والشريف الرضي، و خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب..

[2] حيدر بن سليمان الحلي توفي عام 1304 هـ في الحلة شاعر أهل البيت له ديوان الدر اليتيم، والأشجان في مراثي خير إنسان. وأفضل شعره حولياته في الحسين عليه السلام.

[3] تجد تراجمهم و تراجم غيرهم من عمالقة الشعر الحسيني في کتب متعددة منها (أدب الطف للسيد جواد شبر، والنجفيات للشيخ علي الخاقاني، وشعراء الحسين..

[4] عطية بن علي الجمري البحراني، خطيب حسيني وشاعر مجيد لا سيما بالدارجة، يفضل شعره علي غيره من قبل خطباء المنبر، طبع من شعره خمسة مجلدات باسم (الجمرات الودية في المودة الجمرية).

[5] هناک بعض الروايات تشير إلي أن مرض الامام زين العابدين قد حصل من مشارکته في القتال وأنه جرح حتي ارتث.. وقد نتعرض إلي تحقيقها، وملاحظة.