بازگشت

المنبر الحسيني: بين التطوير والتكلس


هناك دعوتان متطرفتان علي طرفي نقيض، ترتبطان بالمنبر والخطابة الحسينية، وثالثة نؤمن بها:

ـ الأولي: تدعو إلي إنهاء المنبر الحسيني والخطابة، من الوجود الاجتماعي، بزعم أن المنبر كان في يومٍ مؤثرا عندما لم تكن وسائل الاتصال، ونقل المعلومات كالتي نراها اليوم، فكان رواد شيعة أهل البيت عليهم السلام وقادتهم يحتاجون إلي وسيلة لإيصال ثقافتهم وأفكارهم إلي العامة، ولم يكن أفضل من المنبر الحسيني وسيلة نافعة. فهو يلهب العواطف، ويهيئ النفوس مع ذلك للإستقبال.

ويزعم هؤلاء أن المنبر الحسيني ـ وما يرتبط به من مكان وتقاليد ـ كان يخدم غرضا كيانيا في السابق، بحيث كان يمثل نقطة الاجتماع والحشد والتعبئة، لدي الطائفة الشيعية التي كانت تحيطها التحديات، فكانت تحتاج إلي محور يجتمع فيه أبناؤها ويتفاعلون معه، ولم يكن هناك أفضل من المنبر والموسم الحسيني الذي كان يخدم هذا الهدف أيما خدمة.

لكن ـ يري هؤلاء ـ بأن الأوضاع قد تغيرت، وأصبح التعبير عن الوجود، والكيان له مظاهر متعددة، ولم يعد المنبر الحسيني وما يرتبط به إلا واحدا من المظاهر تلك، وليس هو الأقوي فيها.

وبالنسبة إلي وسائل الاتصال الثقافي، تضيقت الدائرة وأصبح تناول الثقافة سهلا يسيرا مع وجود الانترنت والفضائيات، فضلا عن الكتاب..

فما كان وسيلة وحيدة في وقت أصبح اليوم من أضعف الوسائل..

ويضيفون أمورا أخري، منها عدم تأثير المنبر في سامعيه، بحيث يخرج هؤلاء المستمعون بعد المنبر ليمارسوا حياتهم الاعتيادية ضمن معادلاتهم السابقة.. وكأنهم لم يسمعوا شيئا، وهذا يدل في رأيهم علي أنه لا ينبغي الاهتمام بقضية المنبر الحسيني [1] .

والأخري: علي الطرف الآخر، تري أن المنبر الحسيني ـ بصورته الحالية بل حتي التقليدية السابقة ـ له دور عظيم في الأمة، وينبغي دعمه وحمايته، في أصل وجوده وفي هيكله المعروف وصورته القائمة، ويرون أن أي محاولة لتطويره وتحديثه تحمل ـ ولو علي المدي البعيد ـ نتيجة إنهاء المنبر. ولذا فهم يقفون من أي محاولة تطويرية موقف المعارضة أو التشكيك في غاياتها [2] .

ورأيهم في ذلك ينتهي إلي أن هناك حملة ـ أو مؤامرة ـ لتشكيك المؤمنين في ثوابتهم العقائدية، وممارساتهم الشعائرية، وأصولهم المتسالم عليها من قبل علماء الطائفة جيلا بعد جيل. والقبول بالفصل الأول يجر إلي الثاني وهكذا تتابع حبات المسبحة، ولذا ينبغي النظر إلي محاولات التجديد، والتحديث في هذا الإطار الكلي، كما يري هؤلاء.. فلا ينبغي التشجيع عليها، ولا الاصغاء إليها بل لا بد من التحذير منها، توقيا لما يحدث بعدها، وسدا للباب الذي يفتح خلفها. فاليوم يتم التشكيك في بعض روايات السيرة، وغدا في أصل السيرة الحسينية، وبعدها في الامامة.. وهكذا..

ولذا يري أصحاب هذه النظرية أن من الضروري تجنب الانسياق مع دعوات التطوير والتجديد خوفا مما ستؤول إليه.

وهناك طريق ثالث نحن نتبناه، كما يتبناه الكثير من العلماء والخطباء وأصحاب الرأي، وهو يتمثل في النقاط التالية:

1/ نحن نعتقد أن المنبر الحسيني لا يزال الوسيلة المهمة في نشر فكر أهل البيت عليهم السلام، بنحو لم تستطع سائر الوسائل الأخري بما فيها الحديثة منها (كالفضائيات والانترنت) أن تقوم به، وذلك لجهات:

ـ الأولي: سهولة تناوله من قبل جميع الطبقات الاجتماعية، بخلاف تلك الوسائل التي لا تتمكن منها سوي طبقة معينة من الناس سواء لجهة عدم توفر أدواتها، أو التزامها بنحو معين من الخطاب لا يستقطب جميع الشرائح. مثلا من لا يعرف الانترنت ولا يستخدمها لا يمكن له أن يستفيد من إمكاناتها، ولا تستطيع هذه المواقع الموجودة فيها مخاطبته. وهكذا الحال في أمر الفضائيات، بخلاف المنبر الحسيني الذي يتوفر للجميع وليس علي المرء سوي أن ينقل قدمه إلي المكان المعين.

ـ الثانية: أن الكثير من الباحثين يذكرون التوافق الجمعي، والحضور في ضمن مجموع كبير كواحد من الجهات المؤثرة في المتلقي، بخلاف ما لو كان يتلقي هذا الأمر بمفرده أو ضمن مجموعة محدودة، ولا شك أن المنابر الحسينية يتوفر فيها هذا الجو العام.

ـ الثالثة: أن المنبر الحسيني وما يحتويه من توجيه (ولائي أو أخلاقي، أو ثقافي) خط ممتد مع عمر الانسان المتلقي، فلو فرضنا أن شخصا من أتباع أهل البيت كان يحضر في المنابر كما هي عادة كثير منهم في موسم محرم ورمضان مجلسا واحدا في كل ليلة، فإن معني ذلك أنه عندما يكون في السبعين من العمر يكون قد استمع إلي أكثر من ألفي محاضرة، بما تحتوي عليه من قضايا تأريخية وأدبية وثقافية عامة، والمتعرض لهذا المقدار من المحاضرات والأحاديث لا شك سيكون ذا ثقافة مناسبة. ولعل هذا هو السبب الذي يجعل مستوي الكثير من هؤلاء برغم أمية بعضهم، أعلي من غيرهم وأفضل.

2/ إن هذه الوسيلة (المنبر) كان لها دور عظيم في الحفاظ علي تراث أهل البيت وفكرهم، إضافة إلي دورها المحوري داخل المجتمع الشيعي، ولا تزال تمتلك المقومات الكافية، للإستمرار في هذا الدور، بل يمكن دعوي دور أكبر لها، عن طريق الاستفادة من الوسائل المتقدمة كالانترنت والفضائيات.

لقد كان المنبر في الأزمنة السابقة يمارس تأثيره في حدود منطقة القريبين منه، بينما هو اليوم بفضل تقدم الوسائل قادر علي مخاطبة البعيدين، مما يعني أن بإمكانه أن يقوم بدور أكبر في استقطاب الجمهور والتأثير عليهم.

3/ إننا نعتقد أن هذه الوسيلة القوية، يمكن لها أن تكون أقوي وأفضل مما هي عليه الآن عندما تتعرض إلي عملية تطوير، وتحديث شاملة، تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها الذاتية (كونها حسينية وتخدم غرضا معينا) وأيضا الأوضاع القائمة بما فيها من مشاكل فكرية، وتستفيد من تقنيات الاتصال والتخاطب والإقناع، حيث أن الخطابة والتأثير علي المستمع أصبح علما كاملا ومتطورا، يدرس كاختصاص في الجامعات.

وإن البقاء في الحالة التقليدية، التي تُتوارث من قِبل اللاحقين عن السابقين، في الكيفيات والأساليب يعرض هذه الوسيلة إلي التراجع والاضمحلال.

هذا مع إصرارنا علي أن لا يفقد المنبر، كما سيأتي، مقوماته الأساسية ومن أهمها القضية الحسينية، والجانب الرثائي بما فيه من حرارة المصيبة، ولوعة المأساة.

ولهذا نقول: إن كلتا الدعويين اللتين ذكرتا أول الحديث غير صحيحة، لا يزال المنبر قادرا وفاعلا ـ في حدوده الطبيعية [3] التي تنتظر منه ـ بل ربما يكون أقدر من الماضي علي التأثير بما توفر له من الوسائل التي تساهم في نقله هنا وهناك.

ونقول أيضا: أن المنبر ـ كسائر الأشياء ـ ما لم يستجب للتغيير في وسائله، والتطوير في آلياته سينتهي به الحال إلي التراجع والاضمحلال، وسينهزم في معركة وسائلها عند الآخرين مطورة ومجددة، هذا مع الحفاظ علي أساسياته.. كما سيتبين في الكلمات القادمة.

إن تخوف بعض المخلصين علي المنبر من التطوير واعتقادهم أنه متي فسح المجال للتطوير في هذا الجانب فإنه بالتدريج سوف يفقد المنبر قدسيته، وسيفقد مقوماته بمرور الزمان، يقابله تخوف الكثير من المخلصين في الجانب الآخر، من أن ينتهي المنبر من التأثير في حياة الناس الحقيقية، ويتحول إلي قطعة من تحفيات العصر القديم، أو يتعامل معه كجزء من الفلولكور المنتهي. فيكون الذي ارتجي أن يعطي الحياة للمجتمعات، والتألق للنفوس، هو بنفسه يذوي ويموت!!


پاورقي

[1] في حوار جري عبر أحد المواقع في الانترنت سألني أحدهم: سمعت همساً يغضب الکثير أود أن أري تعليق الشيخ عليه (المنبر الحسيني مات، و إکرام الميت دفنه!!.

[2] يتحدث الخطيب المعاصر الدکتور الوائلي حفظه الله في کتابه تجاربي مع المنبر عن تجربة رائدة لم تتحقق في تطوير المنبر الحسيني مع أن روادها کانوا من العلماء الکفوئين منهم الشيخ محمد بن شيخ الشريعة والشيخان المظفران محمد رضا ومحمد حسين والشيخ عبد المهدي مطر وآخرون ويتحدث عن اتصالهم لهذا الغرض بالمرجعية حينئذ للاستفادة من مکان معين فاجازت المرجعية الاستفادة إلي أن تحرکت جماعات مضادة انتهت إلي سحب الاجازة، فقام رواد الفکرة باستئجار دار للغرض ذاته ولکن التحرک المضاد عاد هذه المرة بشکل أعنف انتهي إلي الهجوم علي المکان وتخريب محتوياته، وهرب القائمين عليه خوفا من الإيذاء! ويعلل الشيخ الوائلي ذلک بأمور مختلفة منها ـ ما يتصل بموضوعنا ـ أن قسما من المخالفين لهذه الحرکة التطويرية صوروا الأمر في الأذهان علي أنه محاولة لتحسين صورة بني أمية في الأذهان، والقضاء علي الشعائر الحسينية.. الي آخر ما ذکره.

[3] نقول في حدوده الطبيعية المنتظرة منه، وذلک أن قسما من الناس يتصورون المنبر الحسيني عصا سحرية، سوف تحل لهم جميع المشاکل، فهم يطلبون منه ما لا تقدر الدول علي تحقيقه!! فيتحدثون عن أنه لماذا لا تتکلمون عن البطالة؟ وکأن الحديث عنها فوق المنبر سوف يؤدي إلي تشغيل ألوف العاطلين!! ويقولون لماذا نجد أن الظاهرة الفلانية مستمرة.. هذا يدل علي أن المنبر لا يقوم بدوره؟؟ ولماذا ينتشر الفساد الخلقي؟ ولماذا يسوء السلوک الاجتماعي؟ ولماذا تضيع الذمة المالية.. الخ وهذا تحميل للمنبر ما لا يحتمل!.